شهد الخطاب السينمائي منذ الصيرورة الأولى تحولات بنيوية كبيرة على المستوى الشكلي، فالذات المبدعة تسأم السائد دوما باحثة عن المغايرة والفرادة، لذا كان التجريب الشكلي مآلها الدائم، ومع المهادات الأولى للصورة السينمائية فارق التركيب البصري لفيلم قطار الأخوة لومير تركيب الصورة في فيلم رحلة إلى القمر للمخرج ميليس، ثم تمظهرت الأشكال الوثائقية التي فارقت الشكل الروائي عبر التراكيب الصورية للمخرجين الروس من جهة وجريرسون وفلاهرتي وغيرهما من جهة أخرى.
ومع تقادم السنوات تطور الشكل الوثائقي حتى خرجت منه أنواع كثيرة تأثرت بالنظريات والتيارات السينمائية مثل طروحات المنظر الالماني سيغفرد كراكاور وتيارات سادت ثم غادرت وبقيت ملامحها قارة في الاشتغالات الراهنة مثل نظرية الكاميرا عين والسينما المباشرة والسينما الحرة وغيرها.
ينتمي الفيلم الوثائقي مريم للمخرج مرتضى الموسوي والذي أنتجته قناة العراقية إلى الأفلام الوثائقية التي لم يخطط لها مسبقًا فهو أقرب إلى السينما المباشرة أو سينما الحقيقة كما تسمى غالبا، وقد كان اغلب مخرجي السينما المباشرة شديدي التأثر بآراء وأعمال المخرج روبرت فلاهرتي، لذا كانت أعمالهم تميل إلى تصوير الأشخاص والأحداث كما هي، ففريق العمل المكون من مجموعة من الإعلاميين الذاهبين إلى تغطية المعارك التي يخوضها مقاتلي الحشد الشعبي ضد تنظيم داعش الإرهابي فوجئ بحادثة غيرت من تفاصيل الرحلة وواجبات التصوير، إذ سمعوا صراخ طفلة تطلب منهم إنقاذ عائلتها القابعة تحت ركام بيتهم الذي فجره الدواعش عليهم، هنا حدث المتغير البنيوي الذي ساهم في صناعة الفيلم المباشر، فلا مخطط أولي ولا جدولة في تصوير المشاهد بل تم ضغط زر تشغيل التسجيل في الكاميرات سواء كانت المركبة في خوذهم أو المحمولة في أيديهم ليتم التسجيل مع رحلة رفع الأنقاض الشاقة، وبعد معاناة كبيرة بسبب التعرضات الداعشية بالأسلحة المختلفة من جهة والتعب الشديد والإرهاق والعطش من جهة أخرى ينجز الفريق مهمته بنجاح، وقد أعتمد الفيلم على عفوية الممثل غير المحترف واللحظات المتميزة التي تخلق بشكل عفوي أيضا، وهذا ما ذهب إليه المنظر الجمالي جان متري من أن الكاميرا المحمولة بعفوية مضطربة قد تحقق في بعض الأحيان ردود فعل نفسية قد تفوق أيا من وسائل التصوير أو التحري الأخرى.
وقد وظف صانعو العمل جماليات السينما المباشرة التي تجسدت عبر توظيف الكاميرا المحمولة باليد أثناء العمل مما حقق اهتزازها إقناعا كبيرا بقسوة الواقع فضلا عن توظيف زوايا مستوى النظر التي تشي بالواقع الفيزياوي الذي تصنعه العين الانسانية بتشريحها الطبيعي والحال ذاته بالنسبة لأحجام اللقطات التي تميزت بسيادة اللقطات الكاملة، في حين وظفت الإضاءة الطبيعية التي تشعر المتلقي من أن الفيلم الذي أمامه ينأى بنفسه عن الصناعة المونتاجية، ولم يستخدم صانعو الفيلم المونتاج إلا لرفع بعض الأزمنة الميتة التي تطيل زمن الفيلم فمن الصعب تقديم زمن رحلة الإنقاذ الذي أستمر لساعات طويلة في فيلم وثائقي قصير المدة، فقد تغيرت طرائق المشاهدة في زمن السرعة الفائقة للملتميديا لذا اكتفوا بنصف ساعة من الأحداث المختزلة التي لم تشوهها تقنيات الكرافيك ومؤثرات المونتاج.
وقد حاول صانعو الفيلم كسر التطابق المطلق مع السينما المباشرة حينما كسروا سيادة الحدث والمكان حينما وظفوا حكاية أخرى قبالة الحكاية الرئيسة وقد تجسد ذلك بالمشهد الختامي الذي زاروا فيه العائلة التي تم إنقاذها في البيت الذي تم تأمينه لهم وقراءة سورة الفاتحة لهم بسبب استشهاد أفراد العائلة تحت الانقاض ثم تناولوا طعام الغداء معا وهنا حقق الفيلم بمجمل الحكايتين رسالة مهمة ومضادة للإعلام المضاد الذي يحاول تشويه صورة الحشد الشعبي حينما جعلوا من الانسانية هي القيمة العظمى، فالقيمة الإنسانية للإعلام قد تفوق الواجب الإعلامي فهي تسمو بنفسها عن العرق والدين والطائفة عبر المادة الواقعية المباشرة التي يصفها المنظر الألماني سيجفرد كراكاور الطبيعة وقد تلبست بالفعل، فالسينما المباشرة الناصعة وسينما الدفاع المقدس الإيرانية قدمت رسائل إنسانية عالية المضامين بعيدة عن الايدولوجيا والإقصاء والتحزب وهي هنا تنتمي لطروحات الفيلسوف الإغريقي أرسطو حينما وصف المأساة من أنها محاكاة لفعل نبيل كامل فالفن برمته هو محاكاة نبيلة هدفها السمو بالذات الإنسانية حيث المحبة والسلام.