23 ديسمبر، 2024 1:40 م

أبو حسين عالم- عفواً-عامل  صمون (خباز)في أحد أحياء بغداد, اللهمته حرارة الفرن في صيف العراق اللاهب, ومتابعته المتواضعة للأخبار توقعات قد تكون صحيحة أو خاطئة…لكنه مقتنع إنها حقيقية وحدوثها مسألة وقت لا أكثر..وهو يحاول أن يضعها بين يدي أولي الأمر حتى لأتحدث أزمة طحين كتلك التي حدثت عقب أحتلال الموصل وقطعت رزقه لعدة أيام!!

النبوءة الأولى:
ألعبادي آخر رئيس وزراء عراقي..!!
سيكون الدكتور حيد ألعبادي آخر رئيس وزراء عراقي وستكون هذه الدورة البرلمانية 2014-2018اخر دورة برلمانية يشهدها العراق الموحد كما عرفناه بعد الحرب العالمية الأولى وتقاسم تركة الإمبراطورية العثمانية في الشرق الأوسط بين بريطانيا وفرنسا حسب اتفاقيات سيكس بيكو, وهذا ليس رجما بالغيب ولكنه قراءة واقعية لمسار الإحداث منذ الاحتلال الأمريكي للعراق.
انتقدت الأوساط السياسية والأكاديمية إدارة الرئيس الأمريكي بوش الابن لأنها لم تكن تمتلك خطة لما بعد الإطاحة بنظام صدام حسين القمعي, وقد روج الإعلام الأمريكي كثيرا لهذه الكذبة التي صدقناها جميعا. والحقيقة أن خلق الفوضى وتهديم مؤسسات الدولة كان هدفا أمريكيا مخطط له بعناية…وهو ما عبرت عنه كونداليزا رايت وزيرة الخارجية الأمريكية في تصريحها الشهير عام 2006بأن سياسة الولايات المتحدة في الشرق الأوسط تعتمد على مبدأ الفوضى الخلاقة التي سينتج عنها انظمه ديمقراطية تضمن حقوق الأقليات, ومعنى ضمان حقوق الأقليات وفق رؤية الإدارة الأمريكية هي أعطائها صلاحيات كبيرة في مناطقها ومن ثم توسيعها لتأخذ أطاراً قانونيا كأقاليم تمهيداً لإقامة دويلات تقوم على فكرة الانسجام القومي أو الطائفي , بعد حروب أهلية تعمق الخلاف بين مكونات الشعب وتقضي على فكرة العيش المشترك ,من السخف أن نتوقع أن أمريكا دخلت العراق من أجل تحقيق حياة أفضل لهم وتخليصهم من دكتاتورية دموية جثمت على صدورهم لعقود فهي لم ولن تكون جمعية خيرية لمساعدة العرب والمسلمين. فهي لم تحتل العراق وتدفع ثمنا باهظا  2 تريلون من الدولارات على اقل تقدير و4600قتيل و36000جريح فقط لينعم أبو حسين بالحرية والديمقراطية والعدالة ويتمتع بخيرات النفط التي لم يرى منها شيئاً.بل كان احتلالها للعراق الخطوة الأولى لإعادة رسم خرائط سايكس بيكو وتحطيم الدول الوطنية في الشرق الأوسط  وشمال أفريقيا  لصالح دويلات طائفية وعرقية متناحرة, لأنها تؤمن أن الصراع الدولي بعد نهاية الحرب الباردة هو صراع حضارات وأول حضارة يجب تحطيمها هي الحضارة الإسلامية لأن تخلفها يشكل خطرا على الغرب المسيحي كما يرى صامويل هنغنتون في كتابه( صدام الحضارات-1996).فليس مصادفة أن تتحول ليبيا واليمن والعراق وسوريا وقبلها الصومال إلى دول فاشلة بعد تدخل امريكي لمساعدة شعوبها المنكوبة!! ولم تكن ضاهرة الربيع العربي بعيدة عن هذا السياق.
بالرجوع إلى تسلسل الإحداث نجد إن استبدال الجنرال المتقاعد (جاي غارنر) الحاكم المؤقت للعراق, بعد اقل من شهرين على استلام منصبه ب(بول بريمر) لم يكن قرارا ارتجاليا خاصة إن (كارنر) بدأ فعلا بمحاولات لترميم البنية المؤسساتية للدولة وهو مالا يخدم المصالح الأمريكية على المدى البعيد وبنك الاهداف الحقيقي لهاوالمصنف بدرجة من السريةلم تمكن غارنر من الاطلاع عليها  فكان استبداله ب(بول بريمر) هو بداية النهاية للدولة العراقية من خلال أول واخطر قرارين : حل الجيش العراقي و اجتثاث البعث, ثم إنشاء مجلس الحكم الانتقالي تحت إشرافه على أساس التمثيل النسبي لمكونات الشعب العراقي وهي البذرة التي نشأ منها نظام المحاصة السياسية على أساس (عرق طائفي) قاضيا بذالك على أي أمل في إنشاء دولة مدنية وديمقراطية حقيقية, وبول بريمر لمن لا يعرفه : هو التلميذ النجيب لثعلب السياسة الأمريكية هنري كيسنجر حيث كان يعمل لديه في شركة استشارات(كيسنجر اسيشيتس) قبل أن يستقل بشركة خاصة للاستشارات الأمنية ومكافحة الكوارث الطبيعية والإرهاب وهو المساعد الخاص لستة وزراء خارجية حيث كان المسؤل الأول عن أنشاء وتطوير السياسات الدولية التي تتبعها أمريكا لمكافحة الإرهاب وعمل مستشارا خاصا للرئيس الأمريكي لشؤون مكافحة الإرهاب خلال السنوات الثلاثة الأخيرة قبل استلامه منصب(الإدارة المدنية لإعادة أعمار العراق), والسؤال الجوهري هو ماذا يفعل شخص بكل هذه الخبرة( الإرهابية) في منصب يتطلب إعادة الأعمار؟ والجواب هو إن التخصص الحقيقي ل (بريمر) هو في صناعة الإرهاب وليس مكافحته , ولذالك جاء إلى العراق لخلق بيئة مناسبة للإرهاب بعد أن فوجئ الأمريكان بالهدوء الذي يسود العراق رغم الانهيار الكامل للدولة وهم الحالمين بحرب أهلية شاملة تعقب سقوط النظام الدكتاتوري.
تكمن خطورة القرارين في إن اغلب القادة العسكريين والقيادات المهمة من حزب البعث هم من العرب السنة وتجريدهم من الحقوق المدنية بهذه الطريقة المهينة والمذلة جعلت منهم أعداء للنظام السياسي الجديد وورقة ضغط بيد دول عربية موالية لأمريكا تستخدمهم لإفشال العملية السياسية, لقد حاول السيد السستاني بعد أن لمس بحكمته  وبعد نضره خطورة النهج الأمريكي أن يقلل من آثاره عبر فتواه الشهيرة بعدم التعرض للعبثيين والعاملين في أجهزة النظام السابق القمعية وترك من ارتكب الجرائم منهم إلى القضاء لينفذ العدالة فيهم بعد التأكد من الأدلة, لكن النخب السياسية الحاكمة لم تستفد منالاثار الايجابية لهذه الفتوى التاريخية لإقامة مصالحة وطنية حقيقية وبدلا من ذالك انجرت لرغبة الثأر والانتقام , وهاهي تدفع الثمن اليوم ,فنجد العبادي مضطرا للتفاوض وربما تنفيذ شروط عزة الدوري التعجيزية لضمان مشاركة المكون السني في الحكومة المقبلة بعد أن ساهمت تنظيمه(الطريقة النقشبندية) في إدخال داعش إلى الموصل وصلاح الدين وديالى وقبلها في الانبار, بل أن الولايات المتحدة نفسها تفكر جديا بالتعاون معهم لإخراج داعش من العراق!!
لم تستطع النخب السياسية أو لم ترغب  أصلا في التخلص من تركة بريمر سواء كانت تدرك عواقب هذا الأمر أم لم تدركه  فاستمر العرف الذي أسسه يسري على الحياة السياسية بقوة اكبر من قوة الدستور وأصبح منصب رئيس الجمهورية استحقاقا كرديا ورئاسة البرلمان استحقاقا سنيا ورئاسة الوزراء استحقاقا شيعيا , بل زادت ممارسات الكتل السياسية من تعميق هذا التقاسم الانتهازي للسلطات لدرجة أكثر تفصيلا وتركيزا نزولا عند مستوى الأحزاب فرئاسة الجمهورية هي من استحقاق الاتحاد الوطني الكردستاني حصرا على سبيل المثال وتطورت سياسة المحاصة لتصل إلى الوزارات وتشكيلاتها الإدارية الأدنى وتغو لت فكرة المحاصة السياسية لتصل إلى ادني المناصب الحكومية وهو ما أدى إلى تحول الحملات الانتخابية  لمهرجانات تستخدمها القوى السياسية لتسقيط المنافسين عن طريق الهجوم على الفئة التي يمثلونها وهو ما حول الطائفية السياسية إلى طائفية اجتماعية, فكلما كان السياسي طائفيا حصل على رضي جمهوره هذا الرضي الذي يتحول إلى أصوات في صناديق الاقتراع تحقق له النفوذ والسلطة والامتيازات المالية , لذالك أصبحت كل أو الأعم الأغلب من الطبقة السياسية المتحكمة في العراق طائفية ممثلة لمكوناتها وانتماءاتها على حساب مصالح العراق ككيان ودولة وشعب.
هيأت السياسات الغبية للأحزاب العربية الحاكمة في العراق هيأت البيئة المثالية لتنفيذ الولايات المتحدة خططها بتقسيم العراق,القيادة الكردية وحدها كانت تملك هدفاً محددا عملت عليه منذ عام 2003 وهو تحقيق حلم الأمة الكردية في دولة مستقلة تبدأ بكردستان العراق وتنتهي في آسيا الوسطى عند الحدود الروسية وقد عملت بجد وإخلاص لتحقيق رغبة الشعب الكردي في تقرير مصيره عبر حملات دبلوماسية ولوبيات ضغط تشرح معاناة هذه المجموعة العرقية عبر التاريخ بالتوازي مع عملية أعمار شاملة أذهلت الجميع مستفيدين من كل الإمكانيات المتوفرة بما في ذالك بناء علاقات متميزة مع الدول النافذة عالميا واقليميا بما فيها اسرائيل بخطوات متأنية ومدروسة , فاكتسبت تعاطفا دوليا ودعما غير محدود للبيشمركة في مواجهة د اعش, يقابله تجاهل كبير لمآسي مماثلة حدثت في مناطق أخرى من العراق وخاصة للشيعة الذين دفعوا ثمن أخطاء قادتهم بحوراً من الدماء فكان التجاهل الدولي لمأساتهم ثمناً باهضاً لسياسات حكومية خرقاء فرطت بفرص كثيرة للنجاح يدعمها تعاطف دولي شامل مع الشعب العراقي وتجربته الفتية, ويصح اليوم عليهم ما قالته أم عبد الله آخر ملوك قرطبة وهو يبكي( ابكي بكاء النساء على ملك لم تحافظ عليه حفاظ الرجال) .
بينما كانت التجربة الكردية تنضج على نار هادئة كان العرب يخوضون حربا طائفية لحساب أجندات ليس لهم فيها أي مصلحة فأصبحوا حطبا لنار الصراع المحتدم بين محور تقوده إيران وآخر تقوده السعودية وتركيا, وهكذا استطاعت النخب السياسية والأحزاب الإسلامية التي تشكل العمود الفقري للمنظومة السياسية لعرب العراق(سنة وشيعة) إن تنفذ بلا أدراك أو شعور بالمسؤلية(أذا أحسنا الضن) مخططات المستشرق الأمريكي (برنارد لويس) في تقسيم العراق إلى ثلاث دول ضمن مشروع اكبر عنوانه (حدود الدم) يشمل دول الشرق الأوسط وشمال إفريقيا .
أن فشل تجربة الحكم الديمقراطي في العراق لم يكن مصادفة للأسباب التالية:
1- أن الممارسة الديمقراطية تحتاج لوعي شعبي فالشوب المتخلفة تنتج نخبا متخلفة تدمر البنية المؤسسية للدولة خاصة أذا ما كانت تضم اثنيات وطوائف متعددة كما في العراق , وهذا ماراهن عليه صانع القرار الأمريكي عندما بشر بنموذج العراق الجديد الذي سيعمم على المنطقة, أي تقسيمه كمرحلة أولى تليها دول أخرى كسوريا وإيران و السعودية ومصر واليمن…الخ
2- انتماء الطبقة السياسية العربية المتنفذة للإسلام السياسي جعلها تتبنى نهجاً طائفيا في الحكم أو المعارضة , حتى أن الشخصيات الأكثر علمانية في الفرقين  كالأخوين النجيفي والجلبي والمطلك وبدرجة اقل علاوي لم تستطع مقاومة إغراء السلوك الطائفي الذي يوفر لهم بيئة حاضنة ونفوذ يوصلهم إلى الهدف الأساسي لخوضهم المعترك السياسي وهو المال والسلطة .
3- ارتباط النخب السياسية بدول إقليمية تدعمهم سياسيا واعلاميا وبالطبع ماديا جعلهم ينفذون أجندات هذه الدول بغض النضر عن توافقها مع المصلحة الوطنية من عدمه.
4- تهميش دور الكفاءات العراقية أو الأصح القلة القليلة من هذه الكفاءات بعد أن تم تصفية 5000عالم وأستاذ جامعي على يد مجهولين خلال السنوات الماضية وهجرة ألاف غيرهم إلى خارج العراق حفاظا على حياتهم, في اكبر عملية تفريغ لدولة من مبدعيها حدثت في التاريخ.
5- أن أهم اشتراطات التحول من نظام دكتاتوري قمعي الى نظام ديمقراطي هو التدرج لتأخذ الفترة الانتقالية زمنا معقولا يتم فيه هذا التحول الخطير للمجتمع بسرعة تتناسب طرديا مع القدرة على التأقلم, لقد عاشت الولايات المتحدة هذا التحول خلال مراحل تأسيسها الأولى ويعرف صناع القرار فيها أن تغييرا من هذا النوع سيؤدي إلى حروب أهلية وكوارث ما لم يتم بحذر ودقة, لذالك حرصت بخبث على تصدير الحرية المنفلتة وغير المسؤولة لشعب عاش 12 سنة تحت حصار شامل لم يكن يعرف فيه الأطفال البيبسي ونسي الكبار فيه طعم الموز, وكانت العائلة لا تتخيل وجود أكثر من قناتين رسميتين في التلفزيون وصورة الرئيس القائد تملاء الصحف حتى الرياضية منها ولم يسمع احد بالموبايل, ليتفاجئ أبو حسين ومعارفه بأن هناك شكلا آخر للعالم يستطيع الوصول أليه عبر كبسة زر واحدة تدخله لعوالم الشبكة العنكبوتية , فكانت الفوضى التي ضربت أطنابها في المجتمع وقضت على بقايا المنظومة القيمية لديه بعد أن دمرها الحصار من قبل.
ولكل هذه الأسباب الداخلية والخارجية كان العراق البيئة المثالية لنمو التطرف الديني والقومي مما مهد السبيل لظهور العنف (القاعدة وتوابعها) والعنف المضاد(الميليشيات) لدرجة أفقدت الدولة هيبتها ولم يعد باستطاعة ألعبادي أو غيره إنقاذ العراق من التقسيم, الذي أصبح تقسيم العراق إلى دولة سنستان وشيعستان وكردستان قرارً دولياً بعد أن كان رغبة أمريكية- إسرائيلية دفينة  يمكن تلافيها او تقليل أضرارها لو كان السياسيون يمتلكون نصف وعي أبو حسين, وهذا ما سنتحدث عنه في الحلقة المقبلة .