18 ديسمبر، 2024 6:15 م

توثيق التاريخ الطبي العراقي: الدكتور سعد الفتال نموذجا

توثيق التاريخ الطبي العراقي: الدكتور سعد الفتال نموذجا

يتمنى المرء في داخله أحيانا أن لو كان على معرفة منذ سنوات مبكرة في حياته بشخصيات لها ألقها الخاص الذي لا يخفى على كل الذين عرفوا هذه الشخصية عن قرب، فكان الزميل والصديق الصدوق والذي تحسه قريبا أليك فكرا وعملا ومنهج حياة..ومن هذه الشخصيات عندي زميلي الفاضل الدكتور سعد الفتال والذي تعرفت عليه في بلاد المهجر البريطاني حيث يعيش ويعمل الآلاف من الزملاء الأطباء العراقيين…
ولم تكن ظروف هجرة الطبيب العراقي لدول العالم متشابهة بين الجميع، بل أن هناك أذا صح القول هجرات لفترات زمنية متعددة في عمر الوطن أمتدت على مدى العقود الماضية وأستمرت حتى زمننا الحاضر هذا ولأسباب مختلفة…
والدكتور سعد الفتال شخصية محبوبة من قبل الذين عرفوه، فهو الطبيب الجرّاح الودود، والمثقف الموسوعي الذي يحرص على أن يظل وفيا لتاريخ وطنه الطبي… فكان أن عرفته قبل ما يزيد على العشرين عاما في أحد مؤتمرات أطباء العراق العلمية في لندن، فوجدته يواصل الليل بالنهار ليحقق النجاح فيما يكلف نفسه به من محاضرة، أو معرض لصور فوتغرافية توثيقية طبية، أو تسجيل ندوة علمية ونشر تفاصيلها، كما تجده حريصا كل الحرص على تعريف الزملاء ببعضهم والأشادة شخصيا بالأساتذة…
كما أن لسعد الطبيب المجتهد في أختصاصه طريقته في تناول التاريخ الطبي العراقي، فهو لم يكتف بكتابة مقالة عن موضوع ما، بل يضع تفاصيل محاضرته مثلا في خدمة الباحثين، فيصمم منها الفيديو الخاص الذي يبثه على قناته في اليوتيوب، حتى أنه تمكن من دمج مقاطع موسيقية عراقية تراثية تتناسب وموضوعه لشد أهتمام المشاهدين.. فكان لسعد من المقالات ما يقرب من 80 مقالة، وعشرات الفيديوات، والمئات من الصور الفوتغرافية التراثية الطبية والوطنية العراقية النادرة.. كما أن الدكتور الفتال كان قد حرص على أن تكون مقالاته باللغة العربية، ومزودة بالصور، دون أن ينسى ذكر المصادر في نهاية مقالته، حفاظا على الأمانة العلمية والتي تبقى ديدنه.. وهكذا نشر الدكتور الفتال مقالاته في موضوعات تأسيس الكلية الطبية العراقية، وموقف البرلمان العراقي منها حينذاك، وشخصية مؤسسها الطبيب البريطاني هاري سندرسن باشا .. وتناول الفتال شخصيات كبار أساتذة الطب العراقيين تفصيلا، حيث وثق سيرة حياتهم ونتاجاتهم ومنهجهم في العمل الطبي، ومن هذه الشخصيات على سبيل المثال لا الحصر: د حنا خياط، د صائب شوكت، د هاشم الوتري، د عبد الأمير علاوي، د سانحة أمين زكي، د كمال السامرائي، د محمود الجليلي، د أحمد عزت القيسي، د سالم الدملوجي، د حسين طالب، د خالد ناجي، د عبد اللطيف البدري والبحرانيان د أحسان و الدكتور زهير البحراني.. كما تناولت مقالات الدكتور الفتال موضوعات مهمة تخص مسيرة الطب والصحة في العراق، منها مقالات توثيقية لكتب تاريخ الطب العراقي والعربي، ومنها ما يخص الطبابة العسكرية العراقية، ومنها ما يفصّل في عمل جمعية تنظيم الأسرة العراقية، ومعهد مكافحة التدرن في العراق، أضافة الى توثيق لمراحل تأسيس الأختصاصات الطبية المختلفة…الى غير ذلك من موضوعات مهمة لا غنى للقاريء عنها.
ومما يفيد القاريء هنا هو التطرق الى بعض ما كتبه الدكتور الفتال حول معهد مكافحة التدرن في العراق، وتوثيقه المهم لأنجازات المعهد في وقاية وعلاج المجتمع من مرض السل الخطير، والذي كان منتشرا بين شرائح المجتمع العراقي المختلفة وخاصة بين الفقراء منهم….يقول الفتال: لقد بدأت أول مبادرة لمكافحة التدرن عام 1918 وذلك بأنشاء مستشفى للعزل في بغداد، حيث كانت بشكلها الأولي البدائي عبارة عن مجموعة من الخيام والتي ضربت قرب بناية ثكنة الخيالة (في زمن العثمانيين) والتي عرفت لاحقا بالكرنتينه، حيث تقع في منخفض من الأرض. وفي العقود الثلاثة الأولى من القرن العشرين لم تكن الأدوية المضادة للتدرن قد عرفت بعد، حيث كان المصابون يلجأون الى مستشفى العزل بأنتظار المصير المحتوم والموت. وفي عام 1935 بدأت ملامح الخطة الصحية للسيطرة على المرض، وذلك من خلال أفتتاح أول مستوصف صدري في جهة الكرخ من بغداد، بالأضافة الى تخصيص حوالي 200 سريرا في مختلف المستشفيات العراقية آنذاك… وهكذا يفصّل الكاتب الدكتور سعد الفتال في موضوعه، بأسلوب رشيق ولغة صافية واضحة سهلة ميسورة على القاريء العام غير المتخصص، والذي يهمه أن يعرف عن تاريخ بلده الطبي.
لقد وجدتُ في حماسة الزميل الدكتور سعد الفتال، ومثابرته وحرصه على توثيق تراث وطنه، خير دافع لي لمواصلة العمل في هذا الأتجاه المهم، والذي نحرص من خلاله على أستلهام الدروس من ماضينا العلمي وصولا لبناء مستقبل أفضل.. فالأمة التي لا ماض لها تستلهم منه العبر والدروس، لن تتمكن من بناء مستقبل يبشر بالخير لأبنائها…
ولم يبتعد القائل عن الصواب عندما قال: أنهم لو عقلوا لعلموا أن مَنْ لا قديم له لا جديد له…