كانت صديقتي تساعدني على الانزواء عن العائلة لأركز في دراستي، أو لتحتضن ما يمكن أن يسمى خصوصيتي لأكتب عليها فيض الخاطر، كما كان يحلو لي تسمية ما أخطه من أفكار أو مشاعر أو اختلاجات الصبي المراهق الذي كنت. تعبير مأخوذ من قراءة كتاب ما قد أخذته من أحد أبناء العائلة الكبيرة التي كانت بيوتها متلاصقة وكنت أصغر الأبناء والأحفاد فيها، قرأت أجزاء منه قبل أن يسترده صاحبه. صورة تلك الطاولة ما زالت حية في ذهني، وإن عجزت الكلمات عن وصفها بالتمام والكمال كما هي الصورة الحاضرة أو التي تستحضر بارزة عند تذكر البيت الصغير، واسمه هذا مقارنة بالبيت الكبير. البيت الصغير، بيتنا كان بقنطرتين، أما البيت الكبير، بيت جدتي، فقد كان بأربع قناطر. لو طوّر علم الأعصاب وعلم الحاسوب منطقة علمية مشتركة بينهما وأمكن ربط ذاكرتي بحاسوب يتصل بطابعة ملونة لأخرجت صورتها بالتمام والكمال دون أي نقص في التفاصيل، صورة دقيقة بذلك اللون بين الأصفر والبني، ليس برتقالياً، لون مزيج من اللونين لا أدري إن كان له اسماً، ربما كان هو اللون الذي يدعى كهرمان. لون مشترك لسطحها ولقوائمها الأربع، وستظهر في الصورة تلك الفرزة التي جعلت محيط سطحها منحنياً حتى لا يجرح من يستخدمها والذي طلي باللون الرمادي الغامق. أما اللوح الخشبي الأمامي الذي يربط القائمتين الأماميتين فكان يتوسطه جارور بعرض المسطرة المدرسية أو يزيد قليلاً، يتحرك على سكة خشبية تفحصتها مراراً وبإمكاني أن أرسمها الآن، وللجارور مقبض من الزجاج الشفاف على شكل زهرة، محفور في وسطه مدخل لبرغي طويل يثبت المقبض الزجاجي بخشب الجارور، وعندما يرتخي المقبض ويتحرك كنت أشد البرغي من خلال القطعة المسننة الصغيرة المربعة التي بداخل الجارور وكأنني نجار ماهر.
عاد الوالد يوماً إلى البيت ومعه كرسي من ذلك النوع الذي كان منتشراً في بيوت بعض الأسر الميسورة، وفي بعض المطاعم والمقاهي في المدينة. وضع الكرسي في وسط البيت وقال إنه اشتراه من بائع جاء إلى “الحارة” بعد صلاة الجمعة، وأضاف أنه اشتراه خصيصاً لكي أجلس عليه خلف الطاولة لأراجع دروسي وأعمل واجباتي المدرسية. كان الكرسي مصدر فرح كبير بالنسبة لي، فقد شكل مع الطاولة ذلك الثنائي الذي يحتضنني جسداً وتفكيراً، فقبله كانت الطاولة مجرد سطح خشبي توضع عليه بعض الأغراض، مثل الشمعدان الزجاجي ذي اللون الأبيض الحليبي بزجاجته الشفافة النظيفة عندما لا يكون قيد الاستعمال، وينوب عنه قنديل الكاز نمرة 2 ذو العلاّقة التي تمكّن من تعليقه على الحائط بواسطة مسمار، وإلى جانبه إبريق ماء زجاجي ذو رقبة طويلة حوله كاسات زجاجية شفافة يعلوه غطاء مشغول بالصنارة من الخيوط وبأطرافه زوائد صغيرة بخرز صغير ملون، ولا يتم استعمال الإبريق والكاسات إلاّ عند حضور ضيوف خاصين، لأن إبريق الفخار والشربة الفخارية يفيان بالغرض، حيث يوضع المستخدَم منهما عادة على “مصطبة” الشباك الشرقي لترشح مياهه من مصرف صغير، فتصبح المياه باردة منعشة، وقد توضع في فم الإبريق أو الشربة ضمة من أغصان البطم أو السريس اليانعة لتجعل رائحة المياه زكية. وإلى جانب كل هذه الأشياء المحترمة أضع أحياناً كتبي ودفاتري قيد الاستخدام، ومن الواجب إزاحتها في أسرع وقت ممكن بعد استعمالها للحفاظ على ترتيب أنيق لسطح الطاولة المحترمة.
بوجود الكرسي صارت الطاولة، دون إزاحة ما عليها، مكتباً لي، للابن البكر الذي يتلو عليه الوالد صبح مساء أن يذاكر ويذاكر ويذاكر، وأن يجتهد ويجتهد ويجتهد ليرى فيه ما لم يستطع تحقيقه ونواله لنفسه من التعليم. كان يتلوها وصايا للإبن ممزوجة بحسراته لأن الجد لم يكن يملك القسط اللازم لينتقل إلى مدرسة المدينة بعد إنهاء آخر صف في مدرسة القرية بتفوق. ويحدث كثيراً أن يضيف على تلك الوصايا جزءاً من القصة أو أن يكمل القصة كلها، مؤكداً أنه كان سيصبح معلماً وليس عامل مياومة مقارناً نفسه بالمعلم الفلاني الذي كان في صفه والذي كان يطلب مساعدته دوماً. رغم أهمية الكرسي ودوره في هذا التغيير الذي طرأ على دور ومكانة الطاولة، إلاّ أنني لا أستطيع استحضار صورته بالتمام والكمال كصورة الطاولة، ولو أن هناك طريقة للاعتذار للكراسي بعد رحيلها لقدمت اعتذاري الشديد له، وبكل الوسائل التي تقبلها أرواح الكراسي، على عدم وفائي وإخلاصي لذكراه ولروحه الطاهرة. يجب ألاّ يفهم من هذا أنني نسيته تماماً، لا، وإنما اعتذاري أن الصورة التي يمكن إظهارها عند ربط ذاكرتي بالحاسوب المنتظر ومن خلاله تمريرها للطابعة لن تكون كاملة بكمال صورة الطاولة. لا، إنه ليس منسياً تماماً، لا سمح الله، ولكن الطاولة لها تلك المكانة الخاصة.
كنت وحيداً في البيت، الوالدة في الغرفة الطينية الصغيرة التي ندعوها “الخشة”، والتي أضيفت للبيت لتصبح المطبخ والحمام بعد أن كان البيت مكان النوم والطبخ والاستحمام، وكان الأخوة الآخرون يلعبون خارج البيت. على ذلك الكرسي وخلف تلك الطاولة يسقط ضوء الغروب متسللاً من الكوة الغربية الصغيرة ليضيء البيت ويضيء سطح الطاولة بلون الغروب، ضوء كافٍ وجو مواتٍ لكتابة موضوع أدبي، كلمات عن الحب والوطن تقترب من الشعر تختلج في صدري المراهق. أحسست بوالدي يقترب مني ويقف خلفي ومن فوق كتفي ينظر إلى صفحة الدفتر المفتوحة، غطّيت الصفحة بيدي لاإرادياً وأدرت وجهي ملتفتاً إليه، وجدت على وجهه تلك الابتسامة التي لا يمكن وصفها بأفضل من القول بأنها ابتسامة أبوية لا تشوبها شائبة، أي ابتسامة مليئة بالحنان ولا تقف عند الفم بل يمكنك قراءتها في العينين الصافيتين، عينين وصفتا على بطاقة الهوية الأردنية التي حصل عليها في السنة الأخيرة قبل الاحتلال باللون العسلي وتصفحتها حينه بإعجاب. اتسعت ابتسامته وسأل “ماذا تكتب؟”، أجبت بطلاقة وجرأة مستمدة من بسمته وفرح عينيه “أكتب أدب”، ضحك وقال “مثل الروايات التي تقرؤها؟”، أجبت “نعم”. عبّر عن خوفه أن يؤثر ذلك على دراستي وعلاماتي، فطمأنته أنني أنتبه لذلك وألاّ يقلق. وبقيت أثناء ذلك مغطياً صفحة الدفتر، فهم الأمر وابتعد قليلاً.
استأنف الحديث عن التعليم وأهميته، وسألني ماذا سأدرس مستقبلاً، بعد أن أكّد كالعادة أنه لن يبخل بكل ما يملك كي يجعلني أكمل تعليمي حتى آخر درجة، وسألني ماذا أرغب أن أدرس في الجامعة، أجبت بأنني لا أعرف تماماً، وأنني أفضل أن أدرس لأكون مهندساً. ابتسم وقال “إن شاء الله”. مشى نحو الباب، ثم عاد وسأل “ما الذي يدرسه الواحد ليصبح قاضياً؟”، أجبت بأنني لا أعرف تحديداً، ولكنني في كل الأحوال أحب العلوم والرياضيات، وهذه ليست الدراسة التي تجعل الشخص قاضياً. كان سؤاله صدى لخسارته تعب سنوات في أرض أخذها مزارعة باتفاق ثقة شفوي، أي أن يعمرها ويزرعها وبعد سنوات يمتلك ثلثها، أرض جبلية حفر الأرض بين صخورها وبنى السلاسل وعمل القطاين وزرع اللوز والتين والزيتون والعنب، ولكن أصحابها انقلبوا عليه وأنكروا أي اتفاق، فرفع قضية وخسرها لعدم وجود اتفاق مكتوب.
عدت إلى سطح الطاولة وكتبت آخر كلمة في الموضوع الذي كنت قد بدأته. تأملت صديقتي الطاولة، قلت لها: لا أستطيع أن أكون قاضياً ليفرح، ولكن سأكتب على سطحك حكايته مع الأرض، مع التعب الذي ضاع، سأكتب عن إحباطه من الذين طلب شهادتهم ليثبت صحة قوله عن الاتفاق الذي أنكروه. كان يأمل أن تسعفه عمامة الشيخ الذي استنجد به وطلب شهادته، لكن الشيخ قال بأنه لا يعرف بالاتفاق. قلت للطاولة سأكتب فهل سيرضيه ذلك ويعوضه؟ وأسندت ظهري للكرسي ودققت في سطح الطاولة، قرأت فوقها سطوراً من الحكاية، فرحت وامتلأت نفسي بالرضا. أدرت وجهي باتجاه الباب، كان واقفاً في الباب مسنداً ظهره إلى الحائط ويتأملني وتعلو وجهه تلك الابتسامة ذاتها، ثم انسحب باتجاه البئر الذي يتوسط الساحة التي تلتف حولها بيوت العائلة الكبيرة.