يتميز عالم السياسة، حاله في ذلك حال بقية مناحي الحياة الطبيعية، بالتغير والصيرورة المستمرة، والتحول من حال الى حال بحسب متطلبات وضرورات التطور والتغيير والتحديث، التي ألمت بالحياة المعاصرة للبشرية؛ وتقف النظريات العلمية، وحراك المؤسسات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، وسط هذا الزخم المتعاظم من الحركة الذاتية المحورية، والحركة الانتقالية التطورية، موقفين متباينين، فالبعض منها كان يمثل دور الثبات طلبا للاستقرار، فنجده يبدأ منهجه بثورة جديدة، ومن ثم بالتدرج تصاب ادواته بالخمول والرتابة والتقوقع، بل والعجز عن مجارات مشاكل الواقع .
النمط الثاني هو النمط الثوري المتحرك، الذي يؤمن بضرورة استيعاب التغيرات الطارئة في المجتمع والحياة والسياسة والاقتصاد والعلوم الطبيعية، فيحاول ان ينبثق من ثنايا النمط الاول، دافعا بالاطر الكلاسيكية للتعاطي الفكري والعلمي الى الخلف،محاولا ايجاد ادوات جديدة وصحيحة منبثقة من الاسس الفكرية والأيديولوجية المؤسسة، تمكنه من استيعاب المشاكل المستحدثة التي لا مكان لحلها في النمط القديم !
بين هذا وذاك، نجد فيلسوف العلم المعاصر توماس كون يقف في كتابه المشهور (بُنية الثورات العلمية)، موقفا مؤسسا لنمط جديد من انماط
التفكير العلمي، والذي احدث ثورة كبيرة ، عصفت بكل أطر وانماط التفكير العلمي، في كل المجالات العلمية والاجتماعية والسياسية؛ حيث يذهب كون الى ان الثورات السياسية تبدأ بشعور الناس، والذي غالبا ما يكون محصورا في قسم من المجتمع السياسي، بأن المؤسسات القائمة توقفت عن ايجاد الحلول الكافية للمشكلات البينية، التي تتنامى نتيجة الازدياد في التعقيد.
ان المؤسسة السياسية القائمة على نظرية أيديولوجية معينة في وقت من الاوقات، تصبح نموذجا مقبولا ومستوعبا لحل المشاكل السياسية المطروحة في المجتمع؛ هنا يرى كون أنه ، وبعد فترة من الزمن، تتحول الادوات المنهجية لتلك الاسس الفكرية والنظرية التي تقوم عليها تلك المؤسسات السياسية الى عامل أزمة، تمثل عجز هذه الادوات والمناهج التابعة لتلك الاطر النظرية، عن ايجاد الاجوبة الكافية التي يمكن لها ان تتطابق مع الواقع المعاش، بدل ان تكون عامل حل لأزمات ذلك الواقع، وذلك نتيجةً لصعوبات اداتية ومنهجية، تواجهها أطرها النظرية التأسيسية، بحيث تعجز من خلالها عن استيعاب هذه
الصعوبات.
في البداية يقوم المختصون في هذه المؤسسات والمنظرين لها، بالالتفاف على هذه الصعوبات عن طريق عمل الكثير من التلفيقات وإيجاد المبررات في اطرها النظرية، ولكن هذه التلفيقات تعجز عن رقع ثقب المشاكل الواقعية والعملية، والتي تعجز البنى النظرية لتلك المؤسسة السياسية من إيجاد حلول استيعابية لها؛ ويرى كون انه ومن رحم تلك المؤسسات السياسية، تنبع ثورة تغيرية، تحاول قراءة الأسس التكوينية لتلك المؤسسة السياسية، بطرق وأساليب ومناهج جديدة، لا تتقاطع مع الأسس البنائية التأسيسية، ولكنها تتميز بانفتاحها على المشاكل المستجدة للواقع العلمي والمجتمعي والسياسي؛ ويرى كون بان مثل هذا النوع من الثورة التغيرية، يقوم بها عادة الشباب، ويرفضها الشيوخ !
لقد أثبتت تجارب التأريخ، بأن من النادر تحقيق النجاح في إقناع “الجيل القديم” من القدماء، بالنظريات التغيرية الجديدة، وذلك ربما لان الحس الثوري قد انتهى لديهم او أنهم أصبحوا ينتمون للسائد وتماهوا معه وأصبح يعبر عنهم !! يقول فيلسوف العلم المعاصر ماكس بلانك “لا تفوز الحقيقة العلمية الجديدة عن طريق إقناعها خصومها وجعلهم يرون النور، بل لأن خصومها سينتهون بالموت، وأن جيلا جديدا سوف يترعرع ويألفها” !
حركة التطور والتغيير الطبيعية، أوجبت قيام حراك سياسي فكري في العراق، انقسمت أطرافه بين نوعين: نوع يرى بان المؤسسات السياسية القديمة، القائمة والمتأسسة على منهج المعارضة والمقاومة والممانعة، هي المؤسسات الأصيلة التي يمكن لها أن تحمل مشروع يمثل روح الصالح العام، وعمق الإسلام الصحيح؛ وهذا المنهج يحاول أصحابه دوما الدفاع عن أدواتهم المنهجية في التعاطي مع المشاكل السياسية.
النمط الثاني، هو النمط الذي فرضه وسيفرضه واقع جماهيري وشعبي معاش، فرضته مشاكل بدأت تتفاقم وتتحول وتنشطر، بحيث أصبح منهج المدرسة القديمة غير قادر على استيعابها فضلا عن إيجاد الحلول لها، او النظر في تفاصيلها المتشابكة المعقدة، فاندفع هذا النمط الثاني بقياداته الشابة نحو التأسيس لأطر وأدوات جديدة، تحاول النجاح في استيعاب تطور العقلية والوعي السياسي لدى الفرد العراقي، وتحاول الموائمة مع مستجدات العصر، دون ترك أسسها وجذورها وبنيتها التأسيسية.