تشير صحف عربية ودراسات اجنبية ومواقع التواصل الاجتماعي الى تزايد ظاهرة الإلحاد في الدول العربية في السنوات السبع الأخيرة بين اوساط الشباب والشابات بشكل خاص. فوفقاً لدراسة بعنوان( Death of God in Iraq) للمؤرخ والباحث الأمريكي في القضايا المعاصرة في تاريخ الشرق الأوسط ، جون ريكاردو كول فان( 32% ) من الشعب العراقي “لم يعد يؤمن بوجود الله” نقلا عن (شفق نيوز).مضيفاً على موقعه الإخباري أن “شريحة كبيرة من الشباب العراقي تحولت إلى الإلحاد خلال الأعوام الأخيرة؟” وزعمت “مؤسسة الدليل للدراسات والبحوث العقدية”ان نسبة الالحاد في العراق تجاوزت( 30%)،وان العتبة الحسينية تتصدى لمعالجة ظاهرة “الالحاد واللادينية”. وفي مقال للكاتب يوسف الأشيقر يذكر بانه (لا يخلو بيت الان في العراق من فرد بالعائلة يثير قضايا دينية بشكل غريب وغير مطروق سابقاً مما يوصم بأنه مشكك بثوابت الدين او متحرش بالذات الالهية وصفاتها او بباقي الاعراف الدينية والتابوهات المتوارثة والمستحدثة).مضيفا بأن الإلحاد واللادينية واللاادرية بدأت تنتشر بين الشباب والشابات في الشرق الأوسط مع انطلاق الربيع العربي وخاصة على منصات التواصل الاجتماعي والمنتديات الثقافية.
وفي مصر،أعلن مفتي الديار المصرية السابق، علي جمعة، أن الأزهر أجرى دراسة على ستة آلاف شاب، فوجد أن نسبة الملحدين بينهم بلغت( 12.3%).وفي السياق ذاته اشار استاذ الشريعة بجامعة الأزهر (احمد كريمة) في حديثه لـ”الخليج نيوز” الى ان “جريمة الالحاد بدأت تتفشى في مصر”.
وفي السعودية ذكرت صحيفة (سبق) وموقع (البصيرة) ان ظاهرة الالحاد بين الشباب في السعودية في اتساع مستمر. ومع تحفظه الناجم عن عدم وجود احصائية يمكن من خلالها معرفة نسبة الملحدين في السعودية ودول عربية اخرى،فان البراء العوهلي يرى في دراسته “ان المؤشرات تؤكد أن الالحاد واللادينية واللاإدارية والشك موجودة في بلادنا بشكل أكبر مما يتوقعه غالبية الناس،وخصوصا بين الشباب الذين تتراوح أعمارهم بين العشرين والثلاثين”.ووفقا لدراسة اعدها معهد غالوب الدولي عام( 2014 )،افادت بان السعودية هي الاعلى عربيا في نسبة الالحاد التي وصلت في حينها( 9% )،الأمر الذي اضطر السلطات الى اصدار مراسيم تعتبر التشكيك بمبادىء الاسلام والالحاد..ارهابا،فيما اصبح العراق هو الذي يتصدر الآن (2017) الدول العربية في نسب الالحاد واللادينية.
ومع انه من الصعب الحصول على نسب الالحاد واللادينية في المجتمعات العربية لأسباب تتعلق بهدر دم الملحد واخرى معروفة،فان الحقيقة التي يتفق عليها الجميع بمن فيهم رجال الدين..ان الالحاد واللادينية قد تنامى بعد عام (2010) بين اوساط الشباب والشابات في البلدان العربية وصار يشكل ظاهرة من وجهة نظر باحثين واكاديميين تستدعي البحث العلمي الرصين للوقوف على اسبابها،وتحليل ما اذا كانت لها مخاطرها وما اذا كانت ايجابية ام سلبية سياسيا.
توطئـة
بدءاً نشير الى ان الالحاد ظاهرة تتداخل فيها عوامل دينية ،سياسية ،سيكولوجية ،اجتماعية ،اقتصادية، وحضارية.وان اسباب الالحاد واللادينية في الماضي تختلف عنها بعد سقوط الانظمة الدكتاتورية والاستبدادية في تونس وليبيا ومصر،وفي زمن حكم احزاب الاسلام السياسي في العراق.ففي السابق كان في غالبه ناجماً عن حالات فردية او جماعات فكرية..مثال ذلك ابو العلاء المعري وابن الراوندي وجماعة اخوان الصفا المعتزلة الذين قالوا في الدين والقرآن ما لا يجرؤ احد على قوله اليوم.
ولا تعنينا هنا فلسفة الالحاد وتاريخ تنامي نشاط التيارات الفكرية في نقد الاديان ،وتأثير الثورة الفرنسية بوصفها اول حركة سياسية في عصر التنوير تدافع عن سيادة العقل البشري،فالثورة البلشفية في روسيا وامتداد تاثيرها في العالم العربي،بقدر ما تعنينا مفارقة ان الدول العربية تحتل مواقع متقدمة في التدين (العراق يعد سابع اكثر دولة متدينة بالعالم وفقاً لإحصاء أُممي)،وانها في غالبها مجتمعات عشائرية نشأت على التعاليم الاسلامية وتربت على قدسية الأيمان بالله ،ومع ذلك فان نسب الالحاد واللادينية تجاوزت مثيلاتها في دول عالمية، اذ هي تبلغ (12% )في اميركا،و( 15% )في المانيا ،و(15% )في النمسا وفقا لدراسات عالمية،فيما تبلغ نسبته في العالم (11%) بحسب مؤسسة غالوب الدولية لعام (2015)،و (8%) بحسب مسح لهيئة الذاعة البريطانية في عام (2004)
والتساؤل هنا:لماذا تنامت ظاهرة الإلحاد واللادينية في الدول العربية وزادت نسبته حتى في اكثر الدول الاوربية انفتاحاً..النرويج مثلا؟!
تشخيص الأسباب
تتضمن هذه الدراسة تحديد الاسباب وفقا لمصدرين:ما كتب عن تنامي ظاهرة الإلحاد واللادينية في دراسات ومقالات رصينة،ونتائج استطلاع اجريناه عبر مواقع التواصل الاجتماعي.
تعزو الدراسات والمقالات السبب الرئيس لتنامي هذه الظاهرة الى الاسلام السياسي العربي،ويصنفونها على النحو الآتي:
خيبات المواطن العربي وخذلان الأحزاب الأسلامية لناخبيها..(حلموا بحكومة اسلامية وبلاد غنية واكتشفوا انها خدعتهم وافقرتهم وقتلتهم في حروب طائفية).
• فضاعة ما ارتكبته داعش والقاعدة من الجرائم اللااخلاقية باسم الدين وتحت شعارات قرانية ونبوية.
اشاعة حكّام الاسلام السياسي للاحتراب الطائفي وتبرير القتل باسم الدين والمذهب.
• استشراء الفساد المالي والاخلاقي للسلطة والاحزاب الدينية الحاكمة
قيام اسلاميين يدعون التدين بتفجيرات ارهابية تقف خلفها منظمات تتاجر بالدين.
• الاستبداد الديني الخاضع لسلطة سياسية تمنح لنفسها القدسية والحق فيما تفعل .
• دعوة رجال دين مسلمين الى من يوجب عليك بحكم اسلامك ان تكره الآخر الذي يخالفك في الديانة.
وتنوعت الأسباب الأخرى على النحو الآتي:
• ردة فعل ضد التطرف والجمود الديني،ونفور من الدين ناجم عن تشدد اجتماعي.
• ظهور أشياخ الغلو الذين بغّضوا الدين إلى الناس.
• التناقضات الفكرية والثقافية التي تروج لها انظمة الحكم العربية.
• سوء تصرف الحكاّم العرب نحو المواطن وعبثهم بمقدرات حياته.
• النفور من الدين بحجة أنه جعل البشر يقتل بعضهم بعضا.
• تساؤلات من قبيل:لو كان الدين الإسلامي هو الحق فلماذا نحن في ذيل الأمم ولماذا نحن الأكثر تخلفا؟
• وجود مذاهب متعددة في الدين الاسلامي تجعل الشاب يحتار ويتساءل ويتشكك.
• اضطهاد المرأة باسم الأسلام دفع بالكثير من الفتيات العربيات الى ترك الدين.
• الاتجاه نحو الالحاد بوصفه موضة فكرية ووسيلة للفت انظار الاخرين.
• زيادة البطالة بين الشباب مع ان بلدانهم غنية (الآف الخريجين العاطلين عن العمل في العراق مع انه يقع على بحر من النفط).
• اعتماد الخطاب الديني عقلية اسطورية تتضمن قصصا غير ثابتة ومعجزات تتناقض مع القوانين العلمية تضع الشاب بين خيارين: اما ان يعيش حالة تناقض بين خيال وواقع،او ان لا يصدق بمرويات القرآن والسّنة.
• الاغتراب وعدم الشعور بوجود معنى للحياة والعزلة الاجتماعية التي يعاني منها الشباب في المجتمعات العربية.
• اشاعة الدعوة الى الالحاد واللادينية عبر مواقع التواصل الاجتماعي لاسيما الفيسبوك وتويتر.
دراسة استطلاعية.
كنا طرحنا عبر مواقع التواصل الاجتماعي سؤالا عن اسباب انتشار الالحاد في العراق،وما اذا كانت هذه الظاهرة ايجابية ام سلبية في بعدها السياسي تحديدا.ولقد تعددت اسبابه في اجابات المستجيبين،غير انها اعتبرت احزاب الاسلام السياسي الحاكمة في العراق هي المسؤول الأول عنها،واليكم نماذج من الأجابات التي شارك فيها اكاديميون ومثقفون:
• الألحاد نتيجة طبيعية لحكم الاسلام السياسي الذي اثبت الحكّام المتاسلمون انهم مجموعة من اللصوص والقتلة.
• اسلوب من العقوبة للجهات الدينية لاستحواذها على السلطة والثروة والاستئثار بامتازات هائلة وترك الشعب للارهاب.
• لأن الذين استلموا السلطة في العراق شكلوا نموذجا سيئا جدا للاسلام لاشاعتهم الفساد في مؤسسات الدولة والنصب والاحتيال والتزوير والبطالة والقتل والتهجير.
• عرض احدهم صورة لشاب في شارع المتنبي رفع هو وزميله “يلبس عقال ويشماغ” لافتة مكتوبا عليها:(انا مواطن عراقي مسلم ..بسبب سرقة الاحزاب الاسلامية للشعب العراقي اصبحت ملحدا واحب الشيطان لانه لن يسرق الدولة العراقية.. يافاسدين يافاشلين).
وعزا آخرون اسباب الإلحاد في العراق الى: فراغ فكري وانحراف سلوكي في مجتمع يعج بالمتناقضات الغرض منه ابراز الشخصية غير المتوازنة، وخطاب ديني بائس يتناقض مع الثورة التكنولوجية والعلم والحضارة ،فيما فسّرها آخرون بانها ليست الحادا بقدر ماهي رفض اداء الفرائض الدينية من قبل شباب اليوم جاء كردّ فعل لممارسات رجال الدين المنغمسين في ملذات السلطة ومغرياتها ،وانه فرمتة مهمة ليبدا منها الشباب نحو الصحيح وسط الفوضى التي جاء بها الاسلام السياسي وفساده.
واختلف المستجيبون في تحديد ما اذا كان الالحاد ظاهرة ايجابية او سلبية من حيث بعده السياسي ،اذ راى الفريق الذي عدّها ايجابية بأن الالحاد دالة على تصاعد منسوب العقل النقدي والتمرد على القطيعية،وانه يجعل الانسان ينقاد الى عقله ويدفعه لخدمة السياسي غير المرتبط بمنهج ديني ،وانه حالة صحية تحتمها قوانين الديلكتيك الاجتمقتصادية.واتفق آخرون مع الرأي القائل بأن الدين في المجتمعات الغربية لا يدّرس في المدارس،وأن الانسان له الحق في امتلاك حريته، وفي القران اية صريحة في سورة الكهف تقول (من شاء منكم فليؤمن ومن شاء فليكفر) وان الله عند المسلمين هو ليس نفس الله في الديانات الاخرى.
وكان رأي الفريق الآخر ان الالحاد حالة سلبية لأنه يؤدي الى تضاؤل الانسجام والتضامن الروحي الذي يبعثه الايمان في النفس البشرية،ويعمل على تفتيت وحدة المجتمع ونشوء النزاعات السياسية.وخلص اخرون الى ان الالحاد مرض ومعالجته مستحيلة في العراق، وانه ناجم عن اضطراب نفسي وخلل عقلي.
استنتاجات
تفيد نتائج هذه الدراسة بصحة تنامي ظاهرة الالحاد واللادينية بين الشباب والشابات في العالم العربي في العقد الثاني من هذه الألفية،غير انه لا توجد احصاءات دقيقة بخصوصها،وان ما ورد من ارقام هي مجرد تخمينات.ومع تنوع اسباب هذه الظاهرة وتعقدها فان السبب الرئيس فيها يعود الى سوء ادارة شؤون الدولة والناس من قبل انظمة الحكم العربي واستفراد احزاب الأسلام السياسي بالسلطة والثروة، وما ارتكبته الجماعات الارهابية من قتل ورعب وجرائم ادت الى تبغيض الناس في الدين.
وينبغي التفريق بين مفهومي (الالحاد) و(اللادينية) حيث يعني الأول انكار وجود الله او الربّ،فيما يعني الثاني انكار المصدر الآلهي للدين او التحرر من الدين،ما يعني ان كل ملحد هو لاديني بالضرورة والعكس غير صحيح،اذ قد يكون مؤمنا بخالق وقد يكون لا ادريا،وقد يكون على طريقة بطل رواية (الحب في زمن الكوليرا) الذي يسأله صديقه:هل تؤمن بالله؟ فيجيب:كلا..ولكنني أخاف منه!.وبهذا المعنى فان القول بتنامي الألحاد الى مستوى ظاهرة في العالم العربي ليس دقيقا تماما بقدر ما هي ظاهرة لادينية ناجمة عن ردة فعل نفسية شاعت بين الشباب والشابات نتجة ضياع واحباط وخيبات وفقدان المعنى من الحياة.ومع انها تشكل ادانة لأنظمة سياسية فاشلة وخطب دينية متخلفة واحتجاجات ضد واقع لا يؤمّن حاجاتهم الحياتية والفكرية، فانها في جوهرها ظاهرة غير صحية لأنها في غالبها فورة و(موضه وتباهي )تشغل الشباب فكريا عن التغيير المطلوب انسانيا.
وعلى افتراض بتنامي الالحاد عربيا الى مستوى ظاهرة،فان هنالك فرقا جوهريا بين الحاد يأتي احتجاجا على وضع بائس او نتيجة ضعف الوازع الديني وبين الحاد علمي يأتي نتيجة تفكير عميق يفضي بصاحبه الى يقين ثابت لن يتغير بتغير تناقض الاوضاع التي يعيشها.والحقيقة المؤكدة ان هذا النوع من الالحاد سيأخذ طريقه الى الانتشار في العالم العربي بحكم قانون اجتماعي هو..ان الضد يخلق ضده النوعي.
نقلا عن المدى