23 ديسمبر، 2024 1:23 ص

تهميش خطاب الفكر الإصلاحي في العراق!

تهميش خطاب الفكر الإصلاحي في العراق!

يمثل الفكر أهمية كبرى في حياة الدول والشعوب لما له دور فعال ورسالة نبيلة على مر العصور. فمنذ أن وجد الإنسان وعرف اللغة والكلام نشأت عنده حاجة للتطلع والبحث والمعرفة والتطور، فكان لابد له أن يُعبر عن آرائه وأفكاره بكل حرية. أن الأمم الحية هي التي تقدر وتثمن الفكر الإصلاحي التنويري النهضوي، ويعد العراق من الأمم الحية التي لا تموت، بما لديه من ثروة كبيرة من المفكرين والنخبة سواء كانت دينية أو علمانية، تلك النخب التي تمثل القوى الحية والفاعلة لتصحيح مسار الخطاب السياسي مقابل موت الحركات السياسية منذ أكثر من ستة عقود.
لقد سجل لنا التاريخ العربي والإسلامي وتحديدا في العراق العديد من الخطابات التي جاء بها المفكـرون والعلمـاء المسلمون بهدف الإصلاح والتغيير والتجديد في أطار نشوء مفهوم الدولة والتي طرحت في وعي الإصلاحيين على أنها فكرة نتاج تاريخي سياسي والمتأثرة بالنموذج الغربي للدولة، وكان الهدف من طرحها هو الإصلاح والنهضة والبحث في أسباب تقدم الغرب وتراجع المسلمين والدفاع عن فكرة الدولة الوطنية، ويعتبر كل من (رفاعة الطهطاوي، خير الدين التونسي، جمال الدين الأفغاني، محمد عبده) من الجيل الإصلاحي الأول، وقد بدأ هذا السياق في النصف الثاني من القرن التاسع عشر بعد أن توطدت صلة الإصلاحيين بالمنظومة الفكرية الليبرالية. “وبعد وفاة الأفغاني تابع نشاط مدرسة الإصلاح السياسي في الفكر السياسي الإسلامي عدد من الفقهاء خاصة من الشيعة الذين كانوا أكثر استقلال عن مؤسسة الخلافة، ومن أبرز هؤلاء الشيخ كاظم الخرساني الذي كان يرى الحركة الدستورية آلية للحيلولة دون الظلم والاضطهاد في حق الشعب، وأكد على دعم تلك الحركة” (من كتاب الدكتور فاخر جاسم، دراسات في الفكر السياسي الإسلامي ص173). وكذلك الشيخ مهدي شمس الدين الذي يعتقد أن نظام الحكم يجب ألا يتعدى الحدود التي رسمت له، وعكس ذلك سوف تنقطع صلته بالدين الإسلامي، إضافة إلى ضرورة توافر العنصر الأخلاقي في الحكام، سيما أن الإسلام ومكارم الأخلاق واحد، وفي حالة انحراف هذا النظام عن المبادئ الإسلامية وعدم توافر العنصر الأخلاقي كان خارجا عن الإسلام ولا يمكن اعتباره إسلاميا. أما الحركة الدستورية عام 1906، فهي تعتبر أول حركة سياسية معاصرة دخلت فيها المرجعية الدينية في النجف الأشرف النشاط السياسي على نطاق واسع، حيث دعت المرجعية إلى وضع دستور يتقيد به الحاكم. وقبل هذا وضح أبو الحسن الماوردي أحد علماء أهل السُنة أن أسباب انهيار الدولة هي، الإهمال والعجز والظلم والجور، التي تؤدي إلى تفكك الدولة، وأن الحكم قد يثبت ويستقر إذا حكم بالعدل بين الناس، ويصبح حينئذ حكم تفويض وطاعة، أما إذا كان الحكم جائر وظالم فيهلك الشعب وتخرب البلد. ويبين الماوردي أن وظيفة الدين هي حفظ وحراسة قواعد النظام القانوني الإسلامي وليس إقامته، بمعنى أنه رفض (الثيوقراطية) لأن الغرض من إقامة الدول الالتزام بمفاهيم وقيم وقواعد الإسلام بحسب رأي الماوردي.
إن إشكالية انتكاسة خطاب الفكر الإصلاحي في العراق ليست مقتصرة على تجربة حكم معينة، وإنما عانت منه الحركة الإصلاحية بتياريها الديني والعلماني في كل تجارب الحكم التي مرت، بمعنى أن أغلب الحكومات التي وصلت إلى السلطة بمختلف اتجاهاتها ومسمياتها وأيديولوجيتها سواء كانت حكومات عسكرية، قومية، ثيوقراطية، ليبرالية، اشتراكية أو يسارية، تميزت أثناء ممارستها للحكم باختيارها النمط المحافظ أو المتشدد في التعبير والمواجهة السياسية مع خصومها، حيث غلب عليها طغيان العامل السياسي على العامل الفكري في الصراع الاجتماعي والثقافي، إضافة إلى أن تلك الحكومات وجهت الرأي العام بما يخدم بقاءها في السلطة. وما بين الخطاب والممارسة السياسية لتيار السلطة، فهو نظام فكري يحمل مجموعة من التصورات والمعتقدات، وينسب لممارسته في السلطة الصفات التمجيدية رغم كل ما كشفته التجربة عن عيوب رهيبة في الفكر والسلوك. من ثم فإن هذا التيار استطاع أن يتشرنق داخل نفسه أي قدرته على البقاء والاستمرار لكن غير قادر على النمو. وتأسيسا لما تقدم كان من الطبيعي أن يتصادم النموذجان الإصلاحي والسلطة بحكم الاختلاف القائم في طبيعة التيارين من حيث الخطاب الفكري. ومن ثم شهد العراق حلقات من الصراع بين التيار التقليدي الممسك بزمام السلطة والتيار المعارض الميال للإصلاح والتجديد انتصرت فيها السلطة في كل المراحل. لكن بالرغم من الهيمنة الفعلية للتيار المتشدد على الدولة باعتباره الوعاء الفضفاض للشعب، إلا أنه لم يفلح في طمس الحاجة الموضوعية لوجود تيار إصلاحي في إطار تداول السلطة. في السياق ذاته فقد اعتكف أصحاب الاتجاه العلماني وفلسفتهم المنهجية الغربية على انجاز مشروعات نهضوية إحساسا بالعجز الفكري أمام الخطاب الفكري المتشدد للسلطة.
في السياق ذاته، لقد فرضت إشكالية كافة تجارب الحكم نفسها على الفكر الإصلاحي، لأنها وضعت الإصلاح الفكري كخطاب متناقض بين السلطة والشعب، لأن عملية التحول والوصول إلى سدة الحكم، تختلف عن السياق التي جاءت فيه تجارب دول أخرى. حيث أنها لم تتمكن من السير وفق أطروحاتها وتنظيراتها الفكرية، بل تكيفت وحسب ما تمليه ظروف المرحلة الانتقالية. وبعد أن تنتقل القوى السياسية أيا كانت المسميات وكما ذكرنا آنفا (عسكرية، حزبية، ثيوقراطية) من موقع المعارضة إلى موقع السلطة لم تكن قادرة على مواجهة النمط المجتمعي الذي يتمسك به عموم العراقيين. لقد كان من الواضح المواقف السلبية للنخبة السياسية والثقافية في العراق اتجاه السلطة وسلوكها وخطابها السياسي، رافضة الخطاب التضليلي للسلطة، وقد جاء هذا النقد على خلفية عدم تغيير أو مراجعة لرؤيتها الفكرية.
أما الأسباب التي أدت إلى ضعف وتدهور الحركة الإصلاحية في العراق من جانب السلطة، أبرزها، أولا، طغيان العامل السياسي أو الإرهاب السياسي والفكري الذي مارسته السلطة ضد أغلب التيارات الإصلاحية، وعدم استيعاب هذا التيار وإعطاءه مرونة واقعية، حيث أصبح الفكر الإصلاحي صورة طوباوية في الواقع العراقي. ثانيا، ترسخت لدى تيار السلطة أحادية في التعاطي مع قضايا الواقع العراقي من كافة النواحي، الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والفكرية والثقافية، فهم يمتلكون الحق ملكية حصرية، فطرحهم وآرائهم قطعية لا ظنية احتمالية. ثالثا، تعرض تيار الإصلاح الفكري للإساءات وعبارات التخوين واتهامات خطيرة من قبل السلطات بغرض إبعاده عن المشهد السياسي، كما تعرض للتهميش ولم يمنح فرصة للحراك السياسي والاجتماعي.
وفيما يتعلق بتيار الإصلاح الفكري نفسه، أولا، تخلي النخب البيروقراطية عن مشروع الإصلاح. ثانيا، التناقض بين الفعل وبين الخطاب لبعض من تيارات الفكر الإصلاحي والذي مثل فجوة يعاني منها هذا التيار وتحديدا (الديني والعلماني) في موقفهم من قضية الدولة، سيما أنهم في بعض المواقف يمارسون فعلا سياسيا ينتمي إلى لحظة السلطة الحاكمة، لكن في نفس الوقت إن الإطار الفكري لهذا التيار عاكف على تداول أفكار ونظريات سياسية تنتمي إلى السلطة الحاكمة نفسها، مع العرض أنهم يدعون إلى (اليوتوبيا) أي المجتمع المثالي الذي يتطلب تغييرا جذريا للمجتمع العراقي والخروج عن الأيديولوجيا التي تولد المشكلات الاجتماعية. وهذا هو التناقض ما بين الفعل وبين الخطاب. ثالثا، لم يكن التيار الإصلاحي قادرا على أن يلهم الطبقات الفقيرة والمهمشة ويكون مشروعا للخلاص، ولم يستطيع جذب الطبقات الوسطى والبرجوازية أيضا. رابعا، هذا فضلا عن كون بعض الطروحات الفكرية الإصلاحية غير منزهة عن الأدلجة.
ووفقا لما تقدم، وفي أطار هذه البانروما التاريخية المتواضعة يحتاج الإصلاحيون إلى وقفة يقوم عليها بنائهم النظري والأيديولوجي والسياسي، وبالتالي التنظيمي.