مضت أيام الصيف القائض واقترب الخريف، بعدما طلعت الشمس على المدرسة، في أول يوم من بدء العام الدراسي الجديد، كانت بنايتها أشبه بالخربة ، مكونة من عدة صفوف على شكل مربع ينقصه ضلع، دق الجرس ودخل التلاميذ إلى الصفوف، كان كل شيء فيها رث وبال ، وتركت الشبابيك فيها مفتوحة على مصاريعها بسبب تحطم زجاجها، وكانت الجدران رطبة، ولايوجد فيها تبريد أثناء الصيف ولاتدفئة أثناء الشتاء، ونظام التعليم فيها شاخ كما شاخت بنايتها.
دخلت المعلمة إلى الصف، وجدته مكتضا بالتلاميذ، لم تلتمس سبيل التعرف بهم، ولاتوطيد علاقة المودة والصداقة مع الأطفال، حاولت بصعوبة أن تجلس كل ثلاثة أو أربعة تلاميذ في رحلة واحدة، ومع ذلك كان الصغار يصرخون ويمرحون ويضحكون فرحين منطلقين عند انتهاء الحصة، كانوا يرتدون أجمل ملابسهم وصفف شعرهم بعناية، ولكن ثمة من بينهم صبي غض فيه صفرة، كان يرتدي قميصا بسيطا وبنطارا وحذاء قديمين، لم يحب المدرسة من أول يوم، أحس بأنها تضطهده اجتماعيا، وتشعره بالذلة والمهانة، لذلك بقي جامدا وصامتا غير عابئ بمن حوله، منقطع عن أصوات الأطفال الزاعقة، وكأنه يعيش في احتضار مزمن، والوانا من الشقاء المكبوت.
لم يبدي الصغير أي استجابة لطرائق التدريس التي تتبعها المعلمة لتعليم التلاميذ، كانت تقف عنده ثوان لاتتجاوز النصف دقيقة، تضع علامة X على دفتره، وأحيانا تحرك أصابعه بيدها ليكتب حرفا واحدا أو حرفين ثم تتركه يائسة،وكان من جانبه يتعامل معها بتحفظ وريبة ،كان يحس بشعور غريب وهو عدم الارتياح، وفي احد الايام كتبت عبارات في دفتره لم يفهم مغزاها، وطلبت منه أن يريها إلى امه كي تقرأها، رفع بصره نحوها واصل النظر إليها برهة ثم عاد مطرقا، كان يتوسل اليها بنظرات مذعورة .
بعد تلك الملاحظات المكتوبة في دفتره، لم تعد تسأله عن واجباته المدرسية، وكانت تتجاوزه عندما تصل إليه وتذهب إلى التلميذ الذي يليه مباشرة، فأصبح داخل الصف يائس مثلوج، يخيم عليه الوجوم، وفي احد الايام وعندما كان شارد الذهن بمتاهة جمال امه ، وهي تلبسه أجمل الملابس حسب ذوقها الرفيع، وتطوقه بذراعيها وتربت على شعره، وتزيده نشاطا وبهجة وهي تناديه ياحبيبي، كانت امرأة عصرية تستدر حنان الآخرين وعطفهم .. وإذا بالتلميذ الذي يجلس خلفه، ينادي المعلمة ويقول لها :
– ست هذا التلميذ في شعره قمل
ومن فورها تركت السبورة وهجمت عليه مسرعة وبشراسة، تملكه رعب شديد عندما فرجت مفرق شعره بعنف، ثم صفعته على خده، وقالت له :
– لن تدخل الصف ثانية دون أن تأتي معك أمك القذرة .
ثم اوقفته في زاوية قصية من الصف، بدأت دموعه تتجارى بصمت وجمود، ثم التوى بشكل يثير الشفقة واضعا رأسه بين ركبتيه، بدأ يئن بصوت خافت.
قرر أن يشكو لأمه كلمات المعلمة النابية بحقها، وفي عيد الأضحى حيث ذهبت عائلته، لزيارة قبر امه، وما كانت عجلات السيارة تتوقف عن الدوار، حتى فتح الباب مسرعا نحوها، رمى بجسده الخائف على قبرها، احتضن القبر بلهفة وشوق، ونادها بصوت يذيب الصخر :
– أماه لقد صفعتني المعلمة على خدي ونعتتك بالقذرة …