23 ديسمبر، 2024 1:15 ص

توسيع الدلالة و العمقُ في نصوص أحمد الحلي الشعرية

توسيع الدلالة و العمقُ في نصوص أحمد الحلي الشعرية

الخلاصة
توسيع الدلالة و اضفاء عمق اكبر على المعاني بفعل الكلام و السياق غير ما هو لها بحسب الوضع من علامات الابداع . و لقد اجرينا هذه الدراسة لتبيّن حالات توسيع الدلالة و اضافة عمق اكبر للمعاني في نصوص شعرية للشاعر العراقي أحمد الحلي في مجموعته الشعرية ( لي كلّ هذا) ، و تمّ بحث تلك الظواهر بمنهج البحث الظاهري الاسلوبي. و اثبت الدراسة انّ النصّ الشعري و باسلوب متفرّد كما عند الشاعر احمد الحلي يمكنه ان يوسّع دلالات الالفاظ و ان يحقق لها عمقا اضافيا و جديدا يبلغ بالجزئي حد الكلية و الكونية ، و قد تحقّق هذا العمل الابداعي باساليب كلامية و سياقية مختلفة . و ابرزت الدراسة حقيقة انّ معنى اللفظ ليس أمرا مستقرا ساكنا ، حتى في النص الواحد بل انّه يتغير على مستويات عدة اهمها الكلام و الوعي و الفكر و الروح .
أهداف البحث
الهدف الاساس من الدراسة هو تبيّن حالة توسيع الدلالة و اضافة عمق اكبر لمعاني الالفاظ في نصوص احمد الحلّي الشعرية .
المقدمة
القرابة و التداخل المعنوي بين الالفاظ المتقاربة صوتيا في اللغة العربية امر ظاهر و جلي ، و نظر تلك الالفاظ المتقاربة الى جامع و مشترك معنوي كلي ايضا امر يمكن تلمسه و تبينه بيسر (1) . ان تداخل المعاني ظاهرة انزياحية بامتياز ، و على مستوى التعبير العادي التقريري فانها خلاف منطقية التوصيل (2) ، الا انها في التعبير الادبي و الكتابة التاثيرية فهي مصدر للجمالية و للابهار و توسيع للدلالة كما اشارت اليه تأويلية شلايرماخر (3) .
علاقة اللغة بالفكر من الواضحات (4) و كون اللغة وعاء للفكر و مبرز له ايضا امر لا مرية فيه (5) بل ان البعض يعد التفكير كلاما صامتا ، و ان الفكر و اللغة وجهان لشيء واحد (2) و منهم من يذهب الى اللغة هي من عوالم الروح (3) . و حالة عمق المعنى بملامحه الواضحة و تجليه في النص من مهمّات البحث الأدبي
(5) . و المؤشرات النصية و اللغوي كثيرة على ان المعاني كلما كانت اكثر عمقا كانت اكثر اطلاقا و كلية و اقل جزئية و تشخيصية ( 6) (7). و من خلال قصد عمق اكبر لمعاني الالفاظ و توسيع معانيها يتحقق الابداع الكتابي و هنا في هذه الدراسة سنحاول تبيّن حالة توسيع الدلالة و العمق المضاف لمعاني الالفاظ في نصوص الشاعر احمد الحلي .
مادة البحث
تتمثّل مادة البحث في ثلاثة أمور :-
الاول – المعاني العميقة
الثاني – النص الشعر
الثالث – توسيع الدلالة
الاول – المعاني العميقة
المعنى العميق هو ذلك المعنى الذي له دلالة معنوية عالية مؤثرة ، يثير الانثيالات ويستدعيها إلى الذهن باختزاله قدر كبير من التجربة الإنسانية (6) (8) .
الثاني – النص الشعري
الشعر و بحسب قواميس أدبية و مراجع معتمد هو عمل كتابي أدبي يعطى فيه اهتمام خاص بالتعبير عن المشاعر و الافكار من خلال لغة مميزة مؤثرة .(9،10،11) . و النص هو الكلمات الفعلية التي تكون الكتابة . و الكتابة هي سلسة من الرموز المقروءة بشريا (12) .
هنا مجموعة نصوص شعرية للشاعر العراقي أحمد الحلي في مجموعته الشعرية ( لي كل هذا ) الصادرة عن دار شمس للنشر عام 2016 ، ستكون مادة البحث باعتبارها نموذجا للنص الشعري ، و سنبحث فيها عن ظاهرة توسيع الدلالة و اضافة عمق اكبر للمعاني .
تقع المجموعة في 100 صفحة من القطع المتوسط ، و تشتمل المجموعة على (12) قصيدة ، مكتوبة بشكل المقاطع الفسيفسائية ، التي تقصد و تتجه نحو فكرة عميقة واحدة ، و تنتظم ضمن وحدة تعبيرية و موضوعية واحدة مع ظاهرة الاستقلال التعبيري الخاص بالمقطع (13)
الثالث – توسيع الدلالة .
تأثير السياق و محوريته في تكوين دلالة اللفظ من الامور الراسخة (14) (15) و الاضافة التي يحققها الكلام و سياقه بغير ما هو للفظ في الاصل و توليد معنى اضافي هو من الفصاحة عند العرب (14). .و لقد برز اخيرا شعور بالفرق بين الدلالة و المعنى ، و انّ الدلالة ما تكون بفعل الواضع و نظام اللغة اما المعنى فهو ما ينتجه الكلام و السياق (15) وهذا الفهم موافق للفهم العرفي للدلالة و المعنى كما هو ظاهر . هذا المعنى الاستخدامي الناتج عن الاستخدام و الذي يكون بفعل السياق و الكلام و الذي يحدث تغييرا في الدلالة الوضعية الاصلية للفظ (14،15) من العمل الانساني العالي المستوى ، و اضافة الى كونه فعلا تداوليا (15) فانه ايضا كاشف في الكتابة الفنية عن أدبية النص من حيث انه كتابة ابداعية (16) كما انها تكون بموجهات دلالية اختيارية في النص (14) . في تلك الاضافة المعنوية السياقية يحصل توسيع للدلالة (14) و بالاتجاه بالألفاظ الى مناطق اعمق في عوالم المعنى تحقق الاضافة الابداعية
طريقة البحث
نعتمد هنا في دراستنا هذه منهج التعامل الظاهري الاسلوبي مع المادة الادبية باعتبار انّ الادب ظاهرة ، نتعامل معها بشكل واقعي مادي و على جميع مستوياته النصية و الماوراء نصية (17) .
في المجموعة (12) نصا ، و النصوص بشكل مقاطع فسيفسائية كما بينا ، و هنا و من خلال تبين الاختلاف بين معنى الالفاظ الاصلي و المعنى السياقي التوسيعي و من خلال العمق المضاف بالنص الى اللفظ ، نتبّين تحقّق حالة التوسيع الدلالي و العمق المضاف لمعاني الالفاظ .
في قصيدة ( طلسم الحروف)
العين : عيناك الواحة الفارغة و انا التائه في عمق الصحراء .
الذال : ذوب من الرحيق ام شفتاك .
الراء : رأيت في حلمي ان ثمة سيفا يهوي على عنقي و ان ثمة رأسا أطوف به فوق رمح أحمله .
الألف : الأسى فأر أقفلت عليه بمحض ارادتي قفصي الصدري .
الهمزة …. النص )
و النص مفاتيح و رؤوس سطوره كلمة عذراء ، و مع انّ ظاهر النص هو العشق الا انّ النص يتجه نحو معان من مجال مختلف فتختلف المعاني في مستوى الكلام و النص عنها في مستويات اخرى اعمق . و لو تجاوزنا التيه في الصحراء في المقطع الاول ، ان المقطع الثالث الذي يبدأ بحرف الراء فانّ العبارة تتجه الى مجال معنوي مغاير للحبّ و الغزل ، فالحلم سيف يقطع الرأس و يحمله صاحبه ، و لولا ملاحظة العمق المقصود و التوسع في الدلالة لكان توجيه الوحدة العضوية في النص امر غير يسير ، لكن سيتبين بوضوح انّ هذا التشظي انما ينتظم في فسيفسائية كبيرة في الوعي و الفكر ، تتجه فيها العبارات الى المعاني العميقة الكلية تتسع بسعة الروح الانسانية . ان الشاعر بهذا المقطع بالحلم المأسوي يتجه نحو الهمّ الانساني و الاجتماعي و يختلط الزمن الجميل بالزمن المر و سط عالم اختلطت فيه الاشياء ، فصار صاحب الرأس المقوع هو الذي يدور به واضعا راسه فوق رمحه، وما هذا الا انعكاس للوعي على النص و انعكاس لعوالم الروح فيه .
و تمحض الارادة و القبول بالوضع اللامقبول لدى الشاعر و وعيه الكلي في هذه التعبيرية الفذة ، يشرحه اكثر بل وبصوت صارخ في المقطع الرابع ( حيث الاسى فأر من ديدنه الهروب ، لكن رفيق الاسى هو من ابقاه و حبسه في صدره بمحض ارادته ، انها الارادة الكلية الفكرية الانسانية و الكونية الروحية و الاجتماعية الواعية و اللاوعية التي رضيت بالحزن بل و حافظت عليه .
انّ هذا الصوت التعبيري الجهوري الكوني العميق النابع من دواخل الروح و من عمق الفكر و الوعي ، و سط نصّ تغزّلي جزئي ، يتنقل بين مجالات المعاني و حقولها ، يحقّق توسعا في فكرة القصيدة و النص و بالتالي توسعا في معناهما ، كما انّ التيه في الصحراء و وفق هذا السياق يحقق توسيعا في المعنى و العلاقة و اضافة عمق للألفاظ .
اضافة الى هذا الشكل من توسيع الدلالة و اضافة المعنى العميق للالفاظ وهو الاظهر و الابرز و الذي سنتتبعه في باقي النصوص ، هناك اساليب اخرى من توسيع المعنى ، منها التعبير عن العلاقة بين المحب و المحبوب الموغل في التعبيرية ، مما يمكن عدّ تلك التعبيريات التغزلية في فلسفة عدم استقلال الذات و الشعور بالانتماء الابهى و الاوسع كما يقول الشاعر في قصيدة ( كوثر )
الكاف كنت محوا فرسمتني حرفا في ابجدية .
الواو وجدتك وجدتها .
و في قصيدة ( منحنيات بيانية)
كلهم ينحنون البدائي لطوطمه سقراط للحقيقة السنبلة للمنجل و انا لقوامك .
اضافة الى ما اشرنا اليه من العمق الصوفي في الانتمائية و عدم الاستقلالية ، فانّ ( انحناء السنبلة للمنجل ) هي من حبّ القاتل و يختلف عن باقي عبارات النص ، حيث يتجه كل من اولئك الطالبون نحو المثال و الغاية ، فانّ السنبلة هنا تتجه نحو قاتلها . وهذا ايضا اضافة عمق و توسيع للدلالة ، و تجاوز لحدود المعنى الجزئي .
في هذا القصيدة ايضا نجد توسيع المعنى في المقطع التالي
جراءك جسدي ثوب يتنازع على ارتدائه ليلا مجانين لامرئيون
جرّاءك عربة احزاني لا تقوى على جرها كل خيول العالم .
من الواضح اعتماد الشاعر هنا على الصورة الشعرية في بوحه الاقصى ، الا انّ تلك التراكيب و تلك الصورية ايضا عكست حالة توسيع المعنى و الضرب نحو عمق اكبر للفظ ، فحالة الشوق التي تصنع تلك الحالة الشعورية الاستثنائية ، فانها ايضا تضرب في عمق التجربة الانسانية و تتمثل الشعور الانساني العميق ، و تنحو العبارات نحو الكلي ، و يكشف ذلك فان الشاعر في مقطع اخر يتكلم بصوت عميق الكلي عاكسا الوعي العام :
(لكليهما ذات الضرورة النباتات في عملية التركيب ضوئي و العشاق في حالات العناق )
تمّ تتعاظم تعبيرية الشاعر و نصّه في عبارته الانسانية الرافضة للواقع و الطالبة للخلاص
(ازاء فوضى هذا العالم حبك الشيء الوحيد القادر على اعادة ترتيب الاشياء )
فهنا يرفض الشاعر تلك الفوضى الماساوية في العالم و التي لا حلّ لها الا الحب الاعلى الذي يتبناه و يعيش فيه الشاعر .
و في قصيدة ( لو كنت ) مع انّ الشاعر بقي في عالم الحبّ الا انّه يطرح كليات التلاقي و التعايش و السلام ، و كليات الخلاص ، فلا يرضى لوجوده مهما كان الا ان يكون موطن حبّ و سلام و تلاق .فيقول
( لو كنت خشبة لما سمحت لاحدهم ان يطرق في جوفي مسمارا ما لم يكن متيقنا انه سيصنع بالتالي اريكة تضم عاشقين .)
وفي كلية طلب التلاقي و رفض التباعد يقول :
( لو كنت نهرا لتوقفت عن الجريان تماما ما لم يتم السماح بعد بضعة اميال اقطعها لضفتي بالتلاقي )
و في نص يتميز ببناء جملي متواصل و نثروشعرية واضحة تتخلل نثريته التوصيلية خالقة نصا حرّا بين الشعر و السرد متخلّيا كثيرا عن الصورة الشعرية العالية التي تماز بها باقي النصوص وهو من ميزات قصيدة النثر و النثروشعرية يقول في نهايته الشاعر :
( سعادتي فيك تكمن في اني ابصر فيك ما لا يبصره الاخرون ، كأنّ عناية السماء قد خصتني وحدي دون سائر الانام بموهبة اكتشافك ثم اعادة اكتشافك الى ما لا نهاية ) …
و لا ريب انّ هذه المضامين لا تخرج عن لغة الانتماء و انجذاب الذات و الوصوفية بأحد ابعادها و طلب الخلاص و المثال .
و في قصيدة ( لأنّه منك) تختلط مشاعر الانجذاب الحاصة مع العمق الانساني للعلاقة الخالصة و تتحدّ في حقول معنوي لا يتوصّل لها عادة بالعشق وحده فتنتقل تلك العلاقة و بوضوح من الحالة الجزئية الى الكلية الروحية الاعمق و الاوسع ، فيقول الشاعر
لأنه منك
الحزن ؛ حشوت به وسادتي .
الجرح ؛ فلينزف جسدي آخر قطرة دم .
السيف ؛ تستكين له بودٍّ رقبتي .
الاسى ؛ لن ابدّل بأجمل الصباحات
اقسى لياليه .
الكفن شرنقتي …. (النص)
من الظاهر ان التداخل المعاني ليس مقتصرا فقط على الحالة الاستثنائية الشعوري و الانفعالية للمتكلم و القاصد ، بل انّ التداخل في المثال ، فانّه المحبوب الذي يفيض بالاذى من سيوف و حزن و كفن ، و رغم احتفال الشاعر بجوانب جميلة سعيدة كثير للمثال و المحبوب – للمثلة لفكر الشاعر و روحه – الا انه ايضا يحتفل بجوانب محزنة و مؤذية – عاكسة الوعي الاجتماعي و العمق الكوني الكلي و الروح الكلية- ، وهنا نجد عمق آخر للنصوص المتجه نحو تجربة نفسية بشرية . وهكذا تتكرر هذه الاسلوبيات و التوسيعات و التعمقات في باقي نصوص المجموعة
النتائج
باسلوبيات نصية و طرق التعبيرية و توظيفات سياقية و توجيهات دلالية قد حققت نصوص الشاعر احمد الحلي في مجموعته ( لي كل هذا) توسيعا للمعاني و اضفت عليها عمقا غير متوفر في معانيها الاصلية .
الاستنتاجات
لقد اثبتت الدراسة انّ النصّ الشعر و بتوظيفات سياقية و توجيهات دلالية يمكنها ان تحقق توسيعا لمعاني الالفاظ و تضفي عليها معان اخرى غير التي لها بحسب الوضع و الحقيقة ، و تجعلها اكثر عمقا و سعة و كلية . انّ نصوص احمد الحلي في مجموعته الشعرية ( لي كل هذا ) قد حققت بعمقها و كليتها حالة الدلالة العميقة الواسعة بسعة الروح الانسانية . و بملاحظة القصدية و الجزئية في الكلام و الوعي الاستعمالي و الاجتماعي للغة (18) و كلية و اطلاق الفكر ، و تعاظم هذا الاطلاق و هذه الكلية للمعاني في مجال الروح (3) فانا يمكن تبيّن اربعة مستويات للمعاني و تتجه من اكثرها ظاهرية و شخصية و جزئية الى اكثرها عمقا و كلية من مستوى الكلام ، ثم مستوى الوعي ، ثم مستوى الفكر و ثم مستوى الروح ، ليس فقط في حالات اللفظ في نصوص مختلفة بل في النصّ الواحد كما اشرنا اليه في الدراسة .