18 ديسمبر، 2024 7:14 م

تهشيم الدولة العراقيّة!

تهشيم الدولة العراقيّة!

قيام الدول حاجة إنسانيّة ضروريّة لحماية الفرد والجماعات ولتنظيم الحياة، ولإدارة المؤسّسات المدنيّة والعسكريّة وبما يضمن تحقيق سلامة المواطنين ومصالحهم وتوفير الأمن وضروريّات الحياة المتنوّعة.
وقد شهد العراق بعد العام 2003 محاولات ومشاريع محلّيّة وأجنبيّة هدفها تهشيم كيان الدولة وشعبها وتاريخها ومقدّراتها!
وتهشيم الدولة العراقيّة أخذ العديد من الصور، ومنها:
– هويّة الدولة: لم تُعرف، حتّى الساعة، هويّة الدولة، ولقد ذابت الدولة بين الهويّتين الدينيّة والديمقراطيّة، وضاعت إدارتها بين المؤسّسة الدينيّة والهيكل الرسميّ.
– تقزيم قوّة الدولة: الدولة التي لا تبسط سطوتها على الأرض بالأدوات المادّيّة والقانونيّة هي دولة مهشّمة.
وتأتي قوّة الدولة من بناء المنظومات الأمنيّة والمخابراتيّة والاستخباريّة على أسس مهنيّة، والتركيز على جانب الولاء للوطن وليس لأيّ قوّة داخليّة أو خارجيّة، وهذا ما تفتقر إليه غالبيّة أذرع الدولة الأمنيّة والعسكريّة.
– ضبابيّة سياسات الدولة: لا أحد يعرف مَنْ الذي يُنظّم سياسات الدولة الداخليّة والخارجيّة، وما هي توجّهات السياسات العامّة، وما هي خططها، وبرامجها، وتحالفاتها وغيرها من الإجراءات الغارقة وسط دهاليز مظلمة تؤكّد غياب مخطّطات سياسة إدارة البلاد.
– تجميد بناء الدولة: تُحسب المشاريع الخدميّة والتنمويّة ضمن أهمّ مؤشّرات الدولة العاملة، ولم نرَ في العراق بعد العام 2003 أيّ بناء أو تطوير لمشاريع مهمّة يُشار إليها، والغالبيّة العظمى من المشاريع القائمة هي نتاج مراحل ما قبل الاحتلال!
– ضياع موارد الدولة: يعاني العراق، رغم موارده النفطيّة العملاقة باعتباره خامس مصدر للنفط في العالم، من ضبابيّة الإنفاق، وهدر مدهش للثروة الماليّة، وتنامٍ مؤلم لطبقة الفقراء التي تجاوزت العشرة ملايين مواطن!
فمَنْ المسؤول عن ضياع الثروات الوطنيّة؟
– مجهوليّة مستقبل الدولة: ومع جميع المعطيات الخطيرة المتقدّمة أتصوّر أنّ مستقبل العراق مُفزع، وأنّ الدولة سائرة نحو التقويض شبه التامّ وذلك نتيجة لحطيم السيادتين الداخليّة والخارجيّة، وتمييع سطوة القانون والقضاء، وتدمير القطاعات المجسدة لهويّة الدولة وكرامتها، وجميعها عوامل آكلة لمكانة الدولة ومستقبلها!
ولا ندري كيف ببنى الوطن مع الانتشار الكاسح والمرعب للإرهاب في كركوك وديالى والبصرة وغيرها، وأيضا مع تنامي الجريمة المنظّمة، والاتّجار بالبشر، والمخدّرات، والسحق لقيم الترابط الأسريّ والمجتمعيّ وغيرها من السلبيّات المجهضة للوعي الإنسانيّ، والقاصمة لظهر الدولة، والمضيّعة لسمعتها إلى درجة التهشيم!
ولا نفهم لمصلحة مَنْ تُهشّم دولة عريقة مثل العراق؟
إنّ الخطابات الرسميّة المتكرّرة وغير المقرونة بالعمل لا يمكنها نَشر الأمن، أو تَحريك المصانع، أو تَدوير عجلة الإعمار، أو بَسط نفوذ الدولة، ولربّ فعل أقوى من مئات الخطابات والبيانات غير العمليّة والخياليّة البعيدة عن الواقع.
ويفترض بالدولة القائمة على المؤسّسات أن تبسّط هيبتها في الدوائر الرسميّة، المدنيّة والعسكريّة، وجميع ميادين الحياة، في الأرض والجوّ والبحر!
فأين هي آثار وحقيقة سياسات الحكومات التي تدعي المحافظة على هيكل الدولة، ونحن نعيش حالة من الفوضى العارمة في الحقول الانتخابيّة والقضائيّة والإعلاميّة والفنيّة وحتّى الرياضيّة؟
إنّ مؤامرات تهشيم الدولة عبر تمييع القوّة العادلة وتطبيق السياسة الناعمة في غير محلّها قد ظهرت نتائجها السلبيّة في أغلب المجالات، ولهذا فإنّ السياسات الصلبة العادلة هي الأداة الأمثل لحماية الدولة والمجتمع معاً، وكلّما كانت تلك السياسات واقعيّة وقويّة كلّما كانت آثارها فاعلة وحيويّة!
وقد لاحظنا بأنّ حالة الميوعة وعدم جدّيّة السلطات التنفيذيّة في تطبيق القانون تعتبر من أخطر أدوات التدمير لمفهوم الحكم وحرمة الدولة، وقد شجّعت القوى الشرّيرة الإرهابيّة (المسكوت عنها) لسحق الأبرياء الذين لا يملكون سندا حزبيّا أو عشائريّا!
ولقد أثبتت التجارب الإنسانيّة أنّ الحرّيّة لا تعني الفوضى، والانفتاح على العالم لا يعني الانفلات من القيم الخُلقيّة والمجتمعيّة والقانونيّة وإلا فهذه معاول صلبة لهدم كلّ ما له علاقة بالإنسان والوطن، والحاضر والمستقبل!
لم تَعُد الأزمة العراقيّة اليوم مجرّد محنة فقر وخدمات وغيرها، وإنّما المأزق الحقيقيّ يتمثّل بعدم وجود عمليّة سياسيّة جامعة، ودولة مؤسّسات قويّة، حيث يُعدّ فرض الأمن العمود الفقريّ للدولة، والدولة الخاليّة من الأمن، أو التي تطبّقه على فئات دون أخرى هي شبه دولة، أو دولة كارتونيّة!
أعيدوا ترميم الدولة العراقيّة بضبط الأمن، وقوّة القضاء، والعدل، واحترام إنسانيّة المواطن داخل البلاد وخارجها، وإلا فإنّ المصير المظلم سيهشّم الدولة والناس!
dr_jasemj67@