18 ديسمبر، 2024 7:02 م

توحيدة بن الشيخ..رائدة من تونس

توحيدة بن الشيخ..رائدة من تونس

ننظر اليوم بقدرٍ من الإستسهال إلى الكثير من الأمور التي نعيشها، فنتعامل معها ببساطة وكأنها من المسلمات وننسى أنها كانت حلماً بعيد المنال ذات يوم، ففي الماضي كان التعليم وبالأخص للفتيات ضرباً من ضروب الخيال، لذا لا يسعنا عندما نقرأ عن الكثير من اللواتي مهدن الطريق لغيرهن في مختلف الدول العربية سوى أن نذكرهن بإحترام ونقول لهن شكراً جزيلاً..

والنموذج الذي سأحكي عنه اليوم من تونس الخضراء وعن أيقونة هامة في تاريخ تونس الحديث وهي توحيدة بن الشيخ أول طبيبة تونسية ومن أوائل الطبيبات في العالم العربي، ولدت في الثاني من كانون الثاني/ يناير عام ١٩٠٩ لعائلةٍ ميسورة عاشت فيها مع والدتها وإخوتها بعد وفاة والدها باكراً، وتفوقت في دراستها حتى أنهت شهادتها الثانوية عام ١٩٢٨ وكانت أول فتاة تونسية تحصل على هذه الشهادة آنذاك، مما أعطاها دفعةً للتوجه إلى فرنسا برفقة (ليديا بورني) زوجة الدكتور بورني الطبيب والباحث الفرنسي بمعهد باستور بتونس، فبدأت مشوارها بالتسجيل للحصول على دبلوم الفيزياء والكيمياء وعلم الأحياء وهو ما جعل الطريق مفتوحاً أمامها للإلتحاق بكلية الطب في باريس، وما عرفها بالأوساط الثقافية والعلمية الفرنسية وساهم في زيادة حصيلتها الفكرية والمعرفية، فتفوقت في دراستها وتخرجت عام ١٩٣٦، وناقشت في السنة التي تلتها رسالة الدكتوراه في طب الأطفال لتصبح أول طبيبة تونسية في العموم وفي هذا المجال على وجه الخصوص..

ثم قامت بإفتتاح عيادتها الخاصة بعد عودتها من باريس إلى العاصمة التونسية، ثم أخذ مسارها المهني والعلمي بالنمو والتطور على مدار السنوات ففي عام ١٩٥٨ أصبحت عضواً في عمادة الأطباء التونسيين، كما ترأست قسم الولادة بمستشفى (شارل نيكول) بمدينة تونس بين عامي ١٩٥٥ و ١٩٦٤، وهو مستشفى جامعي هام سمي بهذا الإسم تكريماً لذكرى الطبيب والعالم الفرنسي (شارل نيكول) الذي أدار (معهد باستور) بتونس وحصل على جائزة نوبل عام ١٩٢٨، وقد أنشأت في نفس المستشفى قسماً خاصاً بالتنظيم العائلي أو ما يعرف بتنظيم النسل عام ١٩٦٣ وقد كانت من المساهمين البارزين فيه ولذلك تم تعيينها سنة ١٩٧٠ في منصب مديرة الديوان الوطني للتنظيم العائلي..
ثم انتقلت لاحقاً إلى (مستشفى عزيزة عثمانة) وهو مستشفى جامعي عريق يوجد في ساحة القصبة في العاصمة التونسية، ويعد أقدم مستشفى في تونس وكان يعرف ب(بيمارستان العارفين) والذي تم تأسيسه عام ١٦٦٢، وأكملت مسيرتها حتى أحيلت على التقاعد عام ١٩٧٧..

وإلى جانب اسهاماتها في المجال الطبي ساهمت توحيدة بن الشيخ في الحياة الفكرية في بلادها من خلال كتاباتها وإشرافها على أول مجلة تونسية نسائية ناطقة بالفرنسية صدرت بين عامي ١٩٣٦ إلى ١٩٤١ تحت عنوان (ليلى)، كما نشطت في عددٍ من الجمعيات سواءاً كان ذلك في فرنسا أو بعد عودتها إلى تونس، ومن تلك الجمعيات (جمعية طلبة شمال إفريقيا المسلمين بفرنسا)، كما دعيت لتلقي كلمة في مؤتمر اتحاد النساء الفرنسيات والذي عقد في شهر أيار/ مايو ١٩٣٢، والذي تناولت فيه أوضاع المرأة المسلمة في المستعمرات الفرنسية، أما في تونس فقد نشطت في (الإتحاد النسائي الإسلامي التونسي) كما أسست بالتزامن مع الحرب العالمية الثانية (جمعية الإسعاف الإجتماعي) وتولت رئاستها، والتي تفرعت بدورها وكانت السبب وراء مشروع إقامة دار الأيتام ودار المرأة عام ١٩٥٠، وهو نفس العام الذي أسست فيه (جمعية القماطة التونسية) للعناية بالرضع من أبناء العائلات المعوزة، كما ساهمت في تأسيس (لجنة الإسعاف الوطني)..

وتم الإحتفاء بها وبمسيرتها الثرية تقديراً لإسهاماتها الطبية والفكرية وتم تناول مسيرتها في شريط وثائقي بعنوان (نضال حكيمة) كما أصدر البريد التونسي طوابع بريدية تذكارية تحمل اسمها وصورتها، دون أن ننسى اصدار البنك المركزي التونسي للتداول منذ يوم الجمعة ٢٧ آذار/مارس عام ٢٠٢٠ ورقة نقدية جديدة من فئة ١٠ دنانير تحمل صورتها كنوعٍ من التكريم لها، كما أسس عدد من الأطباء جمعية طبية تحمل اسمها وهي (جمعية توحيدة بالشيخ للسند الطبي) اعترافا بمكانتها الريادية وإسهاماتها التي استمرت حتى رحيلها عام ٢٠١٠..

لتترك خلفها إرثاً يشهد لها وبما قدمته في مرحلة ٍ مختلفة من تاريخ تونس وضعتها في مصاف الدول الصاعدة، ولذلك استحقت أن تدخله من الباب العريض خاصةً مع تزامن رحيلها مع مرحلةٍ حساسة ومختلفة كلياً على الصعيد المحلي بدءاً من تونس ومروراً بالكثير من الدول العربية والتي نتمنى فيها عودة نماذج من طراز توحيدة بن الشيخ..