ربما تبدو المقارنة بين تنظيمات الإخوان في العقد الثاني من القرن الماضي، وتنظيمات داعش في العقد الثاني من هذا القرن غريبة نوعا ما وغير مألوفة. فهناك مئة عام تقريباً بين الاثنتين. وخلال هذه المئة عام تطورت الحياة بشكل متسارع، إلى الدرجة التي جعلت هذا البعد الزمني أكبر من حجمه الحقيقي، بمئات المرات.
ولكن الحقيقة أن التنظيمات السلفية لا تكترث لهذا البعد، ولا تعير له اهتماماً، إلا في ما يتعلق بوسائلها للنيل من خصومها التقليديين. وهؤلاء الخصوم هم في العادة الدول والمجتمعات التي نالت نصيبها من الحضارة الحديثة.
أسس عبد العزيز السعود تنظيماته المعروفة بالإخوان في القرن الماضي، وقرر الاستفادة من الحركة الوهابية لتثبيت أركان مملكته. وتوطين أفرادها في مجمعات “سكنية” أسماها الهجر (بكسر ثم فتح) بعد أن كانوا يهيمون على وجوههم في الصحراء. فاستطاع عبر هذا الفعل أن ينقلهم إلى حافة الحضارة، وأن يحكم سيطرته المطلقة عليهم . فتحولت هذه المستوطنات إلى قرى منتجة ومستقرة، فرض فيها التعليم الديني القائم على ذات الأفكار السلفية المتشددة، وأدخل فيها نوعاً من الإدارة المحلية، المرتبطة به ارتباطاً وثيقاً.
ولم تكن لدى المقاتلين من معدات الحرب الحديثة آنذاك سوى البنادق، التي كانت في طور الانتشار في الجزيرة العربية، ومصدرها الرئيس، مثلما هو حاصل الآن، التجارة غير المشروعة.. أما وسائل الانتقال والهجوم والحركة فكانت الجمال التي يمتلكونها ويجيدون التنقل بها في البادية، منذ آلاف السنين.
وبهاتين الوسيلتين الجمال والبنادق، ضم عبد العزيز السعود هذا، الإحساء والحجاز وعسير ونجران إلى مملكته. ولم يكن خصومه أقل منه تسليحاً، بل كانوا يتفوقون عليه أحياناً. فقد استخدم الملك علي بن الحسين طائرتين اثنتين، لمهاجمة الإخوان عام 1928. ولكنه لم يحقق انتصاراً ما عليهم فاضطر إلى الصلح، ثم التنازل عن عرش الحجاز، واللجوء إلى العراق لدى شقيقه الملك فيصل. وكان ذلك أكبر إنجاز عسكري حققه الإخوان في تأريخهم. بيد أن الطائرات البريطانية استطاعت صد هجماتهم المتكررة على بادية العراق الغربية. وكان هؤلاء الوهابيون يمنون أنفسهم بالاستيلاء على العراق حينها. ولم يفلحوا كذلك في ضم الكويت التي آوت إليها ابن سعود وأباه، قبل ذلك، لوجود معاهدة الحماية البريطانية الشهيرة لعام 1899.
تبدو تنظيمات داعش التي اجتاح بها الوهابيون سوريا والعراق أدنى شأناً من تلك، وأقل نجاحاً منها. فهي – رغم ضخامة أعدادها – اصطدمت بدول قوية وجيوش فاعلة. ولكن المصدر الرئيس للتمويل والتسليح والتدريب بقي هو هو لم يتغير. ولو نجحت هذه التنظيمات في هاتين الدولتين، فإن مطامحها لم تكن لتتوقف بالطبع. وستكون الدولة السعودية قد نجحت بالفعل، في ما أخفقت فيه قبل قرن من الزمان. وبرهنت على أنها لم تتخل عن أهدافها التي رسمتها لنفسها منذ عهد التأسيس.
وإذا كانت داعش قد حصلت على وسائل حديثة للحرب، واستوعبت كل وسائل الاتصال والتجسس والإعلام المتطور، فإن موازين القوى المادية كانت تميل لصالح خصومها على الدوام. وهو الأمر الذي أخطأت في تقديره، معولة على وجود انقسام مجتمعي عميق في هذه البلدان، وعلى ضعف منظومة السلطة فيها. ولا شك أن تعدد الأفكار والتنظيمات والمصالح في العراق وسوريا أمّن لداعش ما تحتاجه من الثغرات، لتنفذ إليهما. ففي الأنظمة التي تتيح الحد الأدنى من الحريات في المنطقة العربية على وجه الخصوص، يتسلل التطرف دون معوقات. وكثيراً ما يحتج حماة حقوق الإنسان على أي قدر من الرقابة الحكومية في هذه البلدان إزاءها، مانحين خصومها من المتطرفين الفرصة للإطباق عليها.
أثبتت عملية إطلاق الحريات في بلدان العالم الفقير أنها سلاح ذو حدين، وأن فيها الكثير من الأضرار. وإذا كانت النخبة تتحسس من أي مساس بها، اعتماداً على ما تشربت به من مقولات غربية، فإن من العسير على هذه النخبة مواجهة ما تفرزه من منتجات رديئة. وهذا ما حدث في بلد مثل العراق على وجه الخصوص، والبلاد العربية التي التحقت به في ما بعد.