23 ديسمبر، 2024 5:14 م

تولستوي في ذكريات معاصريه

تولستوي في ذكريات معاصريه

اقتنيت كتابا روسيا في مخزن الكتب القديمة عنوانه – ( تولستوي في ذكريات معاصريه ). الكتاب صادر في موسكو عام 1955 عن دار نشر ( الادب الفني ) السوفيتية المعروفة آنذاك , ويقع في ( 504) صفحة من القطع المتوسط , وقد طبعت دار النشر تلك 50 الف نسخة منه. يضم الكتاب 39 مقالة عن تولستوي كتبها اناس عاصروه وعرفوه عن قرب, وتناولت مختلف جوانب حياته وابداعه, وهناك ملحق في الكتاب يضم ملاحظات حول الاسماء والاحداث المرتبطة بتلك المقالات. لقد اصدرت دار النشر هذه سلسلة من الكتب تحت نفس العنوان شملت كبار ادباء روسيا, وأشرف على هذه السلسلة اربعة من اساتذة الادب الروسي المعروفين ,منهم البروفيسور غودزي رئيس قسم الادب الروسي القديم في كلية الاداب بجامعة موسكو عندما كنت انا طالبا في الصف الثاني في تلك الكلية عام 1961, وتذكرت المحاضرات التي القاها علينا طوال الفصل الاول حول الادب الروسي القديم.
قرأت  الكتاب بمتعة كبيرة و اقتنعت تماما انه لم يفقد قيمته العلمية واهميته رغم مرور حوالي 60 سنة على اصداره , ولهذا اود ان اكتب بعض السطور عنه , لتعريف القارئ بهذا الكتاب المهم حول تولستوي – الانسان والفنان.
نجد في بداية الكتاب مقالة الفنانة الروسية ريجوفا وهي بعنوان– ( تولستوي في مسرح ماللي تياتر) ( المسرح الصغير ) , والذي نشرته عام 1928 في مجلة ( تياتر) ( المسرح) السوفيتية, والفنانة ريجوفا هي ممثلة في مسرح ماللي تياتر منذ عام 1893 وحازت على لقب ( فنانة الشعب السوفيتي) عام 1937, وقد أدٌت دورا بارزا في مسرحية تولستوي ( سلطة الظلام) عندما تم عرضها في ذلك المسرح , وتتحدث المقالة عن انطباعات الممثلة عندما زار تولستوي  المسرح وقرأ للممثلين نص مسرحيته تلك , وتتوقف عند فن الالقاء  لتولستوي وملاحظاته للممثلين ومتابعته للعرض المسرحي واهتمامه بكل التفاصيل المرتبطة به. لا يمكنني بالطبع ان اتحدث حتى في اطار هذا العرض الوجيز عن كل مقالات هذا الكتاب ,والتي أشرت اعلاه الى عددها, اذ ان ذلك يعني ان مقالتي ستأخذ حيزا غير اعتيادي تماما, لهذا فاني ساقدم للقارئ عناوين بعض المقالات ليس الا ومضامينها العامة.
المقالة ا لاولى التي اود ان اتوقف قليلا عندهاهي بعنوان – ( يوميات ) بقلم لازورسكي, والمستلة من كتاب ( الميراث الادبي) الصادر في موسكو عام 1939, وكاتب هذه المقالة فلاديمير فيودوروفيتش لازورسكي ( 1869-1943 ) هو بروفيسور في قسم الادب الاوربي – الغربي بجامعة اوديسا  في الامبراطورية الروسية آنذاك,وقد كان ضيفا عام 1894 لدى تولستوي في ضيعته ياسنايا بوليانا لتدريس ابنائه اللغتين الاغريقية واللاتينية , وقد كتب يومياته هناك اعتبارا من تاريخ 14 حزيران/يونيو 1894,واستمرت علاقاته بتولستوي الى عام 1900, واختتم يومياته تلك بتاريخ  6 نيسان/ ابريل من عام 1900. تشغل هذه المذكرات  35 صفحة من الكتاب وتتناول بالتفصيل احاديث تولستوي معه في شتى المواضيع , وبالاساس طبعا المواضيع الادبية , حيث يتناقش الاثنان حول الادب العالمي والروسي ,ويجري الحديث عن شكسبير والرأي السلبي عند تولستوي عنه , وعن قراءات تولستوي للادب الفرنسي باللغة الفرنسيةواعجابه الشديد بفيكتور هيغو وجان جاك روسو, ويتوقف كاتب المقالة عند الف ليلة و ليلة  والتي  يسميها الحكايات العربية ويتحدث كيف ان تولستوي حكى للجميع  واحدة من تلك الحكايات عندما حولت الساحرة احد الامراء الى حصان, ويشير الى ان تولستوي كان يعشق هذه الحكايات ويثمنها عاليا, ويدعو الاخرين الى مطالعتها وخصوصا الشباب لانها تعلمهم القيم والحكمة و ترشدهم,بل وحتى كان يرى انها اهم من قراءة مقالات مثل (ما هي الليبرالية). ونجد في ثنايا هذه المقالة آراء تولستوي حول الادباء الروس ايضا, اذ يتحدث فيها عن دستويفسكي مثلا وينتقد بطلة روايته ( الجريمة والعقاب) سونيا ويعتبرها غير واقعية رغم انه يعتبر الرواية تحفة فنية وخصوصا بدايتها, ويتوقف عند الناقد الادبي بيلينسكي ويقول عنه انه كتب اشياء جيدة في مجال النقد الادبي , ولكن اذا نقوم بترجمته الى اللغات الاجنبية فلن يعجبهم لان ما يكتبه هو ممل وابتدائي, مؤكدا ان الادب الروسي كان دائما اعلى من النقد الادبي في روسيا , ويذكر اسم بوشكين مثلا على مايقول .
المقالة الاخرى التي اود ان اتوقف قليلا عندها هي ما كتبه مكسيم غوركي بعنوان- ( ليف تولستوي ), والمستلة من مجموعة مؤلفات غوركي/ الجزء الرابع عشر, والتي صدرت في موسكو عام 1951. لقد كتب غوركي ملاحظاته وخواطره تلك عندما كان يختلط بتولستوي في عامي 1901 و1902 , وينهيها برسالة كتبها الى كورولينكو بعد سماعه بهروب تولستوي من منزله ثم وفاته في احدى محطات القطار, علما انه لم يستطع ارسال هذه الرسالة اليه في حينها, وقد نشرها غوركي  رغم انه لم يستطع اكمالها, وتشغل هذه الملاحظات والرسالة 47 صفحة من الكتاب . لا يمكن بالطبع اختصار الافكار التي جاءت في مقالة غوركي تلك , وهي تستحق ان نترجمها كاملة الى العربية لانه رسم فيها صورة فكرية لتولستوي متنقلا بين آرائه الدينية والفلسفية والادبية , وبشكل حيوي ومتنوع , اذ انه وضع ملاحظاته تحت ارقام ( بلغت 44 رقما ) مما اعطاه حرية الكتابة والانتقال بين المواضيع المختلفة دون الالتزام الصارم والدقيق بمسيرة الحدث وخصائصه و الذي كان يتناوله او يتحدث عنه, وهي صيغة ناجحة جدا لرسم صورة قلمية لاديب ومفكر كبير مثل تولستوي.
يحتوي الكتاب على مقالات اخرى تستحق ان اتوقف عندها بلا شك , ولا يمكن الا ان اشير اليها في ختام هذا  العرض السريع والوجيز جدا, ومنها – مقالة المسرحي المعروف نيميروفيتش – دانجنكو( ذكريات عن تولستوي ),والذي طلب من تولستوي مسرحيته ( الجثة الحية ) لتقديمها على خشبة مسرح موسكو الفني, ومقالة الكاتب الروسي الكبير كورولينكو – ( حديث مع تولستوي )والتي نشرت عام 1922 وتناولت موقف تولستوي من الاغتيالات السياسية في روسيا بداية القرن العشرين , ومقالات سيرغيينكو العديدة عن تولستوي ,هذا الانسان الذي كان قريبا جدا منه , والذي ضم الكتاب مقالاته مثل – ( تولستوي والاطفال ) و ( كيف تمت كتابة وصية تولستوي ) , ومقالة ابن تولستوي – ( الموسيقى في حياة ابي), ومقالة ماكوفيتسكي – ( مرض وموت ليف نيقولايفتش تولستوي ) وهو الذي رافق تولستوي في الايام الثلاثة الاخيرة بعد هروبه من بيته.
والخلاصة, فان كتاب ( تولستوي في ذكريات معاصريه ) الصادر في موسكو عام 1955 هو وثيقة في غاية الاهمية للتعرف على ( كاتب الارض الروسية العظيم )كما يسمونه والتعمق في دراسةابداعه.