17 نوفمبر، 2024 9:42 م
Search
Close this search box.

تلك السفوح البنفسجية

تلك السفوح البنفسجية

هاقد توهج الأفق في الشرق البعيد باللون الأحمر الوردي وانداح فوق قمم الجبال التي يكسوا بعض قممها الجليد الأبيض الناصع في مشهد يتجاوز الجمال الصوري فبدت كثيفة , وداكنة وسط ضباب خفيف أخفى سمات كثيرة لها فبدت كالغيوم وهي تغادر مكمنها . أما نحن فمازلنا في سيارة الأجرة نرقب هذا المشهد المتوقد بالرومانسية , متجهين نحو الجبهة في مرتفعات الصدور لمنطقة زرباطية . بعد دقائق أنقشع ذلك الضباب الخفيف الذي لاح في الأفق تدريجيا بعد أن أطل قرص الشمس ليكشف عن قمم أخرى قريبة, وملونة كأسراب ديكه نائمة تحت جدائله الذهبية.

في السنة الثانية من الحرب, كنت مع عزيز وأورد في السيارة وقد جمعتنا مدينة واحدة ووحدة عسكرية أمامية واحدة. التقينا بأورد في دائرة التجنيد, وهو شاب يافع ذو مزايا تثير الانتباه في التعبير عن آرائه التي تكشف عن نظام داخلي لبنية هذه الافكار واختلاق مواضيعها, ربما بسبب كونه طالبا في كلية الفلسفة لكنه لم يكمل المرحلة الثالثة بسبب ظروفه الأجتماعية الصعبة من ناحية وربما كان مكلفآ بالترويج للأفكار الماركسية كما ظننا به أول الأمر من ناحية أخرى , لكننا أدركنا فيما بعد أنه قارئ للعديد من الأعمال الأدبية مماجعلته كثير الاقتباس منها مسببة ميزته هذه. أما في الجانب النفسي , فقد وضع فكرة الوصول إلى جبل الخلود من أولويات اهتمامه كأنه وعدٌ تشكّل عنده قبل أن نلتقي به . ففي يوم قال :

” شعرت بالسأم يومآ رغم ان الصيف لم ينتظر شتائه كثيرآ , ففي فترة وجيزة اخذت المدينة تشعر بالبرد وبدا تناول الشاي والقهوة امرآ عاديآ . وفي الليل وانا أخلد للنوم تسلل الدفء الى جسمي ونمت وسط ظلام الغرفة ويداي محشورتان في كيسين صغيرين , حينذاك قلت في نفسي : ليس من الصواب ان يحدث هذا كله , ولابد انني سأجد ان هذا ليس الا حلما طويل . ولفرط فزعي صرخت .. أمي .. أمي . لكن صوتي لم يدرك آذان أحد . جلست وتنهدت لأاجد نفسي فوق قمة جبل واقفآ يتفحصني قرص الشمس بأشعتة الصفراء وفوقه سماء زرقاء صافية . مضيت فوق القمة بخطى بطيئة أحدق الى صخوره الكبيرة التي بدت اكثر من مثيرة في تراكيبها وشكلها الصخري , ثم نظرت حولي وانا في صمت مطبق انزلق على سفحه الملئ بالازهار واشجار السرو الصغيرة وثمة بقع متناثرة من الثلج تغمر سطحه هنا وهناك وانا اتسائل فيما اذا استطيع التقاط احجارا للذكرى . كان ذلك شعورآ ينتابني كما لو انني في الواقع بحق ” . توقف أورد عن الحديث ثم اعقب يقول : ” لم أنظر الى أي شئ آخر غير الاحجار الصغيرة وانا التقطها وأضعها في جيوبي بفرح غامر . وبينما انا أحافظ على صمتي المطبق وجدت نفسي اتوق الى الشاي والقهوة بعد ان تسلل البرد الى جسمي , لكنني تعثرت فتدحرجت الى اسفل الوادي وانا اصرخ صراخآ شديدآ لفرط الالم الذي المّ باقدامي , لكنني جدت نفسي وقد انقلبت من فراشي على الارض وأمي تقف امامي تصرخ :

– ابني .. ابني .. اسم الله !

رويت الحلم لها لكنها لم تجد تأويلآ له َ .

ومرة قلت له :

– هل تعلم يا أورد انك تقف على قدم واحدة ولا تضع لجاما لعقلك وتبدو كمن يزرع الورد بين كتل من الصخور ؟ ولم هذا كله ؟!

أنصت لكلماتي ثم أجاب ساخرا :

– لا تتوهم أنني أصغي لكلماتك, بل أعجب لمحتويات عقلك. ثم أضاف: ” قل لي كيف أمضيت عمرك لتصبح بهذا الطول والعرض ؟

– كنت أصغي لهرائك على ارض الواقع الذي يحمل جبلك !. أجبته بتهكم .

– ابق في الواقع فأنت من طين وستعود إلى الطين, أما أنا فسأعود إلى حجر كريم وهذا ما أحسبه ! رد عليّ ثم أضاف: والآن دعني ابحث عن متعتي.

– أذهب وأبحث عن ملكوتك وسترانا هاهنا قاعدون نهتف لمجدك ونعظّم ! قلت له باستخفاف .

وصلنا إلى مدينة بدرة الفسيحة والساعة تشير إلى الثامنة والنصف من صباح يوم الجمعة ونحن نسمع نعيق غراب وطقطقة لقلق مكتومة وهما يحلقان تحت الشمس حول المنطقة المنبسطة نحو السفوح , تدفعهما رياح خفيفة ببطء نحو سلاسل الجبال البعيدة إلى الشمال من المدينة . هكذا كانت حياتنا لسنوات عده في ذلك القاطع من الجبهة.

كان جسمي يرتجف وأنا أنظر إلى هذين الطائرين وهما يبتعدان في سماء بعيدة ليصبحا بحجم حبتين سود. نزل أورد ببنيته الرشيقة وطوله المعتدل وظل واقفا يتأمل مشهد الجبال البعيدة وقد غمرت عينية خيوطا من الشمس الذهبية ليقول:

– أتعلمون أنني مثلما أرى الله , أرى هناك جبلا بسفوح بنفسجية يدفعني إليه ليلتهمني بضبابه وجليده ونباتاته ليصبح بيتي الأزلي , تحيط به شياه كشياه موسى وعيسى , فتثغوا تارة ويتلاشى ثغائها تارة أخرى بين الوديان , بينما أنا في فردوس اخضر أصغي باهتمام إلى أنفاس زهور النرجس واصطدام حافات الغيوم . توقف أورد عن الكلام ثم أستدار نحونا قائلآ :

– وفي صباح كهذا سأنزل أسفل الوادي ابحث عن أحجار لسليمان الحكيم بين أشجار الجوز والعنب بقلب جامح لايبالي بقهقهات المدافع .

قفزت من السيارة بعده بحركة بطيئة من دون أن انبس بكلمة منتظرا نهاية خطابه فقلت:

– يا لجبلك الذي لا نجد إليه سبيلا وشياهك المشفقات عليك بالأسر , فأي اكتشاف !! ثم أعقبت ساخرا: لكن ما نوع الجنس الذي ستنطوي تحته ؟ ومن سيكون صنوا لك لتقيم مملكتك هناك ؟! وهل تضع الحمل فوق كتفك !!

– لا أحد منكم سيكون معي لأنه ليس من حق أحد !

خرج عزيز من السيارة غاضبا ليقول :

– الويل لنا أنت معنا.. هل تريد أن نقف لننصت إليك وأنت تتلوا علينا بيانك الصباحي ونبوءتك كأنك تثير انتباه الجبال إليك أيها المتمرد, أم لتنفس عن غضب الحياة علينا في وقتها الضائع هذا أم ماذا ؟! ثم أضاف : الايعجبك شيء غير محاورة ذاتك والخروج عما يتبعه الناس ؟!

صمت الجميع ومشينا نحو مركبات عسكرية صغيرة ذات طراز واحد وقد خرجت من الخدمة منذ زمن بعيد لتعمل بالأجرة الآن في المدن الحدودية .

بدأنا تبادل الأحاديث داخل سيارة الواز لتمضية الوقت رغم أنها كانت تضيّق علينا الهواء وتزعجنا بضجيج محركها الذي بدا لي انه ينطق عن قهر وإكراه وهي في الطريق إلى الوحدة , وبين لحظة وأخرى نفتح أبوابها الخلفية لاستنشاق قليلا من الهواء البارد والنظر إلى نهر الكلال الممتلئ بالمياه الفضية المتجهة بهدوء نحو جزيرة السّيحة بفضائها الأزرق أثناء عبور السيارة فوق جسر بدرة الوحيد والطويل . استمرت أحاديثنا حتى عبرنا الجسر لنستكمل الطريق المتعرج بين البيوت الطينية الفسيحة والمهجورة مرة وبين بساتين النخيل الشاهقة وهي تهتز برؤوسها برقة النسمات العابرة مرة أخرى .

– ترى ماهذا الزخم الذي تتمتع به يا أورد , ومتى تكف عن التلذذ بهياج قلبك ليفرّ من بين أضلاعك نحو تلك الجبال ليموت في ظلامها ؟ قلت ذلك وأنا اكسر الصمت والتحديق إلى ذلك الأفق الذي بدا يخفي حماقات الحرب . التفت أورد ليخاطبني بماأعتاد عليه في كل مرة بانفعالية واندفاع لاهث :

– انتم تقودكم مجموعة من القواعد والمبررات تتسم بروح الجبهة ومزاياها القتالية, ولكن من منكم يقول لي متى نقيم للحياة أهدافا متساوية مثلما نقيم للحرب أشعارا بسطور متساوية ؟! وأضاف :

– ومتى نبني هيكلية جديدة للحياة من دون تدخل أي قوة مسلّطة ؟

هتف عزيز من مكانه مقهقها باستهزاء قائلا :

– تمهل قليلا .. أترانا نمضي إلى الهيجاء مدججين بالسلاح ؟! ألا ترى أنك تميل في الرأي إلى جانب لا نميل نحن إليه ؟ ثم تسائل عزيز قائلآ :

– لِمَ تنسى دائما أن للحرب مداد آ أحمر وجنود شبان يربضون في حمأة الخنادق الشقية القصية حيث لا حمائم في الأيك تشجو لعزلتهم ولا عصافير تطرب فوق رؤوسهم أو تمتع إلا من قبّرات وقد أبكمت حناجرها القذائف .. وينبغي لك أن تنتظر لتحصي نتائجها لكي تقيم فوق شقوق الحياة الجديدة هيكلك المزعوم ! ثم أضاف وهو يقهقه :

– ألا ينقصك شيء غير هذا ؟ .. كأن تضع بيدك مصباحا عند نزولك أسفل الوادي حتى نراك أثناء العشاء فنشعر بحياتك الأخرى وسعادتك لتكتمل حكايتك الخرافية ؟!

ضحكنا جميعا ثم أعلن السائق عن وصولنا إلى الطريق المؤدي إلى الوحدة وهناك أكملنا السير على الأقدام.

وصلنا إلى مقر الوحدة لنرى أصدقائنا عباس وطالب وضياء والبهجة في وجوههم, بينما لاح لنا الملازم جهاد فوق رابية وهو يخرج ضبابا خفيف من منخريه وسط نفخات من الريح الباردة متيحا لنا الفرصة لتحيته. تقدم عزيز ونحن وراءه لنسلم على أصدقائنا واحدا بعد الآخر وبغتة قهقه طالب وهو يمزح كعادته قائلا:

– ما الذي أعادكم إلى هنا أيها الأغبياء. ثم أضاف يقول :

– جئتم كالبومات إلى هلاككم وقد أعماكم ضوء الحرية هناك مثل ثعابين تزحف لمقتلها في وضح النهار !

اختنقنا من الضحك ونحن ننظر إليه بحركاته المسرحية التي يتقنها بنبرة صوته الميلودرامي الذي يذكر بصوت يوسف وهبي , فرد عزيز ضاحكا وهو يسخر بلا اكتراث :

– جئنا نزور قبور أحيائنا أيها الملاكم الملقى في أتون الحرب بانتظار موافقة ألعاب الجيش !

أنقضت لحظات ثم تقدم أورد أمامنا ليلقي بنظراته الغريبة على الجبال ويتمتم بكلمات تتأجج كلما استدار من جبل إلى آخر ثم ردد بصوت عال : أقرضني يارب نعمة الوصول إلى واد منعزل محاط بنخيل الاشرسي قبل أن أسيء في هذه الحرب . ثم امتقع وجهه وهو يقول: أترى ..إنهم يهدمون ملكوتك على مرأى من أمنائك من اجل نزوات جديرة بالنار . ثم اطرق بنظره إلى الأرض وقال :

– والآن ما الذي يمكن أن نفعله بعد التحاقنا من الإجازة ؟ّ!

ابتعدت قليلا عنه لاستنشاق هواء المرتفعات وأنا أحدق إلى ملازم جهاد بقامته المنتصبة وهو ينظر إلينا كأنه يحثنا على الصعود إليه. فأومأت لأورد أن يلحق بنا وأنا أجيب على تسائله :

– أن نجتمع على البرّ , فما نزرعه سنحصده , أم انك ستبحث عمن يشاركك تلك السفوح البنفسجية !

اقترب منّا الكثير من الأصدقاء لتحيتنا فأحسسنا ببسالتهم وهم يضحكون ويسخرون ونحن نصافحهم الواحد بعد الآخر. ثم اقتربنا من جهاد وقد ملأت وجهه الشمس كأنما تغسله في ساعات الصباح الأولى بينما راحت نسائم الرياح الباردة تتسابق قبلنا لتعبث بملابسه ألعسكريه ووجوهنا مصوبة نحوه فعانقناه وهو يبتسم قائلا :

– إجازة سعيدة.. إجازة سعيدة, ثم التفت إلى أورد قائلا:

– لا تعجب هذه المرة لما أقول !

تسلقت الصفرة وجه أورد في بادئ الأمر وقال:

– أذهب بفألك ياسيدي وقل ما تشاء .

– فأصغ إذن .. ولكن قبل ذلك قل لي ماذا في رحلك هذه المرة ؟

تنبهنا لهذا الأمر, فوقفنا حول أورد وهو يفتح حقيبته ببطء وعينيه العسليتين تنقب بين ملابسه الداخلية وفجأة اخرج كتابين احدهما “ذهب مع الريح ” والآخر ” عناقيد الغضب ” ليناولهما إلى جهاد الذي ما أن رأى الكتاب الأول حتى هتف :

– لقد قرأت هذا الكتاب منذ زمن بعيد, وكنت أقضم أنامل يدي عند قراءته.. فأحتفظ به ولكن لا تكبح احد عن قراءته , أما كتاب شتاينبك هذا فسوف أقرأه على مهل . ثم عاد ليخاطبنا من دون ذلك الود الذي عهدناه :

– كما تعرفون , فأنا مدرس لمادة التأريخ الثانوي .. والتأريخ, أضاف جهاد , يقتضي دراسة التجارب السابقة لتفسير الحقائق المتجددة.. فإن نحن بكينا الآن بسبب الحرب فهذا يعني إننا سنبكي حياتنا كلها ! ثم خاطبنا بعتب :

– ولكن ياأهل النزوات المجنونة , أتمنى لو أن عقولكم لم تعد منعزلة ومترهلة , أو إنكم أعرضتم عن هذا ؟! ثم توجه نحو أورد يخاطبه بلهجة حاسمة وبتعبير وجه خال من المرح:

– أما أنت يا أورد فأسمع مني.. ما نريده من هذا كله هو انتهاء هذه الحرب بدلا من تساقط الجثث كما تتساقط أسنان رجل عجوز تمسك به السكري, ولكن أن تغتسل بمياه الوادي والمكوث خالدا فيه تزفك قهقهات المدافع فهذا من محض خيالك. وأضاف :

– احزم أمتعتك وتوكل , فأنت منقول إلى الحجابات .

غرقنا في الصمت ولم نفهم شيئا منه هذه المرة, بل ارتعدنا خوفا واضمحلت قهقهاتنا وللحظة خيل إلينا أننا أصبحنا مثل فاكهة ذاوية وحان رميها في القمامة.

أطرق أورد رأسه – أحسست انه سيقرر شيئا ما ردا على كلمات جهاد – ثم قال معاتبا:

– في الحرب ونزواتها , ياسيدي , الجميع في وهم طالما تغير صبغة شعرها كل يوم وما علينا سوى التحمّل , وها نحن كما ترى , ياسيدي , لم نأت إلى هنا لاكتشاف الثلج فوق مرتفعات الصدور أو التخييم في مخفر الدراجي أو رؤية امتلاء حوض الكلال بالماء لاصطياد سمك الشبوط بالبمبات , ولم نعتقد أن الحرب سينفد مدادها في غضون أسبوع أو أنها تحمي أحدا , فهي حتى وإن كانت شجرة للخرنوب فأنها لم تحم النبي زكريا من قبل . أما أنا فقد وجدت نفسي تفلت مثلما يفلت نيزك من كوكب آمن في أعماق الفضاء نحو مصيره المجهول. توقف أورد وهو يتطلع إلى عيني جهاد ثم أضاف:

– فأنا , ياسيدي , لست بشاة في مركبة ضالة .

عضّ عزيز على شفتيه وهو يرمق أورد بنظراته الغامضة وكأنه يلمح إلى أن حديثه سيأخذ منحى آخر أكثر سخونة. تنهد جهاد ولم تبد عليه الغبطة من إجابة أورد أو تتسع عيناه غضبا كما نعرفه, لكنه أشاح بوجهه نحونا وهو يقول :

– تفرقوا الآن وانطلقوا نحو أعمالكم وأعلموا إننا لانمتلك أجنحة فنطير من قمم الجبال نحو الوديان أو نفلت مثل الخفافيش ليلا من ثقب جدار أو نفق طويل , بل نحن أدوات حرب ساقنا القدر إلى هنا لنعمل بعيدا عن الوهم أو الخيال !

ذهب جهاد بينما عمّت أجسادنا أحاسيس غريبة لهذا الخطاب ونحن نحدّق حينا إلى أورد وحينا إلى أنفسنا وكأن جهاد وضعنا في متاهة غير متاهة الحرب وخيل إلينا , في تلك الوهلة , إن النهر قد غيّر مجراه وان شيئا ما سيحدث وان المرء لا يمكن أن يعرف الحقيقة من دون أن يحرر إرادة الآخر من قيود رق أيديولوجي .

هزّ أورد رأسه بيأس ثم التفت إلينا قائلا:

– أترون .. يبدو إن هذا الانسجام الفريد بين الشمس والجبال الذي يصف نفسه في هذا الصباح بأصدق من أن يصفه احد من ناحية والذي يشبه إلى حد بعيد كمن يزاوج بين رجل وامرأة من ناحية أخرى هو شئ مريب , فانتظروا بعد أيام فرقعات الجبهة المنطلقة من ثغور الغضب والحزن المقوضة لهذا الجمال الذي يشعر المرء بالسلام .

أحسب ان معنويات أورد قد تشوهت وأثقل قلبه بالألم وهو يغادر جمعنا إلى موضعه على الرغم من أن المشهد الصباحي للطبيعة الجبلية كان غاية في البهاء تحت ضوء الشمس الشفاف حيث تمتزج الأرض بالمرتفعات المتموجة بشكل متوازن فيود المرء لو يبقى مدى الدهر . لكنني ومنذ تلك الوقفة مع جهاد وسماع خطابه أحسست بدمي يحترق وان الحب والمآثر البطولية لابد أن تنازعها الكراهية والخيانة وإن كانت على سنام ناقة الحرب .

قضينا تلك الليلة والقمر يلقي بضوئه الخافت فوق المواضع المبعثرة دون أن نتفوه بأية كلمة رغم أننا في العودة إلى الوحدة كنا نروي الأحاديث عن أورد ونحن نضحك كلما استغرق في قراءة رسائله الغريبة التي يخاطب فيها زوجته . ومرة كتب : ” زوجتي العزيزة .. نحن في كانون الأول والأرض هنا كالبساط الأخضر تزينه زهور شقائق النعمان وبعض النخيل وأنواع كثيرة من الأيكات الشائكة وأنا مع اثنين من أصدقائي احدهم عزيز الذي خصص معظم وقته يستعرض مشروعه بعد التسريح بإعادة إنتاج ماكتبه من رسائل إلى أمه ليلامس أفق أود نيس , فتأثره بنصوصه الشعرية التي يراها تتجاوز السياقات الشعرية الموروثة وخاصة لأناشيد الحرب وشغفه بها هي التي وضعته في هذا الطريق ” ثم يلتفت نحونا ليعلق :

– أما زوجتي , ياجماعة , فقد حاورتني أثناء الأجازة قائلة :

– ومن هو أود نيس هذا ؟ وما هذا الذي تقوله ياأورد .. وهل انتم في مدرسة أم حرب ؟! كنا نضحك لهذا المسرح الخيالي الجاهز الذي يقدمه وقد طغت عليه مقصديتة التي تشتعل بذاته بعيدا عن تعقيدات التفكير بالحرب .

في الصباح مع انطلاق أصوات القذائف البعيدة التي تترامى إلى آذاننا والمصحوبة بعربدة الرصاص المنطلق من البنادق المتوسطة , لملم أورد فراشه العسكري ليغادر إلى الحجابات كمسافر يتحتم عليه مغادرة محطة إلى أخرى ليحيل الماضي إلى محض ذكريات .

أما أنا وعزيز فلم نعد ننظر إلى جهاد كما كنّا في السابق لأنه عكس شيئا آخر أثّر في نفوسنا فجأة ولم نعد نفتتن به بعد إن كان واحدا منا , إذ كنا كالكتاب المفتوح بين يديه لكنه أخفى الحقيقة وراء ضرورة نقل أورد إلى الحجابات . وهكذا تغير موقفنا لتصبح علاقتنا به علاقة ضابط وجنود فحسب.

قبل أن يغادر أورد موضعنا قال:

– أين سأذهب وماذا سأفعل ؟

أجابه عزيز مذكرا إياه:

– جلّ ماتفعله هو نسيان الماضي والتفكير بحلمك لكي يصبح حقيقة !

– لكنني لا أريد نسيان الماضي , وهل تريدني أنسى حب أمي وأبي ومرابع صباي وخرابها بالقصف المدفعي ؟ رد عليه أورد , ثم ذهب وأوصد باب الموضع خلفه تاركا كتابه ” ذهب مع الريح ” فوق سريره ونصيبه من القراءة , مع أن نفسه بدت وكأنها تتوق للبقاء معنا . تركني مع عزيز بعد أن تقاطعت آرائه معه فسألت نفسي وأنا لا أجد سبيلا للخروج من محنة فراقه:

– اجل أيمكن للمرء أن ينسى جراح الماضي مالم يتذكرها بمرارة ليجعل منها دروسا لحاضره ؟!

ساد الصمت في الموضع إلا من ضجيج تلك القذائف والإطلاقات البعيدة التي تقطعه بين الحين والآخر .

بقيت مع عزيز وطالب نشكل ثلة من الجنود الجنوبيين مصوبين وجوهنا نحو محتويات مواضعنا الدفاعية الصامتة فحسب, التي ظلت تساهم بتقديم الخدمات لنا رغم تقادمها وهجمات التراب الذي يجتاحها ليل نهار.

انقضت ثلاثة أعوام على الحرب عندما شرع أورد في تأملاته الجديدة التي فرضتها عليه بيئة الحجابات ذات الشبه الكبير ببيئة المتسول من حيث الحرمان ونقص الخدمات , فالمطر والبرد وهيمنة الجرذان والبق وانبعاث العفن من أكياس الرمل والروائح المنبعثة من حفر المراحيض البدائية كانت تشكل الصورة الخلفية لشخصية الحرب إضافة إلى

موقعها الذي يشكل فريسة تنهش بها مخالب القذائف بين الحين والآخر رغم أنها مفتاح التغيير لمجريات الحرب. ومرة كتب أورد إلى الملازم جهاد يقول:

– هناك فرق , ياسيدي , بين مايراه المرء وبين ماتراه روحه , فالعقل وإن يجهر بمعضلة الجسد إلا انه يخطأ أحيانا , بينما الروح لاتجهر بمعضلتها , إذ لا سلطة للعقل عليها لأنه لايراها شيئا ملموسا . ثم أضاف :

– أتذكر أنك قلت : ” يا سيد أورد لقد قرأت هذا الكتاب منذ زمن بعيد , وكنت أقضم أنامل يدي أثناء قراءته .. ” فما الذي قرر قضم أناملك ؟ هل هو عقلك, أم كنت في وهم أو خيال ؟ إذن لا أنا ولا أنت وحدنا .. ” .

في اليوم التالي جاء جهاد ليقول لعزيز :

– قل لأورد ان ينصرف الى واجبه بدلآ من كتابة الرسائل التي ستجبرني على ارتداء ملابسا غير ملابسي وامد رقبتي ويداي لأضعه في محرابه الحقيقي المزيّن بالنقوش الليلينية التي جاء بها من الكهوف القديمة لكي يعيد انتاجها هنا ! وليتذكرانني اسهمت في قبوله ضمن مراتب الأدارة ليكون أكثر حرية من غيره بسبب قدرته الأدبيه , لكنه لايعلم الاسباب التي جعلتني أرشحه للحجابات وهي أنه بدأ يغير خطوط كتاباته ويخضعها الى شكل آخر لا تتناسب إلا لمغامرة في نفسه ! ثم أستدرك يقول : أستحلفه ياعزيز إن كنت مخطئآ!

بدا لي الأمر مضحكآ ان تعرف شخصآ فترة طويلة ثم يأتي من يخلق له شكلآ وجوهر آخر لا يمتان بصلة به , فذلك يشبه من يدعوا ابنائك بغير اسمائهم ويطلب منك السكوت وتصديقه ! ياللدهشة !

لايمكن إنكار أننا حضينا بفرصة جيدة أثناء الحرب , حيث كنا كالماء الصالح للشرب في مكان ناء , فتعليمنا و حسن كتابتنا اليدوية هي التي دفعت بالضابط الإداري لاختيارنا ضمن مكاتب إدارة الوحدة مما بعث الابتهاج في نفوسنا كوننا تبؤنا مناصب إدارية تضطلع بمهمة تدوين نتائج الفعاليات العسكرية اليومية للوحدة في حرب نخوضها أول مرة من دون أن نفقد إرادتنا في ممارسة هواياتنا .

في أحايين كنا نقرأ نتفا من رواية ذهب مع الريح التي تركها لنا أورد, تلك الرواية التي تكتنفها عوالم من البشر وأقدار أعدت لشخصياتها سواء الروائية منها أو الواقعية. فالثراء والحب والحرب كانت مبعثا للمآسي والأهوال التي أودت بحياة الكاتبة والممثلين. وقد تعلمنا منها الكثير حتى أننا كنا ندخل جملا منها في أحاديثنا اليومية وأدركنا أن للحياة طريقا واحد يبدأ بما يخبئه القدر وينتهي بقرار موقوت بأمر الله بالرغم من مسعى الإنسان نحو التعليم وتبنيه سياسات مختلفة ليكون نواة تصطف حولها مجاميع البشر لتحذوا حذوه .

بعد ثلاثة أيام أرسل أورد رسالة إلى طالب بيد احد الجنود يقول فيها:

” ربي شاهدي , تمنيت أن تكونوا معي , فالأيام هنا تولد ذابلة وتنتهي من دون أن تخلّف شيئا يمكن أن تختزنه لنفسك , لكنني أرى في ساعات الصباح الأولى مشهدا مذهل لتلك السفوح البنفسجية البعيدة أمام عينيّ إذ لا تجد القذيفة السبيل إليها , كأنما هي الأخرى تحصّن نفسها من أعين المدافع المتربصة وتجاعيد الخنادق الشقية المعبأة بالأجداث والموت ..

عزيزي أبو سبأ , ترى هل أيامكم مثل أيامي يبليها الاصفرار وتعيد ترنيمة الأسى ؟! قد تسمعون يوما أنني فوق رماد الحجابات أحتضر , لكن أعلموا أن روحي ستعبر رفاة الحجابات نحو تلك السفوح , التي تلوّح بهامات نخيل الأشرسي وأشجار السرو الصغيرة كأنها تختلس النظر إلى أحداقي التي تكتنفها البهجة لرؤيتها .. وقل لي ياطالب متى تنتهي الحرب ليكشف عن أسباب اندلاعها لتهدأ أجفاننا المجهدة ؟! “

قرأت الرسالة مع عزيز بوجوه ساخنة ومكفهرة, وقلت في نفسي:

” لا أظن أن هذا الشتاء الثالث من الحرب سيمضي دون أن يحصد احدنا بمنجله المعقوف “. ثم التفت عزيز ليقول لي :

– انه يعطي علامات يأس وإذعان لما تراه عينيه. ثم التفت إلى طالب ليقول له مازحا :

– هل سجلتها في سجل الواردة ؟!

ابتسم طالب قائلا : لا أكترث لهذا .. لكنني أرى أن مصباح أورد سيغدو حقيقة ؟!

بعد مضي سبعة أيام من التحاقنا إلى الوحدة , سمعت بالتحاق إدريس الذي نلقبه بأستاذ العربية اللامع الذي يخلب اللب بحديثه المقترن بقصص أبي فرج الأصفهاني في سياقاته المتعددة . فهو يعمل كرقيب لغوي في إحدى المجلات التي تهتم بثقافة الطفل فشرعت أنا بإعطائه بعض القصص الخاصة بالأطفال لنشرها هناك. توجهت نحو موضعه ليستقبلني كعادته باهتمام وجلسنا نثرثر تحت ضوء مصباح زيتي صغير, ثم توجه نحو بدلته المعلقة ليخرج منها ظرفا كبير وأنا جالس أراقبه بعناية, ثم قال وهو يتقدم نحوي:

– تفضل هذه مكافأة قصتك : ” شجرة الرغبة ” لفوكنر .

فتحت الظرف وأخرجت منه خمسة دنانير وهي ثمن تحويل اللغة الانكليزية إلى العربية كما يراها دار ثقافة الطفل . لم تخبو رغبتي في إرسال المزيد من المواد الأدبية بيد إدريس لأنني هكذا أجد نفسي. ولكن تلك المواد لم تنشرلأنها لا تتناسب مع ذائقة الحرب فاحتفظت بها حتى نهايتها.

ودعت إدريس على عتبات موضعه وبيدي الخمسة دنانير وقلت له:

– شكرا لك صديقي العزيز .. خذ هذه الخمسة دنانير وأعطها للناشر وقل له إن معارف صاحب القصة حسدوه على المكافآت التي يحصل عليها والعيش الرغيد الذي بلغه بفضلكم وهو من الآن سيسألكم المشورة فقط عما يعتزم نشره !

أبتسم إدريس بصمت ثم قال :

– لست سعيدا .. لكنني متأكد انك لن تقطع صلتك بعالم الكتابة مادامت الحرب قد أخلت السبيل إليها !!

لم يقف جهاد عند ذلك الحد , بل انكشف أمره ومظهره الخارجي فقد اخبرني طالب بقلق بالغ أن جهاد انفرد متحدثا مع إدريس , إذ قال له :

– أنت تعلم يا إدريس إن جماعتك لا يولون اهتماما لما يجري من حولهم, بل جعلوا من الموضع الدفاعي هذا مكتبة أدبية يقودها في السابق أورد ذو النزعة الخيالية الخصبة, رغم أنني أراه ضائعا بين الحقيقة والوهم. ثم أضاف يقول : ” رغم أن الحروب تتيح فرصا لخلق مواهب أدبية , إلا أن الأديب يجب أن يفرق بين الأبيض والأسود إذا كان جنديا في هذه الحرب وهذا ما فعلته مع أورد . أما الآن فقد آلت إلى صديقيه عزيز وحازم.

كان إدريس يتهرب من التعليق على أقوال جهاد بشكل صريح لسبب بسيط هو أن جهاد يريد لهذا المكان أن يكون ذو إيقاع واحد وهو ما تقدمه الحرب ليكون شاهدا لها . أضاف طالب وهو يزداد قلقا وكأنه يدرك أن ما قاله هو بمثابة تخليه عن صفة الكتمان وهو شرط واجب لمسؤول سجلات الصادرة والواردة الذي يجب ان يتسم به .

ذلك كان سبب تأخر إدريس عن مقابلتنا أثناء عودتنا من الأجازة وهو بذلك يلتهم ما تقدمه له مائدة الحرب .

في ليلة أعقبت نهارا لم يشترك فيه بحديث مع القذائف أو يختلف فيه مع المواقع الأمامية بموضوعة مشاعل الإنارة الليلية , ولعل اكبر تهديد تعرضت له حجابات أورد هو الظن والشك مما سوّغ تعزيز القوى البشرية لإزالة الإرهاق والقلق عن الأشخاص الرئيسيين الذين يربضون فيه . ولكن في ساعات متأخرة من تلك الليلة تسلل عدد كبير من قوى الوحدات العسكرية المضادة لوحداتنا الأمامية وبدأ مؤتمر المدافع والأسلحة الخفيفة والمتوسطة منعقدآ حتى غبش النهار وانتهى دون التوصل إلى حل يمهد إلى السلام كالعادة . كانت حصيلة المحادثات احتراق العشرات من الهكتارات من بساتين نخيل زرباطية ذات الأشرسي وأم الدهن التي تضجّ بمتعتها العيون , فقد كانت حلية الأراضي السهلية هناك , وقد ألغت النيران , بل وفصلت العلاقة بين مفهوم الرؤية لهذه البساتين وبين أنفسنا .

في الساعات الأولى من صباح اليوم الثاني وبعد أنتهاء كل شئ , انطلقت صفحة حركة الآليات في وحدتنا وشوهد بعض الجنود وهم يربطون مقطورات الماء بعجلاتهم وكعوب بصاطيلهم تغوص في التراب الأحمر الذي أصبح كالطحين الأسمر بسبب كثرة العربات الوافدة وحركتها داخل الوحدة .

نهضنا من الفراش ونحن ننظر إلى بعضنا بصمت وتوتر. وفجأة تنفس عزيز بصعوبة وهو يخاطب طالب :

– والآن ما الأمر يا طالب ؟!

– لو كنت في الحجابات لأخبرتك ! رد طالب . ثم أضاف وهو يضع حذائه العسكري بقدمه:

– من الأفضل أن اذهب إلى جهاد للإجابة على سؤالك.

– على أية حال , ترى هل عصفت الريح هذه المرة من جهة الحجابات فأخرجت أورد من موضعه , أم أنها تحدثت معه بطريقة أخرى ؟! علق عزيز . ثم أضاف بحزن: وهل كان القمر فوقه وهو يربض وحيدا يغمغم مع النجوم البعيدة. أم ابتعد عنه ليتركه كالبومة فوق غصن الموت لينتثر مع الشظايا .. ويا لبؤسنا إن صح كلامي ؟ !!

بعد مرور ساعة رن هاتف مكتب الصادرة والواردة ليجيب طالب على طرفه الآخر الذي تبين انه الملازم جهاد مستفسرا:

– أتعرف شيئا عن أورد يا طالب ؟! .. فقد اختفى من الموضع الدفاعي ليلة أمس وهذا أمر في غير صالحه. ثم أردف يقول: وجدنا سلاحه معلقا مع جعبة العتاد ولا أثر لعراك داخل الموضع. وأعقب ثانية يقول : ” وقد خرجت دوريات ليلية للبحث عنه ولكن دون جدوى !

رد طالب برقة وقد بدت عليه إمارات الحيرة والاستغراب:

– ربما , ياسيدي , تراه في جوار الحجابات , فهو لا يختار شيئا آخر ! ثم أضاف متلكئا: فأنا امتلك إحساسا يقول لي انه لا يكسر هيبة أصدقائه أو يبدل زوجته وأولاده من اجل سلام مشين !

– أذن أنت مدعو للمشاركة في المجلس ألتحقيقي. رد جمال باقتضاب وهو يقفل التلفون .

بعد ساعتين ركب طالب سيارة عسكريه صغيرة ليغادر إلى المواقع الأمامية للإدلاء بشهادته عن أورد. وفي الجلسة الأولى والأخيرة من المحضر سأله المحقق :

– هل صرّح لكم أورد في يوم من الأيام انه يعيش فوضى شعورية أو يتلفظ بعبارات مضطربة نتيجة غضب أو كاشفا عن حقد أو يفعل ذلك بلا سبب أحيانا ؟!

يعتقد رئيس المجلس ألتحقيقي أن من لا يجيد الغناء في مكان لا يعني انه لا يجيده في مكان آخر. وهو يلمّح إلى أورد بأنه يكشف عن توتره أمام أصدقائه ولكنه لا يكشف عن انفجاره إلا في مكان بعيد عنهم.

– سيدي الكريم , لم يكن أورد في مصحّ نفسي من قبل , وأكثر شئ أحب أن أقوله انه لا يوجد إنسان متكامل في الجوانب النفسية . وينبغي معرفة ان أورد ليس بممثل مسرحي جاء ليقوم بدور المتوتر على المسرح من دون أن يقوم به على ارض الواقع حينما يمارس حياته الشخصية . ولكن ما يجري هنا هو التفريق بين هذين الأمرين من اجل تجريمه على فعل لم يبدو حقيقيآ للعيان وهو أمر يبدو محيرا ومغال فيه . والوصول إلى اليقين يقتضي بالنظر إليه كإنسان وليس كخائن . أجاب طالب وهو يبكي . ثم أضاف: ” إن احتقار جانب من شخصية الإنسان يعني إلغاء جزءا من صورته التي يراها معارفه وهذا شيء لا ينطبق عليه, لأن أورد لم يخضع للترويض لكي ينفجر.

اطرق المحقق رأسه وبدا كأنه يرغب في صياغة سؤال آخر فقال :

– يجدر أن يكون أورد كما ترى أنت, ولكن ماذا لو كان لديه صراع مع نفسه ؟

– لا يمكن يا سيدي, فهو على نقيض من ذلك لأنه هنا بإرادته.

بعد ثلاثة أسابيع من الحديث عن أورد وانشطار الجنود إلى نصف وجد انه اقترف ممنوعا وفق السياقات العسكرية , أما النصف الآخر فقد أفتى بعدم وجود صراع بين مظهره وجوهره لأنه لم يدلي بتأويلات أمام أصدقائه تدل على عمل يدعو فيه إلى تقويم ذائقة الحرب .

في الأسبوع الرابع , وفي ليلة ظلماء عثرت دورية قتاليه على أورد فوق مرتفعات الصدور , في واد صغير بكامل ملابسه العسكرية ويديه في جيوبه وقد امتلأت بحصى مختلفة الألوان وأحجار أخرى غريبة الأشكال وجسمه النحيف ملقى وكأنه في غيبوبة .

في طبابة الفوج خلعوا ملابس أورد ليتعرى عن جسد أبيض وطويل يتدلى عند الكتفين رأس ذو وجه طفولي وشعر كستنائي غطى العينين المغمضتين . وقف الأطباء بوجوه شاحبة خلف كمامات بيضاء وهم يتحسسون جسده الممزق بالشظايا التي انتشرت فوق منطقة الفقرات القطنية وأسفل الظهر. تبين أن جسمه البشري قد أصيب بشظايا هاون خفيف هشمت منطقة الحوض من الخلف. أما من وجهة نظر وحدة الميدان الطبية, فأن أورد قد تعرّض إلى انفجار لغم ارضي ضد الأشخاص , إذ لم يتعرّف على الثغرة في طريق العودة إلى موضعه الدفاعي . هذا ما قاله الملازم جهاد عند مرافقته رفاة أورد .

كانت الصدمة بالغة الأثر علينا. حينما حانت أجازتنا ألدوريه ونحن نغادر الوحدة بدأنا في صراع مع الذكريات ففي ايامنا الماضية لم يكن أورد صديقا فحسب , بل اكثر من ذلك , فهو كائن عصامي تحاشى الإساءة بعواطفنا منذ عرفناه , وهو أيضآ ينطق بلغة صادرة عن ذهن مشحون بالأخلاق وهو نموذج غير مطلي بلون النفاق.

غادرنا الوحدة مع تباشير صباح خال من الضباب , في هيكل سيارة الإيفا العسكرية المخصصة للمجازين وهي تنطلق بسرعة عبر الطريق الذي تحيط به التلال الصغيرة إلى بدرة . لم نتمكن من رؤية شيئا من الطيور , إذ مازالت الطيور سادرة في نومها حينئذ , وحين وصلنا إلى نهر الكلال , أوقفنا السيارة فوق الجسر بإشارة من عزيز إلى السائق ثم نزلنا قرب السياج الحديدي الواقي نتنفس هواءآ رقيقآ ونحدّق الى مياهه الضحلة وهي تشق الأرض الحمراء بضجيج خافت دون أن يبهرنا بارتفاع مياهه الفضية هذه المرة , بل بمياه حمراء تنتفض كأنها دماء قلوب متفجرة تندفع نحو البعيد مثل سمكة مضطربة لتهدأ بصمت .

– في تلك العودة من الإجازة كان الكلال ذو سحر طبيعي خاص .. ترى اى حالة تلك التي سرعان ما أختلّت خصوصيتها لتبقي الطبيعة آثار ضحكاتها القديمة على وجهه فحسب ؟! تسائل عزيز .

– لو تدقق تعرف أنها ميول الإنسان المتعارضة وليست الطبيعة . أجبته . ثم أعقبت : أنت ترى الآن صورة تجريدية للكلال صنعها من لا يرغب في شكلها الأصلي , وهو كمن يستبدل الشام بواحة .

– ولكن أنظر كم تجاوزعلى الرؤية البصرية فقضم جزءا منها ! رد عزيز .

– نعم , لكنه مسموحا طالما توسّع رؤيته المغايرة ! أجبته بغضب . ثم أردفت: ” أنه كمن يسحق على انفك ليخرج لسانك ! “

واصلنا السير بخطوات بطيئة بالحديث مرة وبالصمت مرة أخرى حتى جاوزنا نهاية الجسر ولم يتبق من الدرب الخالي إلى بدرة سوى أمتار عدّه ونحن نرمي عيوننا إلى الأمام تارة والى الخلف تارة أخرى حتى ظهر قرص الشمس وهو يسقط بجدائله الحمراء الوردية فوق قمم الجبال شيئا فشيئا كأنه يعيد لها البصر لرؤية الطيور وهي تنطلق لبدء يوم جديد . هتف عزيز لينبهني هذه المرة:

– أنظر الآن يا حازم .. كل شئ يتجدد . ثم عاد ليقول بحزن :

– أنظر إلى.. تلك السفوح البنفسجية !

نظرت إلى تلك السفوح فلاحظت انها تشبه مسرح دودون الاغريقي بسلالمه التي ترتفع نحو القمة وهو يطل على حوض الكلال كأنه يحرّض على شئ لا تراه العين عبر ألوانه البنفسجية الباهتة . تخيّلت أورد وهو يقف هناك ملوّحا لنا كأنه مرآة صغيرة تنبثق من عالم بعيد , لكننا لم نلوّح له إلا بعيوننا التي اغرورقت بالدموع, فاستدرت نحو عزيز وقلت له:

– هاقد تلقى صداها فابتلعته !!

أحدث المقالات