23 ديسمبر، 2024 12:43 ص

توارث الجريمة السياسية – الثقافية

توارث الجريمة السياسية – الثقافية

أكبر جريمة سياسية _ ثقافية ارتكبها حزب البعث خلال 35 سنة من حكمه للعراق جاءت بمنع أي نشاط سياسي خارج نطاق الحزب الحاكم ، ولم يكتف بقرارات المنع وحسب ، بل يتعرض للإعدام إذا تورط الفرد بالانتماء لأية جهة سياسية معادية للحزب والثورة ، وبحسب رؤية سلطة البعث فأن الجميع كانوا اعداءً للحزب والثورة، عدا المنتمين لحزب البعث !
أي ليس أعداء ً للوطن العراق، وإنما للحزب والثورة وتلك إشارة إنسلاخ عما هو وطني وتكثيف وجود الوطن بالحزب والثورة، وبهذا يكون الفكر البعثي (ودون قصد) متطابقا للفكر الاسلاموي الذي يختصر فكرة الوطن بالعقيدة في تمثل لفاشية الفكر والرؤيا .
منع وتجريم وجود تشكيلات سياسية من الاحزاب الوطنية الليبرالية والديمقراطية واليسارية ترافقت معه قرارات استلاب كامل للثقافة والتنوع الثقافي والأدبي والفني، ومن يخرج عن تلك التوجهات والأوامر التي تدفع بها المكاتب الحزبية للبعث بكونها قوانين لحماية الحزب والثورة وتأكيد سلطتهما على العراق . ومن يعارض هذه الوصايا فأنه يضع نفسه بموضع المتآمر ويلقى عقوبات أيسرها ايداع السجون أو التغييب القسري في قرارات إعدام سرية أو علنية.
كانت السياقات صارمة لدوائر الاعلام ومؤسسات الثقافة والأدب والفن، كما أنيطت مهمة الاشراف والمراقبة على عملها لمديرية الأمن العامة وأقسامها المخصصة لمراقبة ماينشر وكذلك عمل ونشاط المنتسبين وتشمل حتى البعثيين، كما كانت تلقى تعاون العديد من العاملين في هذه الدوائر عبر تقاريرهم ضد زملائهم في أجواء من الخوف وشيوع ظاهرة إنفصام الشخصية المهنية والثقافية .
لم يدر بخلد قادة الحزب والسلطة بالعراق، كيف سيكون الوضع بالعراق في حال سقطت سلطة حزب البعث، والاحتمال كان قائما منذ دخول العراق الحرب مع ايران عام 1980 ؟
مَنْ سيكون البديل، وما هو مآل مؤسسات الدولة المدنية والعسكرية والأمنية التي انغلقت على تدرجات الانتماء للبعث ؟
فاشية الفكر القومي لسلطة الحزب _ الفرد التي تكرست بوضوح تام بعد عام 1979 ، وهيمنتها على مقاليد البلاد بإقصاء المواطنية التي يمتاز بها من هو خارج البعث ، ترك فراغا كبيرا لم تنظر له سلطة البعث جراء نظرتها العمياء المتأتية من الانفراد بالحكم ومعاداة ماسواها ، وقمع الافكار الديمقراطية والثقافة التقدمية بتنويعاتها الفلسفية والفكرية وتراكمات منتوجاتها الادبية والسياسية والنقدية الحديثة ، الأمر الذي أتاح لهواء المذاهب الدينية أن تتلاعب بأجواء وأمزجة الناس وتنمو بشحن طائفي تدريجي ، فكان غاطس المشهد السياسي العراقي في تسعينات القرن الماضي يشهد تفاعلا ً غير مسبوق في تشكيل نواتات من ولاءات طائفية معارضة لكنها مستترة بغطاء اسلامي كونه المسموح الوحيد والمدجن سلطويا .
سقوط نظام صدام كشف عن فراغ هائل وتخلف ثقافي _ اجتماعي ينوء بحمل ثلاثون عاما من الممنوعات وأوامر الاقصاء والاعدام لأية توجهات مغايرة للبعث، وفتح الآفاق لإطلاق المكنونات الطائفية والهويات الفرعية أن تنشط بردة فعل متعصبة، في ظل غياب الثقافة الوطنية الحرة والمؤسسات الفكرية المستقلة، إنطلاق العصف الهوياتي والطوائفي استثمر على نحو جيد من ثعالب الاحزاب التي تشكلت خارج البلاد وفق تصميم الهويات الفرعية وتوجيهات الدول الراعية لها ، كما شرع الابواب لتوافد ثقافة العنف والكراهية وجميع انواع السلوكيات المرضية الشاذة التي هشمت البنية الاجتماعية وشوهت التقاليد الاخلاقية للمجتمع العراقي بعد احتجار بعثوي _ صدامي استمر ل 35 عاما .
الجريمة السياسية _ الثقافية التي ارتكبتها حكومة البعث في ثلاثة عقود ونصف أجدها تتكرر منذ أن ترسخت الاحزاب في السلطة وعلى نحو أسوأ مما كانت في زمن البعث الصدامي، فصار الاقصاء ديدن كل حزب يمتلك الوزارة أو الهيئة أو الدائرة ويصبغها بلون حزبه ويكرس مواردها المالية والبشرية لحزبه وعشيرته ، ويحارب كل مستقل أو من يقف خارج حزبه أوينتمي لحزب آخر .
الشيء الآخر المهم جدا هو موت الثقافة المعلن وفق تابوات الاحزاب الاسلاموية المتشددة وتمسكها بموروثها المذهبي والطائفي ومنع مايغايره ، لهذا أصبح من الشائع منظر غلق المسارح وتحول دور السينما الى مخازن للبضائع وتحريم حفلات الموسيقى والغناء في المدن التي كانت أول منتج لها بالتاريخ .
تساوقا مع ماتقدم فأن اجواء المدن في العراق – عدا كردستان – صارت تخالطها روائح البارود، وتنام على إيقاع الرصاص وغرائز الدكة العشائرية ولغة المليشيات وإنفتاح حدود النهب حسب مقادير القوة والسلاح والميليشيا التي تمثلها، مدن العراق تعيش إنقلابا ثقافيا خطير ا وتخلفا كارثيا ً لايعيدها لزمن ماقبل الدولة وحسب، بل لعصر الكهوف والتوحش والجريمة وسقوط حدود الحلال والحرام وانتهاك ماتبقى من روح مدنية أو آثار لحضارة وقانون وحرمات ، مايجعل العراق يخرج من مقاييس ومؤشرات الحياة لدول العالم .