18 ديسمبر، 2024 11:17 م

تولستوي و دستويفسكي

تولستوي و دستويفسكي

كلاهما عاشا وأبدعا في النصف الثاني من القرن التاسع عشر في روسيا وأصبحا اسمين بارزين في دنيا الادب والفلسفة , وكلاهما يمثلان الآن ( ونحن في القرن الحادي والعشرين) روسيا امام العالم المتحضّر , وكلاهما يقفان في طليعة الفكر العالمي , وكانا بالطبع يعرفان بعضهما البعض عن بعد ويتابعان نتاجاتهما التي تنشر, ولكنهما لم يلتقيا مع بعض بتاتا طيلة حياتهما, وكم تأسف تولستوي في حديثه مع أرملة دستويفسكي لانه لم يلتقيه اثناء حياته (كما أشارت ارملته في ذكرياتها عن اللقاء , الذي جرى بينها وبين تولستوي بعد وفاة دستويفسكي) , وكان هذا اللقاء يمكن ان يحدث في بطرسبورغ , عندما كانا كلاهما ( تولستوي ودستويفسكي) حاضرين في جلسة واحدة , حيث القى محاضرته المفكر الروسي سولوفيوف الشاب آنذاك (و الذي سيرتبط اسمه لاحقا بالرمزية الروسية ). لقد قال تولستوي لارملة دستويفسكي , ان ستراخوف ( وهو الصديق المشترك لكليهما ) لم يعرّفهما مع بعض عندئذ, ولكن ستراخوف قال , ان تولستوي كان في زيارة عمل ببطرسبورغ , وانه اشترط على ستراخوف الا يقدمه الى اي شخص اثناء تلك المحاضرة . وهكذا ضاعت ( بالنسبة لتاريخ الادب الروسي) فرصة اللقاء التاريخي بين هذين العملاقين.
الحديث عن تولستوي ودستويفسكي معا حديث قديم في مسيرة الدراسات المقارنة في الادب الروسي وفي الادب العالمي ايضا , وقد ابتدأ منذ نهاية القرن التاسع عشر , ولازال مستمرا لحد الآن , ويكفي ان اذّكر القارئ الكريم بالكتاب الذي نشره ميرشكوفسكي بعنوان – ( تولستوي ودستويفسكي ) الصادر عام 1902 في موسكو ( انظر مقالتنا بعنوان – الاديب والفيلسوف الروسي ميرشكوفسكي) حيث توقفت عند هذا الكتاب , الذي تناول فلسفة الكاتبين والمقارنة بينهما, اذ أشار ميرشكوفسكي هناك الى انهما يجسّدان العلاقات غير المتكافئة وحتى المتناقضة الى حد ما بين حقيقتين كبيرتين في الفكر الروسي , والتي يمكن ان نسميهما ( حسب ميرشكوفسكي واجتهاداته ) – حقيقة الاله , وحقيقة الانسان . الحقيقة الاولى يجسّدها دستويفسكي , والثانية يجسّدها تولستوي , وكلاهما ( الحقيقتان) ضرورية للانسان ومسيرة حياته وعلاقاته المتشعبة في المجتمعات البشرية على الارض.
استمرت الدراسات المقارنة بين الاديبين الكبيرين في مسيرة الفكر الروسي , الى ان حدثت ثورة اكتوبر1917 , والتي اصبح دستويفسكي بعدها ضمن قائمة الادباء والمفكرين ( المغضوب عليهم !) , ولكن تلك المقارنات ازدادت في الاوساط الروسية خارج روسيا , اذ استخدم اللاجئون الروس عندها اسم دستويفسكي رمزا لحملاتهم ضد ثورة اكتوبر , ولنتذكر الفيلسوف الشهير بيرديايف مثلا ( انظر مقالتنا بعنوان – بيرديايف ودستويفسكي) , ولكن عندما خفتت مسيرة الاحداث (الطنانة والرنانة!) بعد وفاة ستالين في الاتحاد السوفيتي و بدأت مرحلة ( ذوبان الجليد !) كما استقر هذا المصطلح الطريف في تاريخ الفكر الروسي و العالمي , عاد دستويفسكي الى الحياة الفكرية الروسية من جديد ( بل وانتصب تمثال كبير له امام مكتبة لينين بالذات في قلب موسكو . انظر مقالتنا بعنوان – تماثيل دستويفسكي ) , وبالطبع , عاد الحديث عن المقارنات الفكرية بين دستويفسكي وتولستوي في روسيا مرة اخرى وبحيوية واضحة جدا . ومن غير الممكن التوقف عند سلسلة هذه الكثرة الكاثرة من الكتب والبحوث والمقالات والتعليقات المتنوعة جدا , التي تتناول المقارنة بين هذين العملاقين ونتاجاتهما وتأثيرهما على المجتمع الروسي المعاصر , ولكننا نريد الاشارة هنا فقط الى نقاش حاد وطريف جدا جرى عام 2016 ليس الا في روسيا حولهما . لقد كتبت الصحافية الروسية ليزوكينا مقالة بعنوان – ( تولستوي ودستويفسكي – كلاسيكيان لا يستسلمان ) , تناولت فيها موقف رئيسة الجمعية الروسية للتأليف فيربيتسكايا حول هذين الاديبين في المناهج المدرسية بروسيا, اذ دعت رئيسة الجمعية الى حذفهما من تلك المناهج , لان عقل التلاميذ غير مؤهل لاستيعابهما . وتهاجم الصحافية رأي رئيسة الجمعية هذا , وتعتبره غير صحيح بتاتا , وتدعو الى اعادة النظر ليس في مفردات المناهج , وانما في الاسلوب السائد في نظام التربية المدرسية, وفي الطريقة التلقينية التي يقوم بها المعلم اثناءعملية تدريس هذه المواد , وقد أثارت هذه المقالة ردود فعل كثيرة ومتنوعة جدا لدى القراء , وكلها كانت تؤيد رأي الصحافية المذكورة .
ختاما لهذه المقالة الاوليّة والوجيزة جدا, اريد ان استشهد بما كتبه تولستوي , عندما علم بوفاة دستويفسكي . لقد جاء في رسالة تولستوي الى صديقه ستراخوف بتاريخ 5 شباط / فبراير من عام 1881 ما يأتي – ( لم أر هذا الانسان , ولم تكن لديّ علاقات مباشرة معه , وفجأة, عندما مات , فهمت بانه كان أكثر الناس قربا , وعزيزا وضروريا لي … … لقد كنت أعتبره صديقي, ولم افكر بشكل آخر , واننا سنلتقي , ولكن الان لن يحدث ذلك …… لقد انفصل سند من كياني ….. بعدئذ اصبح واضحا , كيف كان غاليا بالنسبة لي , وبكيت , وانا أبكي الآن …).