23 ديسمبر، 2024 5:44 ص

تمثلات الرفض والاحتجاج في فيلم ثلاث وجوه للمخرج جعفر بناهي

تمثلات الرفض والاحتجاج في فيلم ثلاث وجوه للمخرج جعفر بناهي

ضمن عروض مهرجان كان لعام 2018 عرض الفيلم الإيراني ثلاثة وجوه للمخرج الممنوع من العمل والسفر (جعفر بناهي) وقد حصل الفيلم على جائزة أفضل سيناريو المهرجان ، ولو فككنا الفيلم من اجل تبيان تمثلات الرفض والاحتجاج فيه ، نجد أن المتن الحكائي يدور حول مقطع فيديو يعود لفتاة تحب التمثيل والسينما هي (مرضية) مثلت الانتحار داخل احد الكهوف بعد أن تجاهلت قدوتها الممثلة الإيرانية المشهورة (بهناز جعفري) التي تؤدي الدور بنفسها الرسائل الكثيرة التي بعثتها الفتاة من اجل مساعدتها في إقناع أهلها وقريتها بممارسة التمثيل ، وحينما تعجز من ذلك تفتعل انتحارها من خلال هذا التصوير، ثم ترسله من خلال صديقتها (مائدة) إلى (جعفري) على برنامج الانستغرام ، وحينما تشاهد (جعفري) الفيديو مع زميلها المخرج (بناهي) الذي يؤدي الدور بنفسه يقرران البحث عن الفتاة في قريتها ، وتمضي الأحداث ليكتشفا أنها لم تنتحر ؛ بل افتعلت ذلك بعد أن يئست واشتدت معارضة الأهل والقرية لها ، فتوبخها (جعفري) وتتركها وتسافر متجاهلة توسلات الفتاة ، وفي طريق العودة تقف السيارة منتظرة مرور سيارات قادمة في الطريق الموحش ، عندها تترجل (جعفري) لإكمال بعض من طريق العودة مشيا ، لنسمع بعدها صرخات نداء الفتاة على السيدة (جعفري) ثم نشاهدها تركض محاولة اللحاق بها وسط نهاية مفتوحة تعانق الأفق ، وفي وسط الحكاية الرئيسية هناك حكاية فرعية للمطربة المنعزلة (شهرزاد) والمنبوذة من قبل أهالي القرية بسبب تاريخها الفني ، أما المبنى الحكائي للفيلم فقد جاء بناؤه بشكل تتابعي ، إذ أن الأحداث لم تشهد حكاية موازية للحكاية الأصلية .
وبعد أن استعرضنا المتن الحكائي والمبنى الحكائي يجد المتلقي نفسه قبالة نسقين متحايثين متعاضدين ، الأول تقني فني جمالي والثاني فكري ايدلوجي ، ففي النسق الأول اشتغل المخرج على صناعة سينما متقشفة عمد فيها إلى محاكاة السينما الثالثة والمدارس الواقعية لاسيما الواقعية الايطالية من خلال استخدامه في بعض الأحيان كاميرا محمولة متنقلة معه على طول الطريق إلى القرية وفي داخلها أيضا ، فقد كانت ذات لقطات طويلة وكوادر مهتزة ، ولو تابعنا المشهد الأول الذي خاطبت به (مرضية) صديقتها المقربة (مائدة) طالبة منها إرسال هذا التسجيل الفيديوي إلى السيدة (جعفري) نلحظ استخدام كاميرا الهاتف النقال بطريقة تصوير (Selfie) ، كان الكادر فيه مهتزا من زاوية منخفضة ، وقد عمد المخرج إلى استخدام الزاوية المنخفضة هنا ليعبر عن قوة الشخصية ، فالفتاة تحمل من الموهبة والثقافة والنجاح ما تفخر به على الرغم من النسق الذكوري السلطوي الذي يحاول تقويض ذلك ، في حين كان التصوير والاهتزاز يشي بالواقعية المنشودة وشيء من تقانات السينما الثالثة ، وفي المشهد الثاني الذي يجمع البطلة (جعفري) مع المخرج (بناهي) في السيارة وهما في رحلة الطريق الطويل والوعر إلى قرية الفتاة نلحظ أن المخرج استخدم اللقطة الطويلة لزمن تجاوز العشر دقائق تابعت فيه الكاميرا (جعفري) أثناء جلوسها في السيارة ثم نزولها وعودتها من زاوية مستوى النظر ، في حين أن صوت صديقها المخرج كان يسمع دون ظهور صورته على الشاشة ، والحال ذاته تكرر في مشاهد أخرى من الفيلم وهذه التقانة من اشتغالات السينما الثالثة والواقعية أيضا.
ولم يستخدم المخرج في مشاهد الفيلم المتنوعة أي نوع من العدسات التي تساعده في بنائه الصوري مثل (Wide angle) أو (Micro) أو (Fish eye) من اجل التقاط أي تفاصيل ؛ بل أعتمد النظرة الواقعية الطبيعية ، في حين كانت الإضاءة الطبيعية هي السائدة في الفيلم وهذا ما تجلى في المشهد الثاني حينما كانت الممثلة مع المخرج في السيارة ، إذ اعتمد على الضوء الخافت للسيارات المارقة مما جسد لنا القلق النفسي الذي تعاني منه الممثلة ، أما الأمكنة الواقعية المتعددة في الفيلم ، فقد جسدت الأحداث بكل دلالاتها الفرعية مثل التسلط والرجعية والتهميش ، فالسيارة هي ذاتها سيارة المخرج والطرق هي ذاتها والحال ذاته ينطبق على بيوت القرية ، فقد صور الفيلم في إحدى القرى الإيرانية دون علم السلطات على حد قول المخرج الممنوع من الإخراج والسفر ، ليتحول المكان إلى دلالة شمولية تشي بالرفض بكل تجلياته الواقعية ، كما وظف المخرج بعض الشخصيات الحقيقية من أهالي القرية في التمثيل لأول مرة .
إن الاشتغالات التقنية والفنية التي تجسدت من خلال عناصر اللغة والسرد ضمن شكل واقعي ضابط اقتطع من الواقع ما هو مشاكس وناقد يقارب ما ذهب إليه المنظر السينمائي الفرنسي (أندريه بازان) في كتابه ما هي السينما حينما وصف هذا الاشتغال الجمالي بالبصمات التي تترك أثرها على السليلويد ، وهو اشتغال زخرت به التيارات الواقعية مثل الواقعية الايطالية وسينما (نوفو) والسينما الثالثة وغيرها.
أما النسق الثاني هو النسق الفكري الايدلوجي ، فمنذ المهادات الأولى للواقعية الملحمية والاشتراكية والايطالية وصولا للسينما الثالثة ، عملت هذه التيارات إلى تبني خطاب فلسفي يقترب من إرهاصات الإنسان المستلب من اجل تقويض كل القيود التي عملت على استلابه ثم اغترابه ، فقد تضمن الفيلم عدة انساق اشتغلت على الرفض والتمرد لكل السلطات المركزية ، إذ يرى الفيلسوف الألماني (نيتشه) أن الإنسان المعاصر وقع تحت سيطرة عدة سلطات منها سلطة الدين وسلطة المجتمع والسلطة الحاكمة التي حولت الذات الإنسانية إلى آلة صماء تطيع كل قوانينها ، ولابد من تقويض هذه السلطات الشمولية التي تحاول تعليب الإنسان وترويضه ، فكيف إذا كان الإنسان المستلب هو المرأة التي وقعت تحت سطوة نظام بطرياركي أبوي كما في فيلم ثلاثة وجوه قيد الدراسة ، ففي المشهد الأول نلحظ أن البطلة (مرضية) حينما كانت تحدث الممثلة (جعفري) عبر الشريط الفيديوي تقول (نبذتني عائلتي وحتى عائلة خطيبي) بعد علمهم بحبها للسينما ورغبتها في أن تصبح ممثلة ، ومن خلال الحوارات الأولى في هذا المشهد ندرك مقدار الوصاية الأبوية الاجتماعية التي فرضت قوانينها الصارمة التي تمنع ولوج النساء إلى حقل الفن عموما والسينما خصوصا ، وهذه الوصاية مردها الحمولات المتواترة الراسخة للوعي الجمعي لدى رجال القرية والتي وضعت الظهور الاجتماعي والفني للمرأة تحت طائلة العيب والحياء ، وهنا يوجه الفيلم رسالة إلى كل المتزمتين بضرورة كسر هذا (التابو) المهيمن في الوعي الجمعي ، فبسببه اضطرت الفتاة إلى تمثيل كذبة الانتحار ، وهذا ما تجسد بصريا في المشهد الثامن الذي شاهدنا فيه وصول المخرج والممثلة إلى القرية وسؤالهما عن الفتاة ، فقد جوبهوا بالرفض والسخط بل تطور الأمر إلى الشتيمة من قبل شقيق الفتاة حينما قال (هذا معهد دراسة قذرة).
في حين كشف المخرج التسلط الديني المرتبط بالخرافة في المشهد السادس الذي نرى فيه السيدة العجوز نائمة في القبر وهي تضع قربها الفانوس ، وحين سألها المخرج عن سر نومها بالقبر مع الفانوس ، ترد عليه من اجل أن أنير قبري كي تهرب الثعابين التي تفترس الجسد المذنب بعد دفنه ، وحين يسألها المخرج عن ذنوبها ترد بعدم علمها بالذنوب التي قامت بها ، أن هذه الأفاعيل التي روج لها رجال دين منتفعين غير واردة في الأدبيات الإسلامية ، وأن الغرض من جعلها تصرفا جمعيا جاء من اجل مركزيتهم المرتبطة بكل شيء ولابد للإنسان أن يكون تحت هذه الوصاية مهما كانت طروحاتها اللاهوتية .
وقد تجلى التسلط الحكومي في عدة مشاهد أبرزها السرد الفرعي لحكاية المطربة (شهرزاد) التي عانت من الإهمال والسخط من قبل الحكومة التي تنظر إلى الغناء ممارسة مرفوضة اجتماعيا ودبنيا ، فكيف وهي التي كانت تغني في العديد من الأفلام والحفلات قبل الثورة ، وقد تجسد رفض شهرزاد المهمشة للأخر المتسلط من خلال حوارها الذي تنقله الممثلة (جعفري) حينما تصف كل الرجال بأنهم اقصائيين للأخر بما فيهم المخرج (بناهي) بعد أن علمت بوجوده (الجميع يشبهون بعضهم البعض) كما يتضح ذلك في المشهد السابع عشر ، وقد تحول هذا الرفض والتمرد إلى فعل مضاد تجسد من خلال عزلتها وميلها إلى الرسم ، فالرسم هنا دلالة فاعلة ، تشتغل على أنتج صيرورة جديدة لعالم وحشي تحاول المغنية (شهرزاد) أن تشذبه من خلال إعادة صياغته بواسطة الرسوم المتنوعة كما نلحظ ذلك في المشهد السابع والعشرين.
فيلم ثلاثة وجوه عبر عن تجليات الرفض والاحتجاج بشكل مائز ، وظف به المخرج (جعفر بناهي) طروحات السينما المتقشفة وهي تصرخ بالكوجيتو الذي اجترحته لنفسها (انا اصور أذن أنا موجود) الذي سيصبح ذات يوم (أنا اصور أنا اصنع الثورة) كما ردد ذلك قبله رواد السينما الثالثة قبل عقود.