18 ديسمبر، 2024 7:41 م

تمنيات وردية في بيئة بائسة!

تمنيات وردية في بيئة بائسة!

هناك مثل انكليزي يقول: “A fish rots from the head down ” وترجمته ان السمكة تتعفن من الرأس إلى الأسفل، ورغم ذلك ذهب الفنان المسرحي الكبير يوسف العاني في احدى مشاهد تمثيلياته الى ذيل السمكة وهو يشمها مما أثار استغراب البائع او السماك قائلا له: إنَّ المشتريين يشمّونها من الفم ليتأكّدوا أنها صالحة أو خايسة، ضحك المشتري بازدراء، قائلاً: أعرف ذلك جيداً، لكنني أردّت التأكّد من أن العفونة قد وصلت إلى الذيل أم لا!؟

وما بين رأس السمكة وذيلها يكاد يضيع البلد وكثير من بلدان الربيع العربي التي سقطت بمستنقع الفساد حينما سقط دكتاتورييها من اعلى الدرج الى اسفله، والذي يحاول ورثتهم تنظيفه من الاسفل، مستهدفين موظفين صغار من (العظامة) هنا وهناك لضربهم على طريقة عنترة بن شداد ( كنت اضرب الضعيف ضربة يهتز لها قلب القوى)!

بهذه المقدمة السريعة أردت أن أدخل إلى عالم التمنيات الوردية في بيئة فاسدة وبائسة، كانت وما تزال تعكس شكل المجتمعات في معظم الدول التي طالتها عمليات التغيير الفوقية وأزالت هياكل أنّظمتها السياسيّة متمثلةً بالرئيس وطاقمه، وفي مقدمتها العراق، حيث تراكم هائل من ثقافة القطيع والخوف المتكلس في أدق تفاصيل الشخصية الفردية والمجتمعية ناهيك عن مناهج تربوية ترّبى ملايين البشر عليها، ديدنها الخضوع والاستكانة وعبادة الفرد والأفكار البالية والعقل الوعائي لمعلومات ببغائية لا تعرف النقد ولا الاعتراض ولا صناعة الرأي المختلف.

لا شكّ أن معظم هذه البلدان وبدرجات تكاد تكون متقاربة، تعاني من إشكالية معقدة في تطبيق حلول غير واقعية أو زراعة بذور في أرض غير ملائمة لإنباتها ونموها، وخاصةً ما يتعلق بتداول السلطة والهيئات التشريعية التي تخضع قوانينها لسلطات اجتماعية، لم تنجح كلّ المحاولات في إزاحتها أمام تقدم فكرة المواطنة، فما تزال كراسي غالبية مجالس النوّاب محجوزة لاصحاب تلك السلطات الاجتماعية والدينية إلى حدٍّ ما، وخاصةً سطوة الشدّ القبلي والمناطقي والاستقطاب المالي (شراء وبيع الاصوات)، ناهيك عن ممارسات دكتاتورية بعباءة ديمقراطية تبررها الأعراف والتقاليد والفتاوي الدينية.

إنّ الّذين يصرّون على عملية التنظيف، عليهم البدء من الرأس في أعلى الدرج، فقد أثبتت التجارب وفي كلّ أشكال الأنظمة الإدارية والاجتماعية والسياسية، أنّ الفساد فيروس يصيب الكبار وينتشر في البيئة التي تضعف فيها الدولة ومفاصلها، ويتولاها المتسلقين من المنفذين الصغار لبرامج الكبار الذين يُطلقون عليها هنا في الدارج العراقي بـ (العظامة) وحصتهم من الصفقات لا تتجاوز الأذن من الجمل، لقد استشرى الفساد في هياكل الدولة العليا، وخاصةً في السلطتين التشريعية والتنفيذية حتى غدا دولة أقوى من الدولة ذاتها، مالكاً كلّ أذرعها العسكرية والأمنية والاقتصادية. هذه اللادولة تقوم على ثلاث أسس هي :

– الذراع العسكري المتمثل بالميليشيات مع اختلاف تسمياتها وطروحاتها الدينية والمذهبية والعشائرية
– الذراع الاقتصادي المتمثل بالمكاتب الاقتصادية للأحزاب والميليشيات والسيطرات التي تفرض الأتاوات والضرائب
– الذراع الأمني المتمثل بأجهزتها الاستخبارية ومعتقلاتها وسجونها السريّة وعمليات الاختطاف والاغتيال والتغييب لآلاف من الشباب بتهمة كاذبة.

هذه الأذرع الثلاث، ترتبط بها شبكة من مئات الشركات الوهمية والمكاتب بمختلف الاختصاصات العقارية والمصرفية والسفر والسياحة والقنوات الفضائية والمنافذ وتهريب النفط ومشتقاته، ناهيك عن عمليات بيع وشراء وتهريب العملة، ولدى كلّ هذه المؤسسات ممثلين في معظم الوزارات الحلوب، بل حتى في السفارات والممثليات خارج البلد، أنها شبكة معقدة بدعم إقليمي خطير أكبر من مجرد إصلاحات سطحية أو جانبية، إننا إزاء عملية جراحية كبرى تستأصل بقرار وقوة رؤوس الفساد والإفساد، لكي تنٍهار كلّ هذه الشبكات!
افعلها وسترى عشرات الملايين معك، فلا تستبدلهم ببضع أصنام!