التناص مصطلح معروف عند آهل الإدب. ويقصد منه التشابه بين نص ونص أخر او نصوص أخرى. وربما اُطلق ايظاً على العلاقات المتبادلة بين نص، ونص أخر او اكثر.وهو اسلوب نقدي مهم من اساليب النقد الشعري المعاصر، يتعلق بتناول الموضوعية والتحويل والمحاكات في بنية النص الشعري.وهو ما ليس موضوعاً لسطور هذا المقال بكل تأكيد.لكني أود ان استعير هذا المصطلح لتوظيفه بتسليط الضوء على مفردتين من مفردات ظاهرة صلابة الكلمة وتمترسها بالحق للوقوف بوجه سيف الباطل وبشاعته، ودحض كل تهويماته التي يشيعها لتبرير ما يقدم عليه من ظُلم وتجبر بحق كل من لا يتماها مع مشروعيته التي وظف السيف في المقام الأول من اجل حمايتها واستمرارهُ من خلالها.
أخرج الترمذي في سننه عن أبي سعيد الخُدري أن النبي صلوات الله عليه واله انه قال:
” إِنَّ مِنْ أَعْظَمِ الْجِهَادِ كَلِمَةَ عَدْلٍ عِنْدَ سُلْطَانٍ جَائِرٍ” (1)
ويبدو إنَّ الرسول الأعظم صلوات الله تعالى عليه واله كان على اطلاعٍ مسبق بما ستؤل اليه الإمورفي إمُتهِ من بعده ، ليطلق من فمه الشريف هذا الحديث وغيره الكثير مما يصعب تتبعه لكثرته في كتب الحديث والتي تحث على اسلوب التحدي ومواجهة الظلم والظالمين حتى ولو بكلمة.يقول عبد الرحمن الشرقاوي على لسان الإمام الحسين في رأئعته المسرحية ( الحسين ثائراً) : “أتعرف مامعنى الكلمة،مفتاح الجنة في كلمة،دخول النار على كلمة،وقضاء الله هو كلمة الكلمة لو تعرف حرمة زاد مزخور،الكلمة نور، وبعض الكلمات قبور ،وبعض الكلمات قلاع شامخه يعتصم بها النُبل البشري، الكلمة فرقان بين نبى وبغي ،بالكلمة تنكشف الغمة، الكلمة نور،ودليل تتبعه الأمة” (2).
وما أكثر فرسان الكلمة وأبطال الموقف في مدرسة آهل البيت عليهم السلام والتي افتتح باب الفداء لعشاقها فيها على مصراعيه، سيد شباب آهل الجنة الإمام الحسين عليه السلام. بمقولته الشهيرة : ” لا اعطيكم بيدي اعطاء الذليل ولا أفر فرار العبيد”(3) .ثم ليرسم ابنه الإمام زين العابدين عليه السلام ملامح درب التضحية بقوله:”القتل لنا عادة ، وكرامتنا من الله الشهادة”(4). فكان ركب الكلمة والشهادة على طريق ذات الشوكة مستمر، ليطرز بعض الرجال اسمائهم بحروف من نور على جبين الانسانية والتاريخ معاً، ولم يخطأ الشاعر قائلاً : خلق الله للحروب رجالاً ورجالاً لقصعة وثريدِ .
وليس بدعاً عن هذا الركب الشيخ الشهيد نمر باقر النمر الذي التحق بقافلة شهداء الكلمة، قبل أيام تاركا خلفه صدىً يقرع مسامع الاحرار الى ماشاء الله بقوله”اما أن نعيش على هذه الارض احرار او ندفن فيها ابرار”.ومن غير أن نخوض في الدوافع المعلنة وغير المعلنة التي حاول الظالمون التستر خلفها لتبرير جريمتهم باعدام الشيخ الشهيد، فأن وجوه الجور مهما تعددت او تلونت فالباطل جوهره واحد.وإن كانت له جولة فللحق جل شأنه جولات.
حجر بن عدي الكندي من الرعيل الأول الذي شرب الإنفة والإباء من نبعه العلوي الصافي،وتتلمذ في مدرسة آهل بيت العصمة، فكان لايُهادن على ضَيم، ولا تأخذه في الله لومةَ لائم. خاطبه أحد ولاة الجور بعد ان رفض حُجربن عدي سُنة شتم على عليه السلام من على منابر المسلمين قائلاً :” يا حجر ويحك ,
اتق السلطان ,اتق غضبه وسطوته , فان غضبة السلطان احيانا مما يهلك امثالك كثيراً”(5) غير أن حُجر لم يهادن ولم يرضخ للظالمين، فما كان منهم إلا ان ينالوا منه مع تلة من المؤمنين بالسيف. وذلك ديدن الطغاة متى كانوا وأينما حلوا يقول أبن جرير الطبري في تاريخه :”حينما قدموا الى مرج عذراء, قال لهم رسول معاوية : انا قد اُمرنا ان نعرض عليكم الـبـراءة مـن عـلـي واللعن له , فان فعلتم تركناكم , وان ابيتم قتلناكم , فابرؤوا من هذا الرجل نخل سبيلكم , قالوا: اللهم انا لسنا فاعلي ذلك”(6) فرحلوا شُهداء رضوان الله تعالى عليهم مضرجين بدمائهم حاملين ظلامتهم الى بارئهم . وهو تقريباً نفس الذي حصل مع الشهيد النمر قُدست نفسه الزكية. وأن اختلفت مواضيع الارغام واساليب الإذلال. ويأبا الله إلاإن تكون العزة له ولرسوله وللمؤمنين. يقول الشهيد النمر في إحدى خطبه التي كانت أشد من الصواريخ على الظالمين :” من يملك الحسين يملك الشهادة، ومن يملك روح الشهادةِ لا يُهزم “(7). وحقيقاً بمن يسير على درب الحسين عليه السلام أن لا يرى الموت في سبيل الحق إلا سعادة والحياة مع الظالمين إلا بَرما. والشيخ النمر يقيناً لن يكون اخر الملتحقين بقافلة شهداء الحق. قافلة يحدوها رجال من عينة مالك بن نويرة، وعمرو بن الحمق الخزاعي، وكميل بن زياد، وميثم التمار، وهاني بن عروة ،وعبد الله بن عفيف،وسعيد بن جبير، وشهاب الدين السهروردي، والشهيدين الاول والثاني صاحبي اللُمعة الدمشقية، وفضل الله النوري والشهيدين الصدرين.ويقودها سبط النبي المصطفى الإمام الحسين عليه السلام، ليس لها إلا أن تكون قافلة الخلود الى جنان الخُلد. ولو استقصينا جميع من التحق بركب هذه القافلة من مدرسة آهل البيت سلام الله عليهم لضاقت بنا السطور والصحائف. ولعل خير شاهد على وحدة الكلمة والشهادة بين حجر بن عدي والشيخ النمر، هو إن ذات الفكرالآثم الذي أقدم على اغتيال الشيخ النمر وأخفت مكان قبره، أقدمت قبل سنوات قليلة على نبش قبر الصحابي الجليل حجر بن عدي وأخفت ما انتهت اليه رفاته الطاهرة. فالسلام عليكما يوم ولدتما ويوم أُستشهدتما ويوم تبعثا أحيأً في مقعد صدق عند مليكٍ مقتدر.
(1)
سنن الترمذى – ج 8 / ص 345
(2)
مسرحية( الحسين ثائراً والحسين شهيداً)لعبد الرحمن الشرقاوي.
(3)
الإمام الحسين لعبد الله العلايلي.
(4)
أرشاد الخطيب للسيد جاسم شبر.
(5)
الدرجات الرفيعة لعلي خان المدني ص426
(6)
الطبري ج 4 / ص 205.
(7)
يراجع ارشيف خطب الشيخ الشهيد على الانترنت