استيقظت العاصمة العراقية بغداد, وفي منطقة ساحة الطيران وسط العاصمة يوم 21ـ01ـ2021 على وقع تفجير انتحاري أرهابي مزدوج مفاجئ، أيقظ أسوأ كوابيس البلاد التي شهدت هدوءاً نسبياً ومتفرقا لسنوات وجدد المخاوف والهلع والرعب من عودة العنف. وأعلنت السلطات العراقية سقوط 32 قتيلاً على الأقل وأكثر من 110 جرحى وقد تتزايد اعداد القتلى بفعل الكم الهائل من الجرحى.
وأن الطريقة التي تمت بها عملية الهجوم وشرحها المسؤولون الأمنيون في وزارتي الدفاع والداخلية تحمل بصمات تنظيم «داعش الأرهابي»، إذ ادعى الانتحاري الأول أنه مريض فتجمع الناس حوله لمساعدته، ففجر نفسه فيهم. وحين تجمع الناس بأعداد أكبر لينتشلوا الضحايا، فجر الانتحاري الثاني نفسه فيهم. ولاحقا قالت وكالة “أعماق”، التابعة لتنظيم الدولة الإسلامية الأرهابي داعش، في بيان تبنت فيه العملية الاجرامية إن الهدف كان ضرب المسلمين الشيعة, ورغم غباء البيان او كذبه بعدم معرفته بالتنوع الأثني والمذهبي لسكنة بغداد وتحديدا في منطقة التفجير التي تضم خليطا من الأنتماءات يوحدها الانتماء الى طبقة الكادحين والشغلية والفقراء الذين يبحثون عن لقمة العيش في ممارسة مختلف المهن من بيع للخضار والملابس وتقديم خدمات الشاي والقهوة لسد رمق العيش اليومي, لكن العملية تتجاوز البعد الطائفي ” رغم عدم مشروعيته وسفالة تبريره ” فهي تستهدف الأمن المجتمعي بعمومه في ظروف حساسة يمر بها العراق أبرزها تفشي الفساد المالي والاداري وعدم المقدرة على وضع حد له الى جانب هشاشة الأمن وضعفه في مختلف مناطق العراق, وكذلك عدم معالجة آثار داعش المتبقية ما بعد القضاء عليه ميدانيا في مناطق تواجده التي احتلها في عام 2014.
ورغم استمرار العمليات الإرهابية التي يقوم بها تنظيم «داعش» في مناطق مختلفة من العراق، لا سيما في غرب البلاد، فضلا عن قيامه قبل نحو أربعة أيام بتفجير محطات طاقة كهربائية بالقرب من منطقة جرف الصخر شمالي محافظة بابل (100 كلم جنوب بغداد)، وكذلك قيامه بعمليات ارهابية من قتل وترويع في مناطق ذات تواجد سني كبير, فإن الأسلوب الذي اتبع في تفجير أمس لم يكن متوقعاً حدوثه، خصوصاً بعد سريان الهدوء الأمني النسبي في العاصمة, رغم بقاء عمليات ذات طابع ارهابي من اغتيال وتصفيات جسدية وخاصة تلك التي طالت المتظاهرين السلميين او من وقف لنصرتهم من السياسين والمحللين وغيرهم, الى جانب مختلف انواع الجرائم.
لعله من نافلة القول بأن التطرف والإرهاب خاصيتان سلوكيتان متصلتان ومنفصلتان بنفس الوقت, أي إن الإرهاب يستدعي تشبع ممارسيه بدرجة عالية من التطرف لكي يندفعوا لارتكاب الفعل الإرهابي, لكن ليست بالضرورة كل متطرف هو إرهابي, إلا إن تحول سلوكيات التطرف إلى فعل إرهابي يرتبط بتأثير السياقات والظروف المجتمعية والأطر التاريخية والعوامل الإيديولوجية والدينية , أي أن التطرف أشبه بحامل فيروس خامل ينشط حين توفر البيئة المواتية لكي يتحول إلى فيروس نشط يجسده فعل الإرهاب, وان سلوك التطرف ـ الإرهابي ليست مقصورة على طائفة بعينها وخاصة عندما تتوفر البيئة الحاضنة له, فبإمكانه أن يكون أراهبا بلباس سني, أو شيعي, أو قومي, أو فاشي وغيره, وخاصة عندما تتشبع هذه المكونات الدينية والاثنية والفكرية بفكرة التطرف والكراهية للآخر المغاير بعيدا عن التسامح والاعتدال والوسطية.
أن كل متابع للمشهد السياسي العراق لم يرى في العمليات الارهابية إلا كونها الذراع المسلح للعملية السياسية في العراق ” بقصد وتخطيط او بدونه “, فهي تنطلق فورا في عملياتها الجبانة حال انفراط عقد السياسة في قبة البرلمان لتوغل في العنف وإراقة الدماء ولتحقيق أجندتها عبر التهديد والوعيد. أن العمليات الإرهابية في العراق تنسجم كثيرا مع رؤى البروفسور بروس هوفمان في قوله : ” إن الإرهاب هو الخلق المتعمد للخوف واستغلاله في تحقيق التغير السياسي , وبالتالي فهو دون شك شكل من أشكال الحرب النفسية “, ويؤكد أيضا أن الناس كثيرا ما يتعرضون للقتل والإصابات المأساوية في هجمات الإرهابيين, إلا أن الإرهاب بطبيعته يرمي لأحداث آثار نفسية بعيدة المدى بشكل يتجاوز الضحية أو الضحايا المباشرين وما استهدفه عنفهم, فالإرهاب يرمي إلى غرس الخوف في داخل النفوس وبالتالي إلى إرهاب المجموعة التي يستهدفها الإرهابيون وللتأثير على سلوكها. أن الإرهاب في العراق يجسد هذا النمط من التصور للفعل الإرهابي في محاولة لإعادة بناء التحالفات السياسية وفق أجندة خارجية وداخلية وفي ظل ظروف غياب ملموس لسلطة الدولة والقضاء العادل وضعف الممارسة الديمقراطية, يقابلها في الطرف الآخر مواطنا مخترق في الأمن والخدمات والعيش الكريم.
وقد لعب الفساد الاداري والمالي دورا كبيرا في ما بعد 2003 في تغذية الارهاب ومده بعوامل بقائه وديموته واعادة انتاجه بأشكال مختلفة سواء بعمليات واسعة النطاق والتأثير كالارهاب الداعشي والقاعدة التي سبقته وكذلك الارهاب الفردي المتمثل بالقتل العمد على الهوية السياسية والمذهبية والدينية بصورة عامة والاثنية, وحتى بسقوط اجزاء من العراق سابقا بيد داعش والتي تجاوزت اكثر من 30% من اراضي العراق كانت من ضمن اسبابها الرئيسية وسهولة وقوعها هو الفساد في الاجهزة الامنية والعسكريين والقيادات السياسية العليا والميدانية, وقد اريقت مئات الألوف من دماء الأبرياء وسبيهم وتشريدهم وتهجيرهم وتغييبهم وواختطافهم. من يخون وطنه ومواطنيه سواء أكان إرهابياً أم فاسداً ، كمن يخون أهله ، ويهدد أمنهم واستقرارهم ومستقبل أطفالهم . أليس الوطن هو الملاذ الأخير لأي مواطن, أليس الوطن وكما يفترض هو الأمن والأمان وهو مظلة الجميع بتنوعاتهم الثقافية والاثنية والمذهبية, أليس الوطن هو من يحفظ كرامة مواطنيه من الأهانة والذل والفقر والجوع ويضمن حد مقبول من كرامة العيش, فمن يعتبر نفسه مواطناً حقاً سواء سياسيا ام مواطن بسيط ، لا يقبل أبداً المساس بوطنه وتسهيل احتلال ارضه وحتى العمالة للأجنبي . أما من ينظر للأمور من خلال مصالحة الشخصية والآنية ، وما يحققه من ثروات كسبها بالحرام والخداع والسرقات والرشاوى والفتاوى ، فالوطن منه براء بل لا ينطبق عليه مفهوم المواطنة, يقال إن وطناً لا تحميه لا تستحق العيش فيه, ووطن لا يحميك فهو ليست وطن كما يتمناه المواطنون ، فكيف إذن لو كنت تسرقه وتعبث فيه, وتسهم في انهياره وتبديد ثرواته, انها فرص داعش الذهبية لأستغلال المناطق الرخوة تلك.
العمليات الارهابية التي وقعت في بغداد كما غيرها من العمليات السابقة تعيد الى الأذهان نفس التساؤلات التي لم تلقي الأجابة بعد, ولعل ابرزها: كيف يمكننا تنظيم قوات الأمن الوطني والمخابرات والعسكرية والداخلية على اسس غير محصصاتية وكذلك الأجهزة القضائية والقانونية , وكيف يمكن حماية تلك الاجهزة والمؤسسات من قبضة وطغيان وعنف الكتل السياسية وميليشياتها الخاصة, وهل تستطيع هذه الجهات محاسبة القيادات السياسية والحكومية النافذة في البرلمان وخارجه. كيف يمكن تفعيل أجهزة الرقابة المالية والقانونية وهيئة النزاهة وماهي ضمانة إستقلاليتها وما هي قوانينها الخاصة وكيف يتم تعيينها ونفس الشيء بالنسبة الى الدوائر الرقابية في جميع مؤسسات الدولة ووزاراتها. كيف نضمن مجتمع آمن بعيدا عن حكم الميليشيات وتسلطها وهي تقارع الدولة بدولة عميقة اقوى منها. أنها مهمات تستدعي تغير بنية النظام السياسي وموازين القوى السياسة فيه.
وكما يقال ” وشهد شاهد من اهلها ” وفي جزء من المعضلة, حيث الكاظمي يقول خلال الجلسة الاستثنائية للمجلس الوزاري للأمن الوطني، (22 كانون الثاني 2021)، إن “الأمن ليس مجرد كلمة نتحدث بها في الاعلام، بل مسؤولية، فحياة الناس وحياة اطفالنا ليست مجاملة، ومن لا يرتقي الى مستوى مسؤولية حماية المواطنين وأمنهم عليه ان يتنحى من موقعه”. وأضاف، “ما حصل يوم امس هوخرق لا نسمح بتكراره، لقد وعدنا شعبنا بالأمن، وهذا الخرق دليل ومؤشر على ان هناك خللا يجب الإسراع بمعالجته”. وقال “ان العراق دولة واحدة ويجب ان تتصرف كل مؤسساته الأمنية والعسكرية بروح واحد، وسنفرض توحيد الجهود الاستخبارية بكل جدية، لا مكان للمجاملة على حساب العراق والعراقيين”. من السهل عليه تشخيص الأزمة “وهو يعيها تماما ” في محاولة لأمتصاص نقمة الشعب ولكن من الصعب عليه تحديد السبل الواضحة للمعالجة والجرأة الكافية, إن لم يكن هو جزء من الأزمة.
المعضلة الأكبر في هذا كله هو الفساد المالي والسياسي الذي يلعب دورا لوجستيا واخلاقيا خطيرا في تسهيل المهمات الارهابية واختراق الاجهزة الأمنية والمخابراتية والعسكرية والتواطئ الميداني مع داعش وغيرها لتنفيذ الأعمال الأجرامية بحق أمن المواطنين وارواحهم, الى جانب الصراع السياسي المستفحل بين القوى السياسية داخل البرلمان والذي يضع الأمن المجتمعي في آخر اهتمامات تلك القوى المتصارعة على السلطة والمال والنفوذ, لا نتحدث هنا عن الفقر وتداعياته المتشعبة بما فيها تغذية الارهاب فهو امر مفرغ منه, وبالتالي فأن كل المعالجات للحد من الارهاب والقضاء عليه تشمل جبهات مختلفة ومتضامنة كما يفترض, اقتصادية واجتماعية وثقافية وأمنية ونفسية, وتشكل جزء من عمليات الأصلاح الشامل للمنظومة الاجتماعية وتشعباتها والقائمة اساسا على اساس العدل ودولة القانون لفرض الأمن المجتمعي الشامل.
المجد والخلود لشهداء ساحة الطيران والشفاء العاجل للجرحى والصبر والسلوان لذوي المفقودين, والخزي والعار للقتلة المجرمين مرتكبي الجريمة الشنعاء, من داعش الارهابي الكافر بكل القيم الانسانية وغيرهم سفاكي دماء شعبنا الصابر والمناضل, وكل الأمن والأمان لبغداد الحبيبة واهلها وللعراق اجمع.