مما لاشك فيه أن الأدب في علاقته بالجماهير قد اتخذ في مسيرته الطويلة أكثر من مسار ، فتارة نجده لصيقا بالشعب يعبر عن همومه وآلامه ، وتارة أخرى نجده ينحو نحو الذاتية ، فلا يأبه للشعب وطموحاته ، وبين هذا وذاك يظل الأدب وليد عصره ، لا يمكن أن يكون إلا صورة حيه لتجسدات الزمان والمكان ، فهو في كلا المسارين لا ينفك معبرا عن قضية الإنسان إلا ن الناظر في حال الأدب قد يجد بسهولة تلك الوشائج القوية بين الأدب الشعبي والجمهور والمقصود بالأدب الشعبي هو ذلك الأدب لذي يصدر عن عامة الشعب ، فيكون نابعا من صميم مشاكلهم ، ناطقا بهمومهم ، معبراً بلهجاتهم ، متجها نحو آمالهم ، هذا النوع من الأدب قد ظل لصيقا بالشعب ، لم يفارقه لحظة ليسكن في صوامع الأدب الرسمي العاجية .
لكن الأدب الشعبي على عراقه أصله ، وغزارته وديمومة علاقته مع الجماهير ، لم يحظ ــ إلا نادرا ــ بمن يكشف عن جمالياته ، ويفصح عن آليات كتابته ، وينير طريق من بحاجة إلى معرفة المزيد عنه إلا إننا ومع كتاب الشاعر فراس الاسدي ــ شاعر شعبي شاب عراقي ــ الموسوم بعنوان (في مدار القوافي … رسالة في الأدب الشعبي ومجاوراته) استبشرنا أخيرا ، فالاسدي فضلا على كونه شاعرا متمكنا من أدواته إلا انه يتميز بثقافة أهلته أن يجوس في منطقة نقدية تخص قضايا الأدب الشعبي ، فهو يرى إن الأدب الشعبي هو ذلك الأدب الذي يصدر عن الشعب ليعبر عن وجدانه ، ثم إن هذا الأدب لم يقتصر على الشعر وحده بل قد يتعدى إلى الأناشيد والحكايات والأمثال وغيرها ، هو في كل تلك الأجناس لابد أن يؤدي وظيفة اجتماعية تتمثل في خلق قوالب انفعالية وسلوكية تساعد المجتمع على الحفاظ بتماسكه .
ويرى الاسدي أيضا أن الأدب الشعبي لابد أن يتصف بالجماعية ، إذ أن فعل المشاركة في هذا الأدب ضروري لديمومته ، مما ينبع له الانتشار والمقبولية والحفظ ، ثم إن الأدب الشعبي لا يمكن أن يؤدي دوره بنجاح ما لم يتوفر فيه عنصر المشاركة الاجناسية ، فالنص الشعبي الناجح هو ذلك النص الذي تمتزج فيه الحكاية الشعبية مع الحكمة الموروثة مع السلوكيات المحببة لدى عامة الناس والأدب الشعبي ــ كما يرى الشاعر الاسدي ــ حاله حال أي جنس أدبي يخضع للتصنيف ، لذلك يمكن العثور على أنواع شعرية وأخرى نثرية لهذا الأدب ، فمن النوع الأول يمكن أن نجد أغاني العمل وأغاني البيت والأطفال ، والمناسبات الشعبية ، ومن النوع الثاني يمكن أن نجد القصص والحكايات والمسليات التي تحكي في البيوت ومجالس السمر بما فيها السير الشعبية والندوات والألغاز .
ومهما يكن من آمر فان الأدب الشعبي ــ كما يرى الاسدي ــ يتميز بالشفاهية والتي تتمثل في المزايا الأسلوبية الخاصة كالتكرار وتحوير الكلمات والبساطة في التعبير ووضوح الصورة بقول الاسدي ((إن الشفاهية هي مقوم الأدب الشعبي الوحيد أو على الأقل هو المقوم الأساسي)) ويرى الكاتب إن الأدب الشعبي ــ لاسيما الابوذية تخضع لجغرافية معينة في العراق فلا احد يستطيع إنكار أن هذا النوع من الشعر الشعبي يزدهر ازدهارا واضحا في أرياف الناصرية والديوانية ، أما الزهيري فيمكن أن نجد بيتئه المناسبة في المحافظات الغربية من العراق ، أما الشعر الشعبي الديني فان بيئة الصالحة تتمثل في المدن المقدسة كربلاء والنجف والكاظمية . وفي موضع آخر نجد الكاتب يؤكد على أهمية الصورة الشعرية في الشعر الشعبي بوصفها فعلا جماليا لكنه لا تؤيد اكتظاظ القصيدة الشعبية بالصور الكثيرة لكي تشوه القصيدة وتفقد انسيابيتها .وعند الحديث عن حال القصيدة الدينية (النثرية )يرى الكاتب إن ((اغلب القصائد التي يكتبها الشعراء الآن وخصوصا القصيدة النثرية هي قصائد تابعة لقصائد أخرى قديمة كتبت باللغة السبعينية …..).
ومن جهة أخرى وحسب ما يرى الكاتب أن الأدب الشعبي قد يصاب أحيانا _كما هو الحال الآن في الشعر الشعبي العراقي _بعدد من السلبيات منها المجاملات والمحاباة التي كثيرا ما نسمعها في المنتديات الشعرية .
وتطرق الكاتب إلى موضوعات مهمة أخرى أضاءت كثيرة من جوانب حركة الأدب الشعبي في العراق وفي كربلاء خصوصا ,فقد تطرق إلى نتاجات أدباء معنيين كالهنداوي الذي برز في كتابه المرشح وزير السومري ,وشعراء طويريج , وناحية الحسينية بشعراء كربلاء.
فضلا عن استعراضه لعدد من القضايا مثل :الانتفاضة الشعرية , والبرامج الشعرية , ومشاكل اتحاد الشعراء الشعبيين , والأهازيج في ثورة العشرين ,الفوارق بين القصيدة العمودية والقصيدة النثرية ,ومسألة الوحي الشعري والأهزوجة العراقية , وشعر النايل , والميمر والدارمي ,والزهيري والابوذية , والموشح , والدارمي ,والركباني وغيرها .
وأخيرا لابد من القول أن الأديب فراس الاسدي كان على دراية بما كتب لذلك ويمكن أن يلحظ القارئ لكتابه هذا وعيا نقديا واضحا في الموضوعات التي تناولها …