18 ديسمبر، 2024 2:57 م

تماثيل بغداد وما حولها!

تماثيل بغداد وما حولها!

 

مبادرة طيبة من وزارة الثقافة والآثار والسياحة عندما أوعز وزيرها بتشكيل لجنة لدراسة وتقويم النصب والتماثيل في مدينة بغداد، ولكن تلك المبادرة تظل ضيقة إن لم تشارك فيها أمانة بغداد ومحافظة بغداد وجهات تخطيطية أخرى،فضلاً عن عدد من المثقفين والفنانين المبدعين،كما أنها ينبغي أن لا تقتصر على ترميم التماثيل القائمة،فجمالية مدينة عريقة مثل بغداد ومكانتها التاريخية والحضارية والسياسية تقتضي إعادة رسم ملامحها كلها من النواحي العمرانية والسياحية والخدمية،ومن المؤسف القول أن بغداد افتقدت التخطيط العمراني ووقعت أسيرة العشوائية منذ عقود عدة،وعلى من يتولى مسؤوليتها اليوم أن يجمع، في رؤية تطويرية حداثوية، بين الماضي والحاضر والمستقبل في آن معاً،وتلك مهمة فريق من المبدعين وليس الإداريين فقط!
التماثيل والنصب في بغداد تكاد تكون قضية خلافية في السنوات الأخيرة،فعندما يتغير السلطان يتغير معه الزمان والعمران،فمن كان يتخيل أن تسقط وتزول بسرعة فائقة تماثيل الطاغية،الذي كان يتوهم أن صورته ستفرض ظلها على ذاكرة العراقيين لقرون مقبلة،فأصبحت هشيماً تذروه الرياح وتحطمها،خلال ساعات، معاول الغاضبين المقهورين!
التماثيل في العراق،تكون عادة رموزاً سياسية، وقليلاً ما تكون ثقافية وعلمية، ومن ثم تُنصب وتُزال وتتغير حسب عواصف السياسة وتقلباتها، ومن النادر أن ينجو تمثال من التهم أو الهدم،فقد شهدت بغداد أول تمثال للجنرال(مود) الذي قاد الجيوش البريطانية لاحتلال بغداد،خلال الحرب العالمية الأولى وقال قولته الشهيرة:”جئناكم محررين لا فاتحين” ولم يصدقه أحد أبداً،وظل تمثال مود يقف قرب السفارة البريطانية،في محلة الصالحية في الكرخ، وسمي الجسر القريب منه (جسر مود)، الذي تغير إلى جسر الأحرار لاحقاً،ثم نصب تمثال للملك فيصل الأول في المكان نفسه!
في شارع الرشيد شُيّد تمثال للقيادي البعثي عبد الوهاب الغريري الذي قتل في محاولة اغتيال رئيس الوزراء عبد الكريم قاسم عام 1959،وأطلق على الساحة التي شهدت الحادثة المعروفة(ساحة الغريري) لكن بعد سقوط النظام الصدامي،أزيح تمثال الغريري وظهر في مكانه تمثال للزعيم عبد الكريم قاسم،كما حظي الزعيم بتمثال جديد في دار الاذاعة العراقية في الصالحية التي شهدت مقتله،رغم مجهولية قبره حتى الآن!
بعد التغيير السياسي في العراق تغير المشهد الصوري في بغداد، وطرحت قضية الرموز الدينية والسياسية والتاريخية وانعكاساتها على الواقع الحالي،وبرزت أصوات كثيرة تدعو لمراجعة التماثيل والنصب وأسماء الشوارع والساحات في ضوء قراءة جديدة للتاريخ،ولكن ما يُخشى أن تكون تلك المراجعة منحازة،على خلفيات دينية أو قومية، وأن تغيب عنها الروح الوطنية، وذلك لأن بغداد عاصمة دولة اتحادية وهي مدينة ذات تكوين ديموغرافي وثقافي متنوع، ويفترض أن تكون ملامحها معبرة عن شخصيتها الحضارية ومتناسبة مع دورها الريادي المفترض،ولو بعد حين،رغم ما توصف به اليوم!
هل نحن بحاجة الى إعادة تسمية الكثير من الأشياء من حولنا،وتشييد نصب وتماثيل جديدة وفق رؤية حضارية وإنسانية؟!..أعتقد نعم..بشرط ان تكون اﻻسماء الجديدة تجمعنا وﻻ تفرقنا،وأن نبتعد عن رموز الانقسام في السياسة وما حولها!!
في وسط بغداد يمثل نصب الحرية للفنان جواد سليم أيقونة خالدة،وليس بعيداً عنه تشمخ جدارية الشعب للفنان فائق حسن،ثم هناك تماثيل لشعراء بارزين وهم المتنبي وأبو نؤاس ومعروف الرصافي، في حين يغيب عن بغداد شاعر العرب الأكبر محمد مهدي الجواهري ورائد الشعر العربي الحديث عبد الوهاب البياتي وقد توفيا ودفنا في دمشق ولم يكرم شارع في بغداد بحمل اسم أحد منهما!
بغداد تأسست، كما هو معروف في العهد العباسي،ورغم تعاقب الحقب التاريخية وتبدل هوية الحكام السياسيين مراراً،والتغييرات الهائلة في جغرافية المدينة وسكانها،طوال أكثر من ألف عام، لكن النظام السابق كان يحرص على أن تظل بغداد ذات صبغة(عباسية) من خلال ثماثيل وأسماء المنصور والأمين والمأمون والمتوكل والواثق وغيرهم من الحكام الذين ألصقت اسماؤهم على أحياء وشوارع وساحات عديدة!
كانت هناك فرصة أمام بغداد، أن تكون مدينة مزدهرة،خلال السبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي،وقد شهدت حركة عمرانية سريعة،لكنها توقفت ثم تدمرت وتراجعت،في ظل الحروب الكارثية والحصار،في حين سبقتها مدن صحراوية في دول عربية كانت تطمح أن تصل إلى مكانة بغداد ولا تتعداها!
تماثيل السياسيين العراقيين تظهر وتختفي،ومن النادر أن يوجد رأي عام موحد ومستمر حيالها،ولم يسلم من صبغة السياسة وتقلباتها نصب (الجندي المجهول) الذي نقل من الرصافة إلى الكرخ وتغيرت ملامحه تماماً،في ثمانينيات القرن الماضي،إلى جانب إنشاء(نصب الشهيد) الذي يبدو مثل تماثيل شهريار وشهرزاد وكهرمانة والأربعين حرامي، غريباً وسط مدينة تلفها أحزان الحروب والمحن المتعاقبة!
بغداد الثراء الثقافي والفكري، مدينة العلماء والشعراء والفنانين تعاني من غياب الرؤية الجمالية،وعدم وجود مشروع عمراني فني يعكس هويتها،فقد أصبح أقصى طموح وزارة الثقافة ترميم التماثيل العشوائية الحالية وليس رسم خطة لنصب وتماثيل إبداعية جديدة، كما هو حال المواطن البغدادي الذي بات يحلم أن ترفع القمامة وتصلح الحفر في الشوارع،وعندما نتحدث اليوم عن الجمال الفني والتماثيل والنصب واللوحات والأضواء فينبغي أن تتوفر الإرادة الوطنية الحقيقية للإعمار والبناء والإبداع، ويتولى أمر هذه المدينة من يعرف قدرها ومكانتها، بعيداً عن المحاصصة والفساد،فما قيمة التمثال واقفاً ومن حوله الناس ذاهلون!؟