23 ديسمبر، 2024 9:47 ص

تنفرد بها ( كتابات ) في ذكراها الأولى .. أيام هستيريا الرعب والإرهاب في شهادة خطف الصحافية ” أفراح شوقي “

تنفرد بها ( كتابات ) في ذكراها الأولى .. أيام هستيريا الرعب والإرهاب في شهادة خطف الصحافية ” أفراح شوقي “

خاص – كتابات 

تسعة ايام في زنزانة الموت !

هذا اليوم بالذات، قبل عام، كم أخشاه وكم أتمنى أن يشطب من روزنامة التأريخ.. ومن عقلي ومن ذاكرة وجع أهلي وأصدقائي.. ومن عناوين الصحف ونشرات الأخبار.. وأحاديث الناس..
هذا اليوم الأسود.. بتأريخ روحي وبلدي.. مازالت صوره عالقة أمامي بكل لحظاته ووجعه وغصته.. وحتى لفحات الهواء التي لامست وجهي فجر صباحه البارد وحتى ساعته العاشرة ليلاً، تلك الساعة التي أذنت بأقتحام الغرباء بيتي عنوة، وكم خلفت بعدها من جروح وندوب أسعى للخلاص منها حتى هذه اللحظة.

أصوات تحَذر ونباح كلاب ..
صباح ذلك اليوم.. تكرر معي ذات الشعور، الذي راودني قبل أسابيع من الحادث، وكنت قد خبرت به صديقة عمري الأقرب الصحافية والقاصة، “وداد إبراهيم”، وهي تشاركني غرفتي في مبنى “وزارة الثقافة”، كنت أخبرها أني أستيقط هذه الأيام بروح مقبوضة، ولا أعرف السبب (!).. كانت تخفف عني وتقول: “أفتحي شبابيك غرفتك صباحاً وأستنشقي هواء نقي وأستغفري الله وصلي صلاة الفجر”..
لأكثر من شهر ظل عدد كبير من أصدقائي المقربين ينصحوني بالإبتعاد والتوقف عن الكتابة أو النشر، حتى تهدأ العواصف وتصمت تلك الكلاب السائبة، التي كانت تعوي بشراسة حولي..
بعضهم أقترح عليَ السفر بعيداً حماية لأولادي.. وأخرون أقترحوا أن أجري لقاءات مع شخصيات سياسية بارزة لأجل تأمين بعض الحماية لنفسي، الوضع متأزم في كل مكان.. منشورات ومسجات الهاتف، (الرسائل النصية)، و”الماسنغر” و”الفايبر”، جميعها تعج بالتحذيرات والمخاوف والتهديدات.. “أتركي بلدك وسافري، الهجمة صارت أكبر منك”..  وأنا أمامها أحاول التشبث بشجاعتي على الأقل أمام أولادي وأنا المسؤولة عنهم، وكيما أخفف من قلق أهلي واتصالاتهم التي لا تنقطع..
لازلت أستعيد لحظات حيرتي وأنا أرد على مهاتفة الصديقة الرقيقة،…، وهي تخبرني بوجود سيارات مستعدة للسفر بي الآن حالاً مع أولادي إلى “أربيل” أو “السليمانية” لأجل تأمين حياتي.. وأن لا ملاذ لي إلا الخروج من بلدي..
الكثير من الأصوات مرت بذاكرتي.. آخرها، (ويالمصادفة)، كانت لزميل لي في “وزارة الثقافة”، أثق بإخلاصه رافقني لدى خروجي من بوابة الوزارة، في ذات يوم الحادث، وقال ليَ: “أحذري أفراح.. أتركي الكتابة عن العصابات وحملة السلاح السائب.. بلدك صار بيدهم وأنتهى الأمر.. أنا أخاف عليك، ألا تخافين على نفسك ؟”.
كانت ردودي دائماً بأنها موجة تهديدات وستنتهي، مثلما يحصل في كل مرة، أبطالها من جيوش إلكترونية أعتادت البطولة عبر “أزرار الكيبورد”، وإن هناك العشرات بل المئات من حملة الأقلام ممن يكتبون بجرأة أكبر، وممن يشخصون الفاسدين بالأسماء أيضاً.. وهناك العشرات من البرامج التليفزيونية التي تكشف ملفاتهم.. وووو.. لماذا أنا بالذات ؟.. والأهم من ذلك، أنا واثقة تماماً بأن ما أكتبه لا يخالف مبادئ وطني وأهل بلدي.. فلما الخوف إذاً ؟
كما أن قضية الخروج من البلد والهجرة ليست بالأمر السهل، كيف أترك بلدي وأهلي وأمي المريضة وأصدقائي وعملي.. وووو..

تلمس الطريق بخطوات حذرة وسط أنياب وألغام ..
لا.. لا يمكن سأبقى.. هي مجرد موجة ستنتهي أكيد.. وسأنجو مثلما في كل مرة، ومثلما نجوت من ملاحقات إدارية رخيصة مارسها قبلاً معي، المفتش العام في “وزارة الثقافة”، وهو يبتكر لي تهم كيدية لا تخلو من تحريض مبطن وطائفي إستند فيها إلى منشوراتي على الـ”فيس بوك” ومقالاتي..
والأغرب أن كل التهم الباطلة، التي وجهت ليَ حينها في تلك اللجنة التحقيقية، تكررت نفسها لدى عصابات الخطف التي شاركت بجريمة الإختطاف (!).. وذلك ملف سأفتحه، وبالتفاصيل، لاحقاً مع كل الشواهد والإثباتات.
لا أنكر أن مخاوفي تضاعفت وأنا أقرأ على صفحات الـ”فيس بوك” عشرات بل مئات المنشورات من مجهولين ومندفعين أيضاً ومأجورين؛ تطالب بالإقتصاص مني بتهم باطلة.. أتصلت بزميلي “حمزة مصطفى” هاتفياً لأستطلع رأيه، فجاء صوته مطمئناً بأنها موجة ستنتهي وأني لست المقصودة لأني تركت العمل في الجريدة المشؤومة، التي أثارت حفيظة الناس قبل أشهر عبر تقريرها المفبرك والمسيء للنساء العراقيات، وأن الخوف كل الخوف عليه هو، يقصد (نفسه)، وكذلك زميل آخر يعمل معنا.. بأعتبارهم في مواجهة الخطر أكثر مني.
حاولت الركون للهدوء بعدها وممارسة حياتي اليومية لأطرد تلك الهواجس وأواصل إهتمامي بأولادي وأمتحاناتهم التي تطرق الأبواب.. وحدي كنت أخوض غمار حياتي، بعد أن رحل الأب وفضل الهجرة  على البقاء.. وصممت بعده على مواصلة المشوار في بلدي تحديداً، وكنت أؤمن بأن لي فيه مشوار طويل من المطاولة والصبر والعمل، برغم كل المضايقات.. وأن مهمة الصحافة الحقيقية لن تكون بعيدة عن كل تلك المشاكل ولابد من تحمل كل أوزارها..

“نبراس” وصور أطفالي بين ظلمة الملثمون .. ووصية يأس حائرة ..
أعود لتفاصيل ذلك اليوم المشؤوم، 26/12/2016، كنت قد صحوت مبكرة مثلما تعودت في كل يوم أعد وجبة الإفطار للأولاد، كي يذهبوا إلى مدارسهم، وأعد في ذات الوقت طعام الغداء على عجل، والحق بدوامي اليومي في “وزارة الثقافة”، وقبل أن يحصرني الزحام المعتاد، كل شيء بدا طبيعياً حتى نهاية وقت الدوام، عدت لبيتي وأنشغلت بمتابعة مشاغل الأولاد، حتى الساعة العاشرة ليلاً عندما ذهلت لطرقات عنيفة على باب مطبخ الدار ومداهمة رجال غرباء مسلحون يرتدون اللثام بحجة أنهم إستخبارات دولة؛ ولديهم حملة تفتيش.. كانوا مرتبين خطتهم بشكل جيد، وكل شيء أعد بحرفية إجرامية عالية، جرى إقتيادي معهم عنوة، بعد تكميم فمي، وتعصيب عيني.. إلى مكان لا أعرفه.. مكثت في زنزانة محكمة أعدت مسبقاً لهكذا نوع من الاعتقالات.. تسع أيام من عمري لا يمكن أن تموحها الذاكرة.. كنت مغيبة عن عالمي الخارجي لا أعرف ماذا يدور حولي عدا أسئلة المحققين الطويلة في كل ليلة، وأساليبهم القاسية في التحقيق.. إيقنت عبرها أن موتي محتم، وأن هذه هي نهايتي، حتى أني كتبت وصيتي ثاني يوم الاعتقال وسلمتها لهم..
أتذكر أني كتبت فيها: “لا تحزني يا أختي، نبراس، أهتمي بأمي المريضة عوضاً عني، أوصيك بأولادي يوسف ويونس، لا تتركيهم للحزن، أو أرسلي بهم إلى والدهم عساه يرعاهم بغيابي، وهوني على نفسك وإخواني وأمي وصبراً جميلاً للفراق، سنلتقي هناك يوماً عند رحمة كبيرة لله سبحانه، .. سأكون قريبة لأبي، وأخبره بكل ما حصل بعد رحيله..”.
ذيلت وصيتي بتأريخ يوم 27 /12/ 2016 ، وأعطيتها لكبير المحققين لديهم، عساه أن يوصلها أو يقرأها ليصحو عنده بعض الضمير، ويعرف أن لدي أطفال صغار ينتظرون عودة أمهم.
في كل أيام التحقيق كنت أنتظر أن يقول لي أحدهم أنهم إشتبهوا بالاسم وأنهم يقصدون غيري، أو أنه حلم  طويل سأصحو منه وأحمد الله على أنه مجرد حلم..
لم تلح ببالي وقتها أكثر من صورتين.. سأقولها الآن بكل صراحة.. الأولى هي صور أختي الأقرب لنفسي، (نبراس)، وفجيعتها بي.. والثانية صور أولادي (يوسف) و(يونس)، رباااااه أي حزن سيعتريهم أن رحلت.. أي وجع سيرافقهم ؟.. هل سيعثرون على جثتي ؟.. هل ستبرد نارهم ؟.. هل سينسى أولادي أمهم وكيف ستكون حياتهم بعدي ؟.. كيف سيصمدون بهذا الفقد ؟.. ومن سيرعاهم ؟.. وهم لا يملكون غيري ؟.. ترافقت كل تلك الصور مثل فيلم سينما يدور أمامي.. إخواني وأمي وأخواتي ووجعهم عليَ.. صور الأصدقاء وهم يقولون: (راحت ولم تفيدها الصحافة بشئ وخسرت حياتها).. ساعات الخوف التي عشتها لا تعد ولا يمكن تقديرها.. وأنا أشخص بصري ساعات طويلة نحو فوهة صغيرة أعلى سقف الزنزانة تحمل معها بعض ضوء النهار، أستعدت فيها كل شريط عمري، من طفولة قضيتها في تلك البيوت القديمة بمنطقة “الشواكة” بقلب بغداد، وحتى بيت أهلي بمنطقة “المنصور” وسكني في منطقة “السيدية” بعد زواجي، وساعات الولادة ووجه “يوسف” الذي أشرقت معه حياتي..
وجلسات صديقاتي وأخبار التقارير والعمل وضحكاتنا.. كل شيء.. كل شيء.. الوقت يمضي طويل وروحي معلقة بصوت قفل الباب الحديدي للزنزانة ساعة يتحرك تتحرك كل فرائصي خوفاً وأبقى أردد الشهادتين.
سلمت أمري لله، وقلت أنها النهاية.. أعزي نفسي بتذكيرها أنها ليست الأولى.. كم من آخرين قبلي عاشوا مرارة الموت والظلم، وليست حياتي بأغلى من وطني، تلك هي التضحية الكبرى.. التضحية التي قدمها غيري وهم مؤمنين بقضيتهم ومبادئهم.. لست بأغلى من كل الشهداء الذين قدموا حياتهم فداء للوطن..
دار في نفسي هاجس، وقتها، أن خبر إختطافي سيكون خبراً عابراً في نشرة أخبار إحدى الفضائيات، سرعان ما يفقد أهميته بعد يوم أو يومين، لكثرة ما يحمله بلدي من أخبار أكثر فظاعة وأشد ألماً…

يوم الخلاص ..
لم أكن أحلم بأكثر من الخروج من الزنزانة، والخلاص من تلك الجدران التي قبضت روحي من أول يوم، قرار الإفراج الذي أعلنه كبيرهم، سادس يوم من الاعتقال، كان بمثابة النفس الأخير لميت يتشبث بحياته بأمل مفقود.. وقتها أخذتني موجة ضحك وبكاء هستيري، كما الأفلام، وخشيت أن أكون قد فقدت عقلي.. بقيت حتى الصباح أتمتم: ( الحمد لله.. والشكر يارب).. في يوم الإفراج كان الخوف على أشده، الخوف من أن يغيروا رأيهم، أو تكون هذه خدعة للخلاص مني بإطلاق رصاصة مثلما يحصل في حالات كثيرة، عشنا تفاصيلها لدى فقدان شخص وقتله لاحقاً.. لم أثق بأي كلمة منهم، وحده إنتظار رحمة الله من كان يقيني.. بقيت جامدة في زنزانتي يوم الإفراج 11 ساعة.. من العاشرة صباحاً، عندما قالوا ليَ تهيأي للخروج اليوم، وحتى وقت العاشرة ليلاً.. الوقت الذي خرجت من زنزانتي فعلاً كانت كأنها دهر كامل، فقدت صبري وتوسلتهم.. أرجوكم أرحموني.. وأخبروني متى أخرج ؟.. قال لي حارس الزنزانة، (ذلك الرجل الكبير بالعمر): “أصبري يا أبنتي ؟، (هكذا كان يدعوني في أخر أيام سجني)، لقد صبرتي تسعة أيام.. بقيت فقط ساعات”.. وصبرت حتى موعد الخروج.. ومعرفة طريقة العودة التي شرحوها لي لاحقاً وتحذيرات ما سأقوله للإعلام وما سأخفيه، واتفاقية الصمت، التي يجب أن أطبقها.. ووو.. تفاصيل كثيرة سأوردها في وقت لاحق..
لم يكن لي أدنى ثقة بخطتهم المعدة لعودتي لأهلي، وساورني شك كبير وقتها بأن لحظة إنتقالي لسيارتي وأنطلاقي لأهلي وحدي، ستكون هي لحظة تفجير السيارة، وكنت أتمتم وقتها كل أدعية النجاة والإستغفار وطلب الرحمة.. قدت سيارتي ولا أعرف، حتى هذه اللحظة، كيف قدتها، كنت متخشبة ومتجمدة وأقول هذه هي فرصتك الأخيرة بالوصول إلى أولادي.. أصبري وتحملي.. قدت سيارتي إلى حيث بيتي في “المنصور” بصعوبة بالغة، وهناك طرقت باب أهلي وأنا أصرخ: “أنا أفراااااااااااااااااااااااااااح.. أفتحوا لي الباب.. إني عايشة”.. وكانت لحظة اللقاء والوجع والألم والغياب عن الوعي لأكثر من مرة..
أفيق بعد كل رشة ماء تسكب على وجهيَ.. وأحضن أولادي وأخواتي وأبكي ويغيب عني الوعي من جديد.. خارت كل قواي بعد أن أكلني الخوف والقلق والبكاء.
عدت لأهلي وبيتي ورأيت أولادي.. أخذتهم بحضني وشهقت الآن فقط أتنفس.. الآن عادت لي حياتي.. بين أحضان “يوسف” و”يونس” عاد لي اليقين أني مازلت على قيد الحياة.. وصرت أضحك بهستريا مفرطة.. بكل وجعي أضحك.. بكل دموعي أضحك.. بكل خوفي أضحك.. وأطالع نشرات الأخبار وأضحك.. أطالع وجه أمي وأضحك.. أستقبل تهاني الأصدقاء وأضحك.. وأتلقى مكالمات المهنئين وأضحك.. أطالع المرآة ووجهي وأضحك.. ولسان حالي يلهج حتى اللحظة.. (اللهم لك الحمد)….
وإيقنت أن من خلصني؛ هي محبة الناس ودعواتهم ووقفة الأصدقاء وكل المحبين.. وللحديث بقية.