لمحت في حديقةِ الجامعة، غيرَ مرة، عصفورينِ يغردانِ معا؛ تارةً بينَ الأشجار، وتارةُ على الأسوار، وأحيانا في الباحاتِ الخالدةِ المطلةِ على الشارعِ العامِ أوْ بينَ حدائقها الغناء. كانَ الجميعُ يلمحهما، وهما يتبادلا الحديث البرئ المطعم بالابتسامة والضحكة أحيانا، تحتَ أشعةِ الشمسِ أوْ قطراتِ المطر، لكنَ الأهمَ أنهما كانا دائما تحتَ رعايةِ الرحمنِ الرحيم الحافظ لهما. كانَ حدسي ، ومخيلتي العقلية، يوحيانِ لي بأنهما سيجتمعان- يوما ما- في عشٍ واحد، على قمةِ شجرةٍ منْ أشجارِ الإخاء.
لمْ يطلْ الوقتُ طويلا، حتى تحققتْ نبوءتي، فجاءَ الخبرُ السعيد، وانتشرَ صداه، بينَ الحضرِ والبادية، بل؛ بينَ أروقةٍ الفيسبوكْ والتك تك. كما قالَ العربُ قديما، ( وعندَ جهينة الخبرِ اليقين). تذكرتْ ما قرأتهُ في مقاماتِ الحريري، ، تفسيرٍ لهذهِ العبارة الشهيرة، تنشدها صخرةُ أختٍ حصين، وهيَ تسألُ عنْ أخيها في المواسم، فلا تجدُ جوابا، حتى جاءها صديقهالأخنس، وأخبرها عنه، ببعض الأبيات الشعرية.
كصخرةٍ إذ تسائل في مراحٍ وفي جَرْمٍ وعلمُهما ظنونُ
تسائل عن حصينٍ كلَّ ركبٍ وعندَ جُهينةَ الخبرُ اليقينُ
فمَن يكُ سائلاً عنهُ فعندي لسائلهِ الحديثُ المستبينُ
وأخيرا؛ سيجتمعُ الصديقانِ السمراويان، بإرادةِ الله- سبحانهُ وتعالى- تحتَ سقفٍ واحد، كما قالَ جلُ شأنه: ( ومنْ آياتهِ إنَ خلقا لكمْ منْ أنفسكمْ أزواجا، لتسكنوا إليها، وجعلَ بينكمْ مودةٌ ورحمة، إنَ في ذلكَ لآياتٍ لقومٍ يتفكرون) صدقَ اللهُ العظيم.
لقدْ هطلَ الغيثُ على الأزهار الجميلة، ليسقيهِا بماءِ زلال، فارتوتْ الأرض، لتثمر منْ خيراتها تينا وزيتونا، وتفتحتْ بينَ جنباتها، ورودُ الكارينيا والجوري. وغشتْ سماءٌ (الكاظمية) في كرخِ بغدادَ ، سحابةً معطرةً بماءِ الورد، امتدَ شذاها حتى (حيُ أور) في الرصافة، وفي الطرقات، رفرفتْ الراياتُ البيضاءُ عالياً، مبتهجةً بلقاءِ العصفورينِ معا.
بعد اللقاء؛ بدأ، كليهما، يقلب صفحاتِ الكتبِ المشتركةِ القديمة ضمن المحكمةِ الافتراضية، بين المدعي والمدعي عليه، وبينهما قضاة ومحامي أهليهما،ويشتعلَ جدالُ النقاش الجميل، إنها تراجيديا ممتعة، كأنهما في قاعة امتحانٌ. وليصدر القرار النهائي، غير قابل للتمييز، بترك الماضي، والعتب الذي فيه، لتعودمياه الزلال الى الشلالات الجميلة.
بعد هذه الأخبار السعيدة والمفرحة، ماذا، ولو تركنا لهما مجالًا للسكوت والتغريد بهدوء؟
لو كان القرار لي، لنفيتهما الى ريف بعيد، ضمن مزرعة هادئة، بعيدًا عن عيون الآخرين، لشهور عدة ، مع إغلاق الهواتف النقالة ، خوفاً عليهما من العين والحسد، ليتمتعا صباحاً، بقدح من قهوة الحموي.
ولينصتا لكلمات الفنان اللبناني (عاصي الرحباني)، وصوت فيروز الصباحي، وهي تنشد أغنية:
حبيتك بالصيف حبيتك بالشتي
نطرتك بالصيف نطرتك بالشتي
وعيونك الصيف وعيونى الشتي
وليستمعا في المساء، لمطربة الذوق والإحساس، ( نجاة الصغيرة) ، وهي تتغنى بقصيدة شاعرنا الكبير،نزار قباني،( أيظن) ، وعصفورتنا السمراء، تتنفس الصعداء، بعودة الفارس البريئة ليوفي بعهده ووعده؛
اليوْم عاد كان شَيْء لَم يُكِن وَبَراءَة الأطْفال فِي عيْنيْه
لِيقول لِي إِنِّي رَفِيقَة دَربِه وبأنَّني اَلحُب اَلوحِيد لَديْه
حَمْل الزُّهور إِلي كَيْف أَرُده وَصَبايَا مَرسُوم على شفتيْه
“ ثم يُسدل الستار وتنتشر الأنوار في فندق العالم، ونحن نبارك لعصفورينا ليلتهما الأولى المشرقةبغرفتهما المطلة على نهر دجلة ، فيودعان أحبتهما بكلمات رقيقة: إلى اللقاء، على أمل اللقاء القريب.”