18 ديسمبر، 2024 7:15 م

تونس اليوم غموض وترقب وحذر

تونس اليوم غموض وترقب وحذر

خلافاً لانتظارات (توقعات) الجميع في داخل تونس والخارج، لا يبدو الرئيس، قيس سعيّد، على عجلة من أمره، بل لعله يعتقد جازماً أن وضع الفراغ السياسي الذي تعيشه البلاد منذ 25 الشهر الماضي (يوليو/ تموز)، والذي جعله يمسك بخيوط كل السلطات بيديه، هو الوضع الطبيعي والأسلم له ولكل التونسيين .. منذ أعلن عن قراراته التي تم بمقتضاها تجميد البرلمان ورفع الحصانة عن النواب وإعفاء رئيس الحكومة، دخلت البلاد في حالة ترقّب قصوى، ليتسمرّ المشهد السياسي بوتيرة إيقاع بطيء جداً، ما ولّد إحساساً عامّاً بأن الزمن السياسي في تونس لا يحرّكه شيء، بل هو ينذر بالتوقف من يوم إلى آخر. وقد تأكد ذلك وقد انقضت مدة الشهر المسمّاة اصطلاحاً فترة الإجراءات الاستثنائية بإعلان الرئاسة، يوم الثلاثاء 24 أغسطس/ آب الجاري، في بلاغ (بيان) نصّي مقتضب على صفحتها الرسمية في “فيسبوك”، تمديد رئيس الجمهورية في الإجراءات الاستثنائية “حتى إشعار آخر” (!)، ما فجّر جدلاً واسعاً في كل الأوساط. واختلفت القراءات بشأن صيغة الإطلاق الواردة في بلاغ التمديد، تماماً كما اختلفت سابقاً بشأن مدى دستورية مقتضيات تطبيق الفصل 80 من الدستور واحترامها. وذهب بعضها إلى اعتبار ذلك رغبة ضمنية من رئيس الجمهورية في الحصول على مدة إضافية لمزيد من ترتيب أولوياته وخطواته المقبلة، باعتبار أن شهراً فقط ليس كافياً. فيما قال آخرون إن الامتناع الذي كان متوقعاً عن تحديد مدة أخرى مردّه أن سعيّد لا ينوي استيفاء مدة شهر إضافي. ولعله يسارع في الإعلان عن خريطة طريق في القريب العاجل وتعيين رئيس حكومة (أو وزير أول) أو منسق للحكومة، نزولاً عند رغبة داخلية وخارجية تضغط باتجاه العودة إلى المسار الطبيعي لسير دواليب الدولة واستكمال المسار الديمقراطي في البلاد. وفي المقابل، سارع بعض آخر إلى اعتبار أن تمديد الرئيس الإجراءات الاستثنائية، من دون تحديد سقفٍ زمني، هو قطعٌ للشك باليقين بشأن نياته في التفرّد بالحكم، وتثبيت المخاوف السابقة التي ما فتئت تطلقها أطراف سياسية عديدة وشخصيات ومنظمات وطنية ودولية.

وأمام هذا الوضع، تعيش تونس اليوم تحت وطأة الغموض والترقب، إذ لا أحد يدري على ماذا سترسو الأمور أمام شحّ المعطيات وتشتت المؤشرات، والتزام الصمت المطبق من قصر قرطاج، إذ طالما يكتفي ساكنه بأنه متعهدٌ بالبقاء في إطار الدستور، ملتزماً بتطبيق الفصل 80 منه الذي يخوّل له اتخاذ التدابير اللازمة في صورة وجود خطر داهم على البلاد، وهو خطر يراه قيس سعيّد أصبح جاثماً مجسّماً، خصوصاً في البرلمان، ولوبيات الفساد السياسي والاقتصادي، ومحاولات اغتياله شخصياً. وكان من الضروري، بحسب رأيه، القيام بما قام به يوم 25 يوليو/ تموز، إنقاذاً للدولة والتحاماً مع إرادة الشعب. ولكن ذلك كله يبقى محكوماً بقوة الزمن التي لا تتوقف، لتبقى الأسئلة الأهم تراوح مكانها، ولعل عناوينها الأبرز أين رئيس الحكومة الجديد، وقد يكون وزيراً أول أو مساعداً لرئيس الجمهورية، وكيف سيكون شكل الحكومة، تقنية أم سياسية مصغرة، وهل سيرفع التجميد عن البرلمان، وهل ستعرض عليه الحكومة لنيل الثقة؟ أم أنها ستؤدّي اليمين مباشرة في قرطاج؟ وهل سيمرّ سعيّد، وهو الأرجح، إلى تنقيح القانون الانتخابي، وأي جهةٍ ستقوم بذلك؟ أم ستتم العودة إلى الشعب، لاستفتائه بشأن نمط مسار الحكم وشكله، والنظام السياسي الذي ستُقدم عليه البلاد، الذي قد يتوج بانتخابات مبكّرة في ظل المحكمة الدستورية، وشلل الهيئة الوطنية للانتخابات وعدم اكتمال بناء بقية المؤسسات؟

شبه إجماع لدى متابعي الشأن التونسي على أن المرحلة المقبلة ستشهد انتخابات سابقة لأوانها بقانون انتخابي جديد

إزاء هذه الأسئلة وغيرها، وعلى الرغم من غياب الإضاءات الرسمية من رئاسة الجمهورية، الجهة الوحيدة التي ظلت حالياً تملك سلطة المعلومة والقرار، فإن هنالك شبه إجماع لدى متابعي الشأن التونسي على أن المرحلة المقبلة ستشهد انتخابات سابقة لأوانها بقانون انتخابي جديد، يكرس ذلك المشروع الذي أعلن عنه سعيّد في حملته الانتخابية وبعد فوزه، وهو تكريس إرادة الشعب من خلال حكم محلي، يقرّ دوائر انتخابية بمقعد واحد لكل دائرة، ويعتمد سلطة تنفيذية برأس واحد ممثلة في رئيس الدولة، على أن ينطلق انتخاب الممثلين للشعب من أصغر التجمعات السكنية باتجاه مجالس محلية فجهوية، وصولاً إلى مجلس نيابي وطني. وترديد سعيّد في هذا المجال أنه لا يمكن العودة إلى الوراء تأكيد على أن شكل البرلمان الحالي قد انتهى. وأن المسار الانتقالي برمته الذي صارت عليه البلاد منذ الثورة سيتغير كلياً. وقد رشحت تسريباتٌ تذهب إلى إمكانية اعتماد سعيد الفصل 163 من القانون الانتخابي لإسقاط القوائم الانتخابية التي تعلقت بها جرائم انتخابية مالية، أثبتتها محكمة المحاسبات، ما يعني تفريغ مجلس النواب وحله، وبالتبعية تعليق العمل بدستور 2014.

تعيش تونس تحت وطأة الغموض والترقب، لا أحد يدري على ماذا سترسو الأمور أمام شحّ المعطيات وتشتت المؤشرات

ويتأكد هذا المنحى في المضي بإحالة نوابٍ على التحقيق وإخضاع آخرين للإقامة الجبرية، فضلاً عن رفع الحصانة على الجميع. يضاف إلى ذلك كله إجماع فقهاء في القانون الدستوري على أن إعلان رئيس الجمهورية نفسه رئيساً للسلطة التنفيذية ورئيساً للنيابة العمومية، ممسكاً بكل السلطات، يعني أن البلاد قد خرجت من دستوري 2014 و1959. ولا يستبعد، في هذا السياق، أن يعلن سعيد عن تنظيم مؤقت للسلطات بوضع دستور صغير وحل المجالس البلدية والتوجه إلى اعتماد التنظيم المؤقت للحكم. مع تشكيل حكومة انتقالية لا يترشّح أعضاؤها للانتخابات المقبلة.

ويبقى السؤال الأهم: إلى أي مدى يمكن فعلاً الحديث عن استمرارية الدولة في ظل الغياب المتواصل تقريباً لكل مؤسّساتها، وفي مقدمتها حكومة فعلية تضمن السير العادي لكل المرافق، وتباشر معالجة كل التحديات، ومجلس نواب يؤدي دوريه، التشريعي والرقابي، في ظل شحّ المالية العمومية وغياب توازناتها ومواردها، ومكافحة جائحة كورونا، وتلبية حاجات المواطنين، وغياب الاتفاق مع صندوق النقد الدولي، والتصدّي لمديونيةٍ قصوى؟ هل تكشف الأيام المقبلة عن أجوبة لهذا السؤال، وعن استراتيجيات لمجابهة هذه التحدّيات وانتعاشة لإيقاع الزمن السياسي واستئناف لحياة سياسية واقتصادية واجتماعية عادية؟ أم سيظل الزمن السياسي متوقفاً إلى “إشعار آخر”؟

لماذا تؤيدون “طالبان” وتعارضون قيس سعيّد؟ لماذا ترفضون الحوثي وتقبلون “طالبان”؟ سؤالان قد يكون الغرض منهما تعويم انقلابي سعيّد والحوثي أو مهاجمة الإسلاميين الذين تعاطفوا مع حركة طالبان، والإجابة عنهما تسهم في إزالة التشويش الذي قد تنفذ منه الثورة المضادّة لترويج مشروعها الدموي الانقلابي المعادي للديمقراطية.

ابتداءً، لا علاقة لحركة طالبان بالديمقراطية، هي حركة إسلامية متشدّدة، لم تكن تسعى إلى الحكم، وكان مؤسّسوها جزءا من المشروع الجهادي الذي انتصر على السوفييت، وابتعدوا عن مغانم الانتصار راضين بالتفرّغ لطلب العلم الشرعي وفق الطريقة التقليدية، واضطروا لامتلاك السلطة بعد فشل حكومة المجاهدين؛ يعني هم انقلابٌ على “الحركة الإسلامية” التي كانت تتنازع السلطة على كابول، سواء شقّها الطاجيكي؛ الجمعية الإسلامية بقيادة أحمد شاه مسعود وبرهان الدين رباني، أم شقّها البشتوني برئاسة قلب الدين حكمتيار.

سيطرت الحركة، في نسختها الأولى على أفغانستان، بقوة الجذب، لا بقدراتها العسكرية المحدودة، ومنحت الناس ما كانوا يفتقدونه من أمن معيشي واستقرار، ولم تكن الديمقراطية القضية المحرّكة للأفغان. الدين والهوية هما القضية الأولى في مواجهة الاحتلال السوفييتي، وقبله البريطاني، ولاحقا الأميركي. القضية في أفغانستان هي بناء الدولة، وبعدها يختار الشعب نموذجه في الحكم، سواء العودة إلى الدستور القديم الذي انقلب عليه الشيوعيون، أو صياغة دستور توافقي من دون احتلال أميركي.

عندما تؤيد حركة تحرر في مواجهة احتلال لا يعني أنّك تؤيد برنامجها في الحكم، سواء كانت الحركة في فلسطين أو فيتنام أو لبنان. من أيدوا حزب الله في تحرير جنوب لبنان وحرب تموز هل يتفقون مع ولاية الفقيه؟ من أيد الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين هل أيدوا فكرها الماركسي؟ من يؤيدون حركة حماس في حروبها هل يؤيدون برنامج الإخوان المسلمين في الحكم؟ الإجابة عن ذلك كله: ليس بالضرورة.

لم يقد قيس سعيّد حركة تحرّر وطني، مثل بورقيبة في تونس وبومدين في الجزائر. على العكس هو يصف الاحتلال الفرنسي بالحماية. ولم يناضل في حزب، بل كان ذراعا قانونية لاستبداد بن علي. جاء على النموذج الوحيد للتحول الديمقراطي عربيا ودمّره، وفق برنامج شعبوي غامض ينتمي لفكر القذافي. وبلغت به الشعوذة إلى اعتبار البرلمان خطرا على الدولة! مع فارق كبير عن “طالبان” بأنها حركة لها هيئاتها ومؤسساتها، ويمكن الحوار معها والجلوس إليها. سعيّد وحده لا شريك له في السلطة والقرار. ولا يُعرف من يشاور ومن مكتبه السياسي، هو الدولة وهو القضاء وهو الجيش وهو البرلمان. دكتاتور شعبوي كامل الأوصاف، خصوصا عندما يذهب إلى المخبز ويصفّ على الدور، مرهقا ميزانية الدولة في تأمين حراسة تحرّكاته الشعبية.

خطورة تزامن انقلاب سعيّد مع الانتصار الطالباني هي على الإسلاميين الذين فشلت أكثر نسخهم حداثةً وتوافقيةً، ممثلة بحركة النهضة، ونجحت أكثر النسخ تشدّدا. وهذا يتطلب جهدا إعلاميا وسياسيا وفكريا، للردّ عليه، فحركة النهضة تشبه شركة “نوكيا” التي عملت كل متطلبات النجاح، وتراجعت في سوق الهواتف الجوالة. توجد مآخذ على “النهضة” عموما، وعلى الشيخ راشد الغنوشي خصوصا. لكنها بمقياس عادل بعيد عن الهوى، عملت فوق طاقتها لإنجاح المسار الديمقراطي في تونس، ولم يكن انقلاب سعيّد واردا في أسوأ الكوابيس.

أما الحوثي فهو يجتمع مع سعيّد في إجهازه على مشروع التحوّل الديمقراطي في اليمن، واستغلال الأزمة الاقتصادية لتمرير انقلابه، لكنّه أسوأ، لاعتماده على قاعدة مذهبية جهوية تمزّق اليمن، وكلاهما أسوأ من الآخر في الإضرار بوحدة البلاد وتحوّلها الديمقراطي.

ليس معقدا ولا صعبا أن تعارض أفكار “طالبان” وتعارض الاحتلال الأميركي، وتعارض انقلابي قيس سعيّد والحوثي. الدرس الأساسي الذي على سعيّد أن يتعلمه أن أفغانستان تدفع إلى اليوم كلفة انقلاب ابن عم الملك (في 1973) الماركسي الذي صدّق نفسه وعطل الدستور وأمسك بمفاصل الدولة. وعلى قول ماركس: “التاريخ يعيد نفسه مرّتين، مرّة على شكل مأساة وأخرى على شكل مسخرة” وها هي المسخرة نشاهده.