أصبح اسم دولة قطر في الفترة الأخيرة يتكرر قرينا بالولايات المتحدة ودول كبرى أخرى بوصفها لاعبا مؤثرا في الحدث العربي والعالمي . وقد رافقت هذه الشهرة السريعة مواقف وتفسيرات لا يمكن حصرها ، تمثلت بانزعاج الكثير من الحكومات العربية المعلن أو الخفي لهذا الدور الذي لا يرونه متناسبا مع حجم قطر وموقعها ، ومثل في جهات أخرى موضع ترحيب ورغبة نظرا لأثر الخيرات القطرية في تحقيق تلك الجهات لمآربها ، وكان موضع جدل ونقاش كبير في الأوساط العالمية حول حقيقة القدرات القطرية وتناسبها مع الموقع والمكانة التي تحاول أخذها في الحدث العالمي ، وكذلك حول سلامة وصحية هذا الدور على العلاقات الدولية والأمن العالمي .
وفي إطار الوقوف على سبب هذه القفزة الكبيرة التي عاشتها قطر وسياستها الخارجية بالذات ، يقدم الكثير من المختصين تحليلات تتفق على أن هناك مشروعا في المنطقة يتحرك بآلية ما يسمى بـ”العمل بالنيابة” .وتعد قطر (حمد/جاسم) هي اللاعب الفاعل لتنفيذ هذا المشروع ، وأما المالك الأصلي لريعه ، فهناك من يرى أنه (إسرائيل) ، وآخر يرى أنها (الولايات المتحدة والغرب) ،وثالث يدعي أن صاحب الملك الأصلي (تركيا الأوردغانية الطامحة ) ، وبعض ينسبه إلى مشروع (الإسلام السياسي في المنطقة بقيادة الإخوان المسلمين ) .
بغض النظر عن دقة هذا التصوير من عدمه ، يبقى السؤال المهم : ما هي المنافع الحقيقية التي كانت قطر (حمد/جاسم) ترغب في الحصول عليها جراء القيام بهذا الدور؟ وهل أنها كانت ساعية بنفسها للقيام بهذا الدور أم أن ظروفا وتحديات أجبرتها على القيام بذلك ؟ وهل أنها كانت مدركة لخطورة اللعبة وتداعياتها ، أم أنها تورطت في حلبة أكبر من حجمها ؟
قطر الغنية بالموارد والثروات ، والمتقدمة نسبيا في التنمية ، والمنسجمة إلى حد ما ديمغرافيا ، كانت محكومة بثلاثة رؤوس فاعلة : “الأمير حمد” و “رئيس الوزراء ووزير الخارجية جاسم” و “الزوجة المدللة القوية الأميرة موزة” ، وتنقسم القوى الثانوية كل خلف راية من تتوافق معه كليا أو جزئيا من هذه الرؤوس الثلاثة .
لا يمكن القول بأن هناك تنافس وتضاد بين الرؤوس الثلاثة ، وأن العلاقة بينهم تمثل صراعا على مصادر القوة ، لكن لا يمكن الإغضاء عن وجود اختلافات (قد تصل إلى الخصومة ) في وجهات النظر بينهم ، وخصوصا فيما يتعلق بإدارة الملفات الخارجية .
في الآونة الأخيرة مثل ( توجه جاسم) ، الذي قد يكون متوافقا نسبيا مع توجهات الأمير حمد منهجا يرى بأن مكانة قطر الجديدة يمكن تحقيقها من خلال الالتحاق بركب “مشروع الإسلام السياسي/الإخوان” ، والذي تقوده تركيا الأوردغانية الطامحة ، وتتناغم معه نسبيا مصالح الولايات المتحدة والغرب عقيب تبدل وجهات النظر بالحكومات التي توصف بالعلمانية ، والذي يخدم أمن ومصالح إسرائيل بشكل مباشر أو غير مباشر ، لأن من أول أولويات هذا المشروع تكثيف المواجهة والعداء مع إيران . كما أن هذا المسار اتبع سياسية الاستغناء التدريجي عن التجمع الخليجي ، بل أحيانا الاستعلاء على سياسات ذلك التجمع . يقابل هذا التوجه رؤية اللاعب الثالث “الأميرة موزة ومريديها” ، والتي لا ترى مصلحة في هذا الاندفاع للدور القطري خصوصا في بلدان التحول ، وسورية بالذات ، كما أن توجهاتها الليبرالية لاتنسجم مع المرجعية الإخوانية القرضاوية السلفية الأوردغانية ، وترى أن التركيز على التنمية الداخلية ، والإهتمام بالملفات الداخلية ، وتعظيم الصوت العلماني الليبرالي (داخليا) ، يمثل مفتاح تقدم قطر ، حيث تشاطر “دبي الصاعدة” في مسيرتها .
على أثر وعي الأمير بحجم المخاطر التي لحقت بقطر (حمد/جاسم) ، وتلمس الآثار السلبية لسياسة الإندفاع القطرية ، ونظرا لظهور علامات الفشل والانتكاس على مشروع (الإخوان) في أكثر من مورد ، ولتكشف وقائع يومية مختلفة حول ما يجري في سورية ، ولنصح متكرر يتلقاه الأمير من أجل ترشيد وتعديل تلك التوجهات ، ولقوة “الأميرة الزوجة وتيارها” ، وللشعور بخطر ما يجري من تحولات في المنطقة ، وللحفاظ على ماء الوجه والإبقاء على المكانة المعنوية لنفسه ، ولإدراكه بضرورة التحول الكلي عن المسار الذي انزلقت فيه قطر الطامحة ، قرر الأمير وبشكل مفاجىء نقل السلطة إلى ولده المخصوص بعنايته ، ومحل ثقته “الأمير تميم ” ، ليقوم بمهمة إعادة قطر إلى المكان المناسب الذي ينبغي أن تكون فيه ، ولترميم التصدعات التي ألحقتها “إندفاعات جاسم” بقطر دولة ومكانة ، وللرجوع إلى الحضن الخليجي مجددا .
في العاصمة القطرية الدوحة ولد تميم في 3 يونيو سنة 1980، وهو ثاني أبناء الأمير الشيخ حمد بن خليفة آل ثاني . تدرج في تحصيله العلمي والمعرفي فحصل على شهادة الثانوية من مدرسة شيربورن بالمملكة المتحدة ، وهو من خريجي مدرسة ساندهيرت العسكرية البريطانية الشهيرة .
بعد فترة ليست بالطويلة عينه والده وليا للعهد خلفا لأخيه الشيخ جاسم بن حمد . ومنذ تلك المرحلة انطلقت مسيرته نحو عالم السياسة ونحو الأضواء وبرز على الساحة الوطنية والإقليمية والدولية ، حيث شارك ومثّل بلاده في عدد من المؤتمرات . كما أشرف عندما كان وليا للعهد على قيادة القوات المسلحة بالنيابة عن والده . وشغل منصب نائب رئيس المجلس الأعلى للشؤون الاقتصادية والاستثمار . ثم بعد ذلك تولى رئاسة عدد من المجالس والهيئات الرئيسية في البلاد ، كالمجلس الأعلى للتعليم والمجلس الأعلى للاتصالات وتكنولوجيا المعلومات والمجلس الأعلى للبيئة ، وهيئة الأشغال والتطوير العمراني ، ومجلس قطر للاستثمار ، الذي تقدَّر استثماراته بمليارات الدولارات في مختلف بلدان العالم . كما أنه ترأس اللجنة الأولمبية القطرية ، ويُعرف عنه حبه للرياضة . وسيشرف على ملف مونديال العام 2022 لكرة القدم ، الذي تستضيفه قطر . وهو من محبي فرنسا والثقافة الفرنسية شأنه شأن والده ، كما أنه يتكلم الفرنسية بطلاقة . ويعشق الشيخ تميم التراث والإرث الثقافي الخليجي وقد بنى لنفسه قصرا تراثيا ساحرا في الصحراء .
الحاكم الجديد له زوجتان وستة أبناء ، سنّ الكبرى بينهم سبع سنوات ، أما نجله الذكر الأكبر فيبلغ من العمر خمس سنوات .
بداية من العام الماضي ، تولى الشيخ تميم بن حمد صلاحيات واسعة في القضايا المحلية من أمن وتنمية ، والملفات الخارجية ، وفي مقدمتها تعزيز التواصل مع دول الخليج .
ليست الطريق معبدة بالورد أمام الأمير الجديد ، فداخليا له من المنافسين والحساد ، بل وحتى المتآمرين عليه ، وخارجيا ورث وضعا قطريا مرتبكا ومنزلقا في واد سحيق تكاد قطر أن تصل إلى قعره ، خصوصا عقيب اندفاعها المحموم في الملف السوري .
الابن الشاب تدعمه بقوة والدته المدللة ، وهي تضغط على الأمير المترنح تحت المرض والمشكلات ، من أجل فسح المجال له باتخاذ قرارات حاسمة وقوية ، خصوصا في مجال العلاقات الخارجية ، كما أنها تحاول أن تنصح الأمير الجديد بالتروي في نهجه الإصلاحي .
ظهرت معالم القوة ، والرغبة الواضحة في مغادرة مكان (قطر حمد/جاسم) عند الأمير الطموح ، إلى موضع جديد يراه “الأمير تميم وأمه ” الأنسب لقطر ، لذلك عمد إلى إقصاء (الخصم جاسم) من كل مجالات التأثير السياسية والمالية بخطوة استباقية شجاعة ، وركز على ضرورة العودة إلى الحضن الخليجي ، والبدء بتحسين العلاقات المتوترة أو الباردة مع السعودية والإمارات ، وعموم دول مجلس التعاون ، وهناك رغبة واضحة للتراجع عن الاندفاع الانزلاقي في الملف السوري ، بل عموم ملفات دول التحول .
رغم القدرة الإقتصادية الكبيرة لقطر ، ووفرة الخيرات فيها بالقياس إلى حجم السكان الصغير فإن استحقاقات تنموية كبيرة تنتظر الأمير الجديد ، خصوصا فيما يتعلق بملف العمالة الأجنبية ، وملف الحريات العامة ، وخفض مستوى تأثير النهج القرضاوي في مسارات الحياة العامة .
لا يتوقف الأمر عند هذا الحد ، فهناك قاعدة العديد العسكرية وما ترتب عليها من التزامات استراتيجية أمنية بين قطر والولايات المتحدة الامريكية ، كذلك عقدت في الفترة السابقة تحالفات أمنية عسكرية مع إسرائيل ولها التزامات استراتيجية ، كما أن قناة الجزيرة الممثلة لدولة قطر ألحقت بالكثيرين جروحا بالغة ما زالت تداعياتها سارية إلى هذه اللحظة ، ويبقى التيار القرضاوي والسلفيون عموما لهم سطوتهم في الداخل القطري ، كما أن جاسم لن يرفع الراية البيضاء بسهولة أمام الابن الطامح .
هذه التحديات الداخلية والخارجية هل تسمح للأمير الجديد بتحقيق نقلات نوعية وجذرية في السياستين الداخلية والخارجية ، وخصوصا في الملفات المهمة المتمثلة بـ الانسحاب من لعبة النيابة ، والتخلص من مستنقع الدفاع عن النهج التكفيري العدائي ، ووعي المصالح القطرية الحقيقية ورسم دائرة العلاقات على أساسها ، فبدلا من تصعيد اللهجة العدائية مع إيران والعراق ، التحول إلى سياسة تعاون واعية مبنية على أساس المصالح المتبادلة والتعاون المشترك . فالثنائي القطري الإيراني يشكل أكبر مصدر للغاز ويمكنه أن يتسيد السوق العالمية للطاقة ، بالإضافة الى آفاق التعاون التي يمكن أن تنفتح بين البلدين . وأما العراق فمن الأفضل لقطر التحول من منهجية السياسة الحذرة أو لهجة التعالي على التجربة العراقية الجديدة إلى سياسة التعاون والتشارك ، فالعراق بلد محوري لا يمكن لقطر مهما استطال ظلها أن تتجاوز مكانته الدولية والعربية .
الأيام ستكون الحكم أمام ما يمكن أن يحققه الأمير الجديد ، والذي نتمنى له أن ينتهج بدولته مسارا يبعدها عن سياسة الصدامات والعدائية ، والدخول في الشراكات الإيجابية النافعة لقطر وشركائها .
مدير المركز العراقي للبحوث والدراسات