قد تكون المرة الأولى في تاريخ القوى العظمى التي تعاقبت على البشرية ان تبقى فيها دوله وحيده باعتبارها القطب والمركز الأوحد بين أمم وشعوب الأرض لكنها في ذات الوقت دوله (مفلسة ماليا) تعيش على قروض الاخرين.. يلاحقها الدائنون الدوليون ويعظهم كانوا قبل عقود قليله مجرد دول فقيرة تتوسل من اجل الاقتراض من المؤسسات المالية الدولية التي ظهرت في إعقاب اتفاقية( بريتون وودز) والأخرى مستعمرات سابقه او دول لم يكن يحسب لها أي حساب في الهرم الاقتصادي العالمي وبعضها سحقتها إقدام الأمريكيين العسكرية بلا رحمه باستعمال السلاح النووي أو أرهق أنظمتها الشيوعية سباق التسلح والحرب الباردة أو نظر لها الأمريكيون باستعلاء لأنها لم تكن ضمن تصوراتهم المستقبلية.
ولكن هذا هو حال الدنيا ومشيئة الله تعالى.
لقد عكست اتفاقية (بزيتون وودز) عام 1944 التي تم بموجبها إنشاء صندوق النقد الدولي والبنك الدولي معايير القوة الجديدة بعد الحرب العالمية الثانية وفرض المنتصر لشروطه حيث وقعت 44 دوله عليها لوضع أسس النظام النقدي العالمي والإقراض والتجارة الدولية والمدفوعات سعيا وراء استقرار النظام المالي ووافقت على اعتماد الدولار كمرجعية نقدية عالمية والمحافظة على سعر صرف عملاتها تجاهه عند هامش 10% فقط والامتناع عن خفضه أكثر لدعم صادراتها.
لكن بداية عقد السبعينات من القرن الماضي اثبت أن هذا الحلم لم يعد قائما على أسس واقعية مما اضطر الأمريكيين الى التنصل عن غطاء الذهب لعملتهم في وقت لم تكن هناك أي عملة أخرى بديله وقد لجا الأمريكيون الى المديونية لتغطية عجز الموازنة المتراكم في وقت بدأت فيه ولادة نمور شرسة وسط تلك الغابات الأسيوية التي لم يعرها الأمريكيون أي اهتمام رغم نصائح البريطانيين.
القرن الحادي والعشرون هو القرن الأسيوي بعد أن كان القرن السابق حكرا على غرب أوروبا ومن ثم أمريكا وأساس هذا التصور المستقبلي الذي تؤكده ألازمه الاقتصادية الأمريكية والأوروبية الراهنه ان اغلب الصناعات والمواد الخام والتجارة العالمية والطاقة وكثير من إسرار المعلوماتية بيد الأسيويين لا غيرهم ومن هنا يراهن الروس على أسيا لا على أوروبا العجوز التي لا تستطيع العيش بدون غازهم وإلا تعرضت للتجمد .
فهناك أي في أسيا الغنية بالبشر والثروات والسكان ابتدأت الحضارة واليها تعود وسيعاد ترتيب هرم القوه العالمية على غرار ما حصل بعد ان بدأت الشمس تغيب عن بريطانيا التي شاخت بعد عدوانها على مصر عام 1956 .. وقوانين القوة العسكرية والبلطجة الكونية لم تعد قادرة على رسم المستقبل والدليل ان أوروبا أمست مفاتيحها وعملتها بيد الألمان الذين خسروا حربين عالميتين لكنهم كسبوا رهان الاقتصاد أسوه باليابانيين.
في ال 17 من أكتوبر الجاري يتوجب على واشنطن ان تقرر فيما إذا كانت ستعلن إفلاسها وعدم قدرتها على تسديد الديون او تستسلم للإرادة السياسية ومنطق التوافق بين الحزبين الجمهوري والديمقراطي ….واكبر من يراقب الأمر بقلق كبير هم اليابانيون والصينيون الذين يحتفظون بسندات خزينة تغطي خارطة الولايات المتحدة الأمريكية ويخشون ان ما صدروه لأمريكا وما حصلوا عليه من سندات خزينة سيتحول إلى ورق في حال أعلنت واشنطن الإفلاس فمن أين سيستردون ديونهم ؟؟؟
ان قيمة الدين الخارجي الأمريكي هي الأعلى منذ بدء استخدام الإنسان للعملة وتعادل اليوم (16700 مليار دولار أمريكي)!!!! وقد يسال غير المختصين عما حصل ولماذا لا تستمر الخزينة الأمريكية بالاقتراض؟ فنقول ان الدستور الأمريكي حدد هذا بالسقف الأعلى مقارنه بقيمه الناتج المحلي الإجمالي وان المناقشات داخل الكونغرس الأمريكي تعرقل رفع هذا السقف وسط تناقضات حادة بشان مشروع موازنة العام القادم تحول دون التوصل إلى أي اتفاق وسطي بين الجمهوريين والديمقراطيين رغم ان الاقتصاد الأمريكي قد وضع خطاه على حافة إعلان الإفلاس ومنذ أسبوع دخلت الحكومة الامريكيه في بطالة مؤقتة بعد ان تحولت قضيه رفع سقف الدين السيادي الأمريكي إلى لعبه بين الحزبين يراقبها العالم برمته.
ان ما تحتاجه الخزينة الامريكيه حاليا هو مبلغ 441 مليار دولار تستحق الدفع للدائنين خلال الفترة (18 أكتوبر -15 نوفمبر) من هذا العام بينما لا تتجاوز ألسيوله المتاحة لدى الخزينة حاليا 30 مليار دولار فقط ولا تتوقع ان تتجاوز قيمه الضرائب 8 مليارات دولار حتى نهاية العام المالي .من أين إذن سيحصل الأمريكيون على هذا المبلغ الكبير جدا؟؟؟
في الجانب الأخر من القضية المقرضون الأجانب ينتظرون تحصيل ديون من الخزينة الأمريكية تتجاوز 5600 مليار دولار وهي أعلى 11 مره من ديون مصرف Lehman brothers العملاق الأمريكي الذي أعلن إفلاسه عام 2008 مشعلا نار الأزمة الاقتصادية العالمية التي كانت أكثر مضيا وقسوة في غرب أوروبا لتكشف عن أزمة الديون السيادية في العديد من دول الاتحاد الأوروبي .
وتبلغ ديون الصين بذمه الأمريكيين 1277 مليار دولار تليها اليابان 1135مليار دولار ،البرازيل 256مليار ، سويسرا 178 مليار، بريطانيا 156 مليار، روسيا 131 مليار،هونغ كونغ 120 مليار، ايرلندا 118 مليار، سنغافورة 81 مليار، النرويج 74 مليار، كندا 65 مليار، الهند 59 مليار، المكسيك 63 مليار، ألمانيا 56 مليار دولار وباقي الدول 770 مليار دولار.!!!!
لهذا فان (وول ستريت) والحكومات الأجنبية حذرت واشنطن من مغبة إعلانها لعدم القدرة على الدفع الذي سيكون بمثابة تسو نامي مالي عالمي لا يمكن تصور نتائجه الكارثة وأكثر المهتمين والمتابعين لدرجته على مقياس الرعب هم الصينيون واليابانيون لهذا فقد حذر وزير المالية الياباني الأمريكيين من مغبة الإعلان عن عدم القدرة على الدفع رغم ان مستواهم الائتماني العالمي عند مستوى (AAA) وهو أفضل مستوى تحدد مؤسسات الإقراض الدولية قائلا انه سينهار في لحظه إعلان عدم التوافق بين الجمهوريين والديمقراطيين على رفع مستوى الدين وهو ما سيقود الى انهيار الاقتصاد الأمريكي وإ انهيار السوق النقدي والمصرفي العالمي بصورة كوارثيه لم يعرفها الاقتصاد العالمي من قبل.
الصين كان لها رد فعل اشد عنفا وقد ورد على لسان وكيل وزارة المالية زاهو غوانجياو حيت كشف النقاب أنهم اتصلوا بالأمريكيين وحذروهم من مغبة إعلان إفلاسهم لإقناع المستثمرين الصينيين بالعودة لأمريكا ولكي يستعيد الاقتصاد العالمي أعصابه… ومنذ عام 2011 يتابع الصينيون هذه القضية بقلق بالغ حيث توصل الأمريكيون في اللحظة الأخيرة حينها لاتفاق يمنع إعلان الإفلاس بعد التوصل لحل وسط داخل الكونغرس الأمريكي وقد علق رئيس الوزراء الصيني على الأمر بقوله نأمل ان تكون الولايات المتحدة قد تعلمت من هذا الدرس التاريخي!
ربما يفسر قلق الأسيويين على ديونهم مع اقتراب اليوم المشهود في 17 أكتوبر الذي سيكون اخطر من الحادي عشر من سبتمبر 2001م عدم وجود إجابة لدى الرئيس الأمريكي حول ما سيحصل غدا وتغيبه عن قمة التعاون الاقتصادي لأسيا والباسفيك (APEC) والتي ستعقد الأسبوع الجاري في بالي في اندونيسيا.
وقد برر اوباما موقفه بأنه لا يستطيع ان يغادر واشنطن وسط هذه ألازمه المالية الخطيرة ولهذا فقد تخلى عن مقعده للرئيس الصيني والذي أصبح رئيس اكبر تجمع اقتصادي عالمي حيث تحتل الصين المركز الثاني في الاقتصاد العالمي بعد الولايات المتحدة من حيث الناتج القومي.
ان تعين (جانيت يالين) على رئاسة الاحتياطي الفدرالي والبنك المركزي والتي تشغل حاليا منصب نائب الرئيس بدلا عن (بين بيرنانك) لم يكن سوى جرعة مخدرة مؤقتة أراد من وراءها البيت الأبيض توجيه رسالة للدائنين الأجانب لطمأنتهم ومنع الانهيار العالمي غير ان هذه ألسيده لا تمتلك عصى سحرية وليست قديسه لتحقق المعجزات التي لن تهبط من المريخ مع الصحون الطائرة التي يؤمن بها الأمريكيون!!
مؤسسة STANDER& POOR واحده من بين ثلاثة مؤسسات عالمية كبرى لتقييم الأوضاع المالية قررت ان تعيد النظر في تقييمها للمستوى المالي الأمريكي والذي فقد لأول مره تصنيفه الأول في وقت يجد اليابانيون والصينيون أنهم مضطرون للتدخل في شان داخلي أمريكي وإبقاء الخطوط الحمراء مفتوحة مع واشنطن لمنع الكارثة.. ويخشى اليابانيون من تداعيات تقلص الوجود العسكري الأمريكي في أسيا في وقت يزداد فيه التوتر بين الصين واليابان على أراضي وجزر متنازع عليها بينما يتعاظم التعاون العسكري والسياسي والاقتصادي بين الصين وروسيا.
هل انتهى الحلم الأمريكي مع سقوط أخر الأوراق وكشف دفاتر الإفلاس. ام أن الترسانة العسكرية الأمريكية لازالت آخر مظاهر هذه القوه؟؟
بوخارست