18 ديسمبر، 2024 4:17 م

توصية من صديقي الكردي

توصية من صديقي الكردي

لم أكن أتوقع أن تتسبب التوصية التي دسّها في يدي صديقي السياسي الكردي لتسهيل الأمر عندما أخبرته بالنيّة لزيارة إقليم كردستان لإجراء الفحوصات الطبية في إحدى مستشفياته لأحد أفراد العائلة بذلك الحرج والإرباك حتى تصاعد في مُخيلتي المتواضعة أن تلك الرسالة ربما ستتسبب بأزمة سياسية بين بغداد وأربيل!!.

إستلم الموظف المسؤول عن منح التأشيرات والموافقات الذي يقع في بداية الحدود الجغرافية للإقليم توصية ذلك الصديق السياسي، وما أن تمعن بها حتى بان على ملامحه الإنزعاج والنفور وتصاعد نبرات الغضب.

إعتقدت أني ربما أكون في هذه اللحظات في موقف من مواقف الكاميرا الخفية، إذ كيف لهذا الموظف أن يرفض توصية مسؤول حكومي معروف ضمن حكومة الإقليم وكذلك حكومة المركز.

كانت ملامح مسؤول التأشيرات تزداد إنزعاجاً كلما طال الموقف، وتلك الأسئلة التي يكررها ويسألني عنها، كيف وأين ومتى تعرفت على هذا السياسي؟.

للوهلة الأولى إعتقدت أن الرسالة تحوي شتيمة أو إهانة لقارئها حتى شعرت أن الضابط بدأ يهيئ إجابته لرفض دخولي مع من يرافقني إلى عاصمتهم، لولا محاولاتي الأخيرة لإقناعه بأن معي حالة صحية تستوجب العلاج العاجل في مستشفيات أربيل.

 المفاجأة الثانية التي صدمتني هو ردود أفعال صديقي السياسي حين عاتبته على الرسالة فجاء جوابه أن توصيته كانت موجهة إلى نقطة التأشيرات في السليمانية معقل الإتحاد الوطني الكردستاني الذي يرأسه بافل طالباني نجل الراحل جلال طالباني رئيس الجمهورية الأسبق الذي يكون صديقي أحد أعضائه، وإن أربيل التي كنت متوجهاً إليها هي معقل الحزب الديمقراطي الكردستاني الذي يتزعمه مسعود بارزاني، حينها أدركت حجم الخطأ الفادح الذي وقعت به بالرغم من إعتقادي أنهم في كفة ميزان واحدة.

خلاصة هذه التجربة جعلتني أستنتج أن أربيل تعني مسعود بارزاني وحزبه والسليمانية يحكمها آل طالباني.

سردية التاريخ الكردي ربما يختلف عنوانه عن الآخرين من القوميات والطوائف، فهؤلاء يجمعهم حلم الدولة الكردية المنشودة، وتفرقهم المصالح والمنافع وحتى الميول السياسية، فحزب طالباني يميل إلى إيران، بينما يتخذ غريمه بارزاني تركيا قبلته التي يحتفظ معها بعلاقات سياسية وإقتصادية وثيقة.

جميل هو الشعب الكردي بِزيّه التقليدي وخُلقه المتواضع وبساطة حياته الجبلية، مجتمع هادئ سحقته أحزاب السلطة الحاكمة في الإقليم، وزادت في حياته التعقيد والإرباك وصلت إلى قوته ومعاشه.

طالما إتهمت بغداد حكومة الإقليم بعدم تسليم أو تأخير رواتب الموظفين الكرد ومتقاعديهم، الذين أصبحوا ضحايا لعبة سياسية ومناورة تتقاذفها رياح المناوشات بين المركز والإقليم.

الأحزاب الكردية يجمعهم حلم الإستقلال ويفرقهم صراع مستميت على المغانم والنفوذ والسلطة، في حين يعيش مواطنيهم في أدنى درجات الفقر والبطالة والعوز، حالهم مثل الأحزاب السنية التي تلتقي في المضايف والدواوين لتقاسم النفوذ والمناصب وخيرات السلطة، في حين يعيش جمهورهم بخيم النزوح مهجرين أو مهاجرين تركوا منازلهم هرباً من روائح الموت التي كانت تلاحقهم،  وغرابيب داعش التي تحوم في سمائهم، يحكم قرارهم ساسة لايعترف بهم مكون يحسبون أنهم يمثلونه.

لايختلف الواقع السياسي للأحزاب السنية والكردية عن نُظرائهم الشيعة الذين يعيشون حياة السلاطين وقصص ألف ليلة وليلة في تبرجها وبذخها وهم الذين يلعنون حكم هارون الرشيد وترفه، بينما جماهيرهم في الوسط والجنوب تعيش أحلك الأزمنة وأقسى الظروف ومشاهد مخجلة لعوائل تبحث عن فُتات الطعام أو ما تجود به النفايات في مواقع الطمر الصحي، في الوقت الذي تفتك بهم أمراض السرطان من جراء الغازات السامة المنبعثة من شركات النفط المتواجدة على تلك الأرض، وتلك هي المفارقة المبكية، فقر مُدقع تقابله خيرات مهولة تقبع في باطن الأرض تكفي لإشباع وتمويل دولاً أخرى غير العراق.

أحزاب سنية وشيعية وكردية لاتختلف عن بعضها حتى في طرق التناسل والتفريخ، فالعملية متشابهة بل ومتطابقة.

رسالة صديقي جعلتني من اليقين أن كردستان لن يُكتب لها الإستقرار مادامت أجوائها تترنح بين هدوء وعاصفة أو حتى مد وجزر، ومادام الفاعل الخارجي يعبث بموقفها في تحديد الإتجاه والميول، ومادامت الولاءات متعددة والمصالح متغيرة وخيوط اللعبة تتحكم بها أصابع الخارج فإن مصير كردستان لن يختلف عن بغداد، مثل لعبة الدومينو التي تتساقط أحجارها بالتتابع.

إلى وقت قريب كان الإقليم الكردي ملاذاً آمناً للكثير من العراقيين من لهيب الصيف وجمال الطبيعة وروعة الشلالات التي تجذب السياح بكل أشكالهم وألوانهم، لكنها لعبة السياسة التي تقلب الموازين.

قبل أن أنتهي من حكايتي تمنيت لو لم أستلم تلك التوصية التي سببت “دوخة رأس” وربما كان الأفضل لي أن أمزقها لأريح وأستريح.