23 ديسمبر، 2024 6:42 ص

توظيف الأسطورة في رواية ” أخناتون ونيفرتيتي الكنعانية ” للروائي صبحي فحماوي

توظيف الأسطورة في رواية ” أخناتون ونيفرتيتي الكنعانية ” للروائي صبحي فحماوي

تعد ّ الأسطورة المغامرة الأبداعية الأولى التي أبتكرتها المخيلة البشرية من المغامرات التي كانت صدى للواقع المعرفي والجمالي والتطور الإدراكي للإنسان , وشكلت جزءا ً مهما ً من حياة الشعوب وطقوسهم وعبرت ّ عن ثقافتهم ويؤكد الكاتب ” علاء الدين محمود” بأن نشأة الأسطورة هي من محاولات الإنسان لإقامة علاقة مع الطبيعة من حوله , كانت تلك هي أولى محاولة لتفسير الأشياء والظواهر , وهذا ما جعل الأدب يحتضن الأسطورة بكل رحابة وحماس .
إن التاريخ العربي حافل بتلك الأساطير والمحكيّات الخرافية القديمة , كان لا بد أن تستلهمه الرواية العربية الحديثة , وهناك عدد من الأعمال الروائية الكبيرة والمميزة التي صنعت حالة سردية مستمدة من الفضاء الأسطوري منها رواية ” عودة الروح ” لتوفيق الحكيم التي تتحدث عن الأساطير المصرية القديمة فيما يتعلق بالموت والحياة , وكذلك رواية ” إيزيس وأوزوريس ” لعبد المنعم محمد عمر , و ” مارس يحرق معداته ” لعيسى الناعوري , و ” نرسيس ” لأنور قصيباتي وغيرها , ثم كان التتويج والتناول الخلاق للتراث من قبل” نجيب محفوظ” .
من هنا نجد الروائي ” صبحي فحماوي” يستلهم الأساطير في معالجة قضايا الإنسان العربي في زمن التمزق والتشظي والاغتراب وسيادة العزلة والوحدة والحياة الفردية في روايته ” أخناتون ونيفرتيتي الكنعانية ” .**
نرى أن عتبة الرواية تعتمد في تقنيتها على ” منظار الزمن الصيني ” المتطور لدرجة إنه يعطي السارد فرصة مشاهدة الصور وسماع أصوات الزمن الماضي وذلك ببرمجة علمية لا يعرف تفاصيلها غير مخترعيه , يقول الروائي صبحي فحماوي في أحد لقاءاته :
” إنني لا أكتب كتاب تاريخ , ولكنني أسرد رواية عشق جمالية تقدم فكرا ً يكتنفه الخيال , وهذا إبداع وليس كتاب تاريخ لا يلتزم بحرفيات المكتوب سابقا ً , وإنما يقدم فكرا ً جديدا ً ” .
في ختام القرن الخامس عشر قبل الميلاد وصلت مصر الى قمة المجد فإتسعت رقعتها , وامتد نفوذها من أعالي دجلة والفرات شمالا ً الى ” بناتا ” عند الشلال الرابع جنوبا ً , وصارت مهيبة الجانب ونافذة الكلمة , يذعن لقوتها وبطشها أرباب التيجان وأصحاب الدول , ويسعى كل عاهل في الشرق الى أن يخطب ودها ويفوز برضاها.. كان أهلها في رغد من العيش , ينعمون بحياة ناعمة ويتمتعون بخير كثير جاءهم من تلك الممتلكات المترامية الأطراف التي تتبع بلادهم وتفيض من خيرها عليهم .
و” صبحي فحماوي ” بصفته روائيا ً معلوماتيا ً عربيا ً استطاع ” بمنظار
الزمن ” أن يشاهد ما يريد من أحداث الماضي، ويكتب رواية معلوماتية تسرد ما يبحث عنه من أحداث الزمن السحيق , لا يعرف السبب الذي دعا لإدارة ” منظار الزمن ” لإعطاءه الإطلاع على هذا المنظار الزمني والذي يجعلك تستطيع مشاهدة أي ّ زمن ماض ٍ تريد استرجاعه , من هنا عاد بنا الى عصر الأمبراطور” أمنحتب
الثالث” وزوجته الملكة ” تيي “وابنه ” أمنحتب” أخناتون عاشق الجميلة “نيفرتيتي” للتعرف على قصة حبهما ولمشاهدة معركة ” مجدو ” الشهيرة والتعرف على مسبباتها وبداياتها ونهاياتها , هكذا أوصلنا ” منظار الزمن” الى ذلك العصر الكنعاني الفرعوني المجيد .

تقوم الرواية في بنائها على أماكن وأحداث ثيمية وأسطورية ولغة رمزية , فالشد الأول في المشهد يتناول قصة حب شهيرة للأمير ” أمنحتب ” أخناتون أبن الأمبراطور المصري ” أمنحتب الثالث ” والأميرة الكنعانية ” إلهام ” نيفرتيتي أبنة ” رافائيل ” ملك مملكة ” مجدو ” , بينما كان الملك الكنعاني ” رافائيل ” يتفاوض مع ملك مصر العظيم ” أمنحتب الثالث ” حول تفاصيل العلاقة المتأزمة بين مصر والممالك الكنعانية , كان الأمير الفرعوني ” أمنحتب ” أخناتون يشاهد فتاة تسبح في وسط بحيرة الشط، الخليلية فاعتقد أنها تغرق، فخلع ملابسه وغطس لينقذها , وبعد جلوسهما على الشط، شدهما الجمالية الفائقة لكل منهما أمام الآخر , وكانت الإيجابية هي التي أوثقت العلاقة، كونهما يؤمنان بأن الشمس هي القوة الأعظم المسيّرة للحياة على الأرض سواء النباتية أو الحيوانية.. كانت الأميرة إلهام ” نيفرتيتي ” تحمل بيدها تمثالا ًصغيرا ً لإله الشمس الهندوسي واسمه ” سوريا ” وكان أخناتون يؤمن بالإله المصري ” رع آتون الشمس ” فكان الانتماء إلى الشمس هو سر استلطافهما لبعضهما بعضاً.. وقبل أن ينتهي هذا اللقاء الجميل، سألته سؤالاً أخيرا :
” ما دمنا نفكر بهذه الإنسانية الرائعة، والمحبة المتبادلة , وما دمت أنت ولي عهد ملك مصر، فلماذا هذه المشاحنات بين شعبينا , ولماذا تزداد قسوة الفراعنة على أبناء شعبنا في هذه السنوات العجاف , وذلك بابتزازهم، واستغلال طاقاتهم التي أتفقنا على إن مصدرها هو إلهنا الواحد ” آتون الشمس ” الذي يعطي الطاقة للجميع بلا تمييز ؟
لماذا نجد عندكم التمييز بين حاكم ومحكوم , بين سيد ومسود , وبين فرعوني وكنعاني؟
كانت تودع فارسها الفتي ّ وعيناها تدمعان وهما معلقتان به، فتجد نفسها تترك بين يديه تلك التحفة النادرة التي أعطتها إياها أمها وهي تمثال ” شاباس الشمس ” الذي يوحدهما دينيا ً وهي تقول له : ” لعل شاباس إله الشمس هذا يذكرك بي ذات يوم ” .
يقول الروائي صبحي فحماوي في حوار خارج النص:
” التاريخ المكتوب حاليا ً رسمه الغرب لنا بعد أن أحرقوا مكتبة الأسكندرية التي كانت مستودع كتب العلمية والثقافية والأدبية , وتحوي كل كتب العالم في تلك الأيام , فأزالوا اللغة الهيروغليفية واللغة الكنعانية العربية , ولم يبقوا لنا شيئا ً نستند عليه كمرجع حقيقي للأحداث ثم جاءوا ليرسموا تاريخنا كما يشاؤون بصفة أن المنتصر هو الذي يكتب التاريخ كما يشاء ” .
بعد ثلاثة أعوام من ذلك اللقاء اشتد تمرد الممالك الكنعانية على مملكة مصر الفرعونية , فيشاهد القائد الكنعاني ” رافائيل ” ملك مجدو يقف أمام قادة جيوش الممالك الكنعانية القادمين كل من الممالك الكنعانية، وهم يحملون تابوت العهد الكنعاني وذلك إيمانا ً منهم إن الإله ” إل ” يرافقهم حيث يمضون , وينصرهم على من يعادون وليكون شعارهم؛ ” تقديس الموت بهذا التابوت وهم يدافعون عن الوطن ” لمواجهة قوات ” أمنحتب الثالث ” فرعون مصر، بقيادة ولي العهد ” أمنحتب ” أخناتون .
كان ” رافائيل ” ملك مجدو يعطي إبنته الأميرة ” إلهام ” الحرية الكاملة في إبداء الرأي حول الشؤون المدنية وكذلك المشاركة في التخطيط للمعارك العسكرية للمملكة .
صارت الحرب حقيقة واقعة , إذ تواجه الجيشان وجها ً لوجه , الفرعوني من الجهة البحرية، والكنعاني من جهة السهول المحيطة بمدينة مجدو .. ولبدء المعركة تقدم الأمير “أمنحتب ” خطوات الى الأمام وانتظر قليلا ً لظهور من يقابله، فإذا بصبية كنعانية فائقة الجمال من الجيش المقابل تتقدم الى الأمام، بصفتها الممثل المفوض عن جيوش مجدو .. ذهل أفراد الجيشين بهذا التقابل غير المتكافئ، وذلك لكون اللقاء لم يكن عدائيا ً كما كان متوقعا ً إذ قالت له الأميرة ” إلهام ” :
” إيها الأمير الأمبراطوري ” أمنحتب ” الذي عرفته يتغنى بالمحبة والإنسانية والسلام؛ كنت قد التقيتك على بحيرة الشاطئ الخليلية قبل ثلاث سنوات، وكنا قد تفاهمنا على أن الحياة على الأرض تعني المحبة والسلام , وأننا سنحقق السلام بين مصر وكنعان , ولكننا على عكس ما توقعت، نلتقي اليوم وجها ً لوجه على سهول مملكة مجدو، بمعارك قد تحرق الأخضر واليابس بين بلدينا , وأنا بمبادرة من نفسي وبالنيابة عن أبي ” رافائيل ” ملك مجدو وملوك الكنعانيين وقادتهم العسكريين جميعا ً أقترح عليك أن تكون مجدو مملكة لقاء وسلام بدل أن تكون شعلة للحروب والدمار وأن نتقابل منها كإخوة وجيران وأصدقاء ومحبين بدل أن تسيل بيننا الدماء ونبقى نحتل بلادكم هكسوسا ً وتبقون تحتلون بلادنا فراعنة .. ذُهُل القائد الأعلى
” أمنحتب ” أخناتون بما يشاهده ويسمعه من هذه الأميرة ” إلهام ” ثم قال :
” نعم كنا قد اتفقنا على المحبة والسلام , ولكنني قادم على رأس جيش مصر، بصفتي ممثلا ً للإمبراطورية الفرعونية.. فلقد قررت أمامك وأمام هذه الجيوش الجرارة قبول مبادرة السلام هذه , على أن تستبدل كل العلاقات بين الدولتين المصرية والكنعانية عامة , وليست ممالك فلسطين وحدها من استعلاء وعداء، الى سلام ووئام تام ” .
وبالمقابل عرض ” أمنحتب ” عرضه على الملك ” رافائيل ” توثيق معاهدة رسمية لإرساء سلام ومحبة دائمة بين الفراعنة والكنعانيين كافة , واعتبارهم من هذا اليوم أمة واحدة , ولهذا تبتعد الجيوش عن بعضها، ويسهر ” أمنحتب الرابع ” أخناتون مدعوا ً من قبل أبيها الملك الكنعاني ” رافائيل ” على عشاء وسهرة ليقضي ليلة ضيفا ً معززا ًومكرّما ً عندهم وفي الصباح اليوم التالي يقرر خطبة الأميرة الجميلة “إلهام”.
لو تأملنا هذه الأحداث وهذه الثورة لوجدنا أن الصراع السياسي على السلطة والصراع الاقتصادي على توسيع النفوذ هو المهيمن على مسيرة الأحداث، وليست المسألة مسألة ديانة أو عقيدة، على الرغم من كون ” أمنحتب الرابع ” أخناتون كان أميراً سديد الرأي وعادلاً وصائب النظر فيما اتخذ من إصلاح ديني يتمثل في توحيد الآلهة، واعتبار الآلهة الأخرى زائفة، ولكن الطبقة السياسية وأصحاب النفوذ ضربت مصالحهم وثرواتهم ومكانتهم الإجتماعية بعد أن هجر الملك ” أمنحتب الرابع ” أخناتون طيبة على الرغم مما كان لها من السيادة والأبهة عندما وجد ارتباكها بالتقاليد اللاهوتية القديمة التي كانت أكثر من اللازم , وضعفت الحركة فيها نسبيا ، لتكون العاصمة الجديدة ” أخت آتون ” هي الحداثية البديلة المتطورة .
يتفق مؤرخو ” أمنحتب الرابع ” أخناتون على أن الكشف الحقيقي لأخناتون وثورته الرائعة تمثلت في فنه وليس في دينه , ففي عهده بدأ الفن يتنازل عن الكلاسيكية وينزع الى الحقيقة السافرة في تصوير طبيعة الأشياء , فتصور الفرعون الى جانب زوجته في جولاتهما معا ًفي دار العبادة، وفي شرفات القصر، وحينما يخرجان للنزهة في عربته , وايضا ً يحيط الغموض بمعظم مراحل حياة أخناتون , نشأته ودوافع ثورته وحقيقة علاقاته الأسرية , نهايته ولعل ذلك ما جعل منه شخصية فنية بامتياز .
بعد السنة الثانية عشرة لحكم أخناتون أخذ الضعف يدب في بنية السلطة ووقع انشقاق في الأسرة نفسها , إذ استطاع الكهنة ذوي التاريخ العريق المتمكن، الضارب جذوره في أرض مصر والمروي بماء النيل استقطاب خاله الانتهازي ” آي ” الذي خضع لمشيئة كهنة آمون وأضطر بحكمته وذكائه العودة من ” أخت آمون ” مع زوجته ” تاي ” للسكن في طيبة وهذا أعطاه الفرصة للتجاوب مع استعدادات الكهنة، ونشاطاتهم للانقلاب على دين أخناتون.. وها هو الزمن يمضي والإمبراطورية المصرية تخسر مواقعها لتنكمش الى دولة صغيرة، وحتى الضرائب المحلية لم تعد تجمع، فأصبحت الخزينة المصرية مقفرة وعمت الفوضى في جميع مناطق البلاد، مما أدى الى حزن الملكة ” تيي ” الأم كثيرا على هذه التشققات في العائلة الملكية، ولم تستطع لم شملها، فتوفيت في سن الخمسين وذلك بعد اثنى عشر عاما من عهد ولدها أخناتون .. وفي نهاية منظار الزمن نشاهد تحطم أعصاب أخناتون وهو يرى الثورة تندلع في أكثر من موقع من مناطق الإمبراطورية، والأجنحة الخاضعة لها، والقوى التي تناوئه، وتجهر بإسقاطه.. واخيرا ً توفى محطم القلب، ولم يكد يتم الثلاثين من عمره بعد أن أدرك عجزه عن تحقيق آماله بتغيير العلاقات الإنسانية على وجه الأرض .. قتل الإنسان الذي انبثق من وسط الفساد نقيا ً طاهرا ً حالما ً بتحقيق جنة على الأرض .
وأما ” نيفرتيتي”، الملكة الساحرة الفاتنة رقيقة الملامح والتي عاصرت حقبة زمنية من أكثر الحقب المصرية غموضا ً والتباسا ً , فقد أحاط الغموض بكل تفاصيل حياتها بل وحتى مماتها بعد أن عم ّ الحزن حياتهما , فانتهت بالبعد والهجر المقيت، وتناسى المحبان ما كان بينهما من عشق, فبلغ الشقاق بينهما مداه, وانعزلت ” في قصر بشمال ” أخت آتون ” بمفردها , وقد انتابها الحزن العميق وهي تسمع بنبأ مقتل زوجها بعد المؤامرة التي تعرض لها , وبعد فترة من الزمن لحقت بإخناتون ولم يعرف حتى هذه اللحظة كيفية موتها ولا مكان دفنها ولا حتى سنة وفاتها ,وقد عثر على تمثالها النصفي الذي تم اكتشافه عام 1912 م والذي يعرض حاليا ً بمتحف برلين الجديد بألمانيا .
هذه هي رواية ” أخناتون ونفرتيتي الكنعانية ” للروائي صبحي فحماوي والتي تم تسليط الضوء على الرؤيا التاريخية لحقبة سيطرة مصر الفرعونية على بلاد كنعان، ومستعينا ً بأعذ ب ما جادت به لغة عصره لحضارة كانت ثمرة اختمار تجارب إنسانية، تأسست على الحب , هذا الحب الذي ظل محفزا ً لابتكار أساطير عديدة وأشعار وأدبيات وفنون بلورت أقرب لمشاعر المصري القديم بمختلف المفردات والصور البلاغية .
** رواية أخناتون ونيفرتيتي الكنعانية / الروائي صبحي فحماوي / الدار الأهلية للطباعة والنشر / بيروت / عمّان / شباط 2020 .