19 ديسمبر، 2024 8:43 ص

تلك “الساعة” من عشر سنين

تلك “الساعة” من عشر سنين

الزمان: بغداد.. المكان: التاسع من نيسان 2003 .. استعير هذا العنوان من الراحل محمود درويش لواحد من اجمل كتبه “الزمان بيروت .. المكان اب” عن حرب بيروت عام 1982. احد الاصدقاء كتب لي ذات يوم “الامكنة تتغير لكن مايبقى في النفوس كنقش في الحجر”. مر الذكريات يتحول عند السرد الى حلاوة بطعم الشهد. لا ندري لماذا حين نكرر ماسينا نضحك عندما نرويها بعد سنوات. حتى ماركس انطلت عليه لعبة التراجيديا والكوميديا عندما قال ان “التاريخ يعيد نفسه مرتين .. مرة على شكل ماساة ومرة على شكل ملهاة”. لا اميل الى ماهو عاطفي فقط في سرد التواريخ والاحداث المؤلم منها والشائق. لكن للضرورة التاريخية اقول ان وصف “السقوط” لاينطبق على المدن ومن بينها ان لم تكن في المقدمة منها بغداد. حتى غرناطة لم تسقط ليلة سقوطها مثلما تروي كتب التاريخ والمسلسلات بل سقط من بكى مثل النساء ملكا مضاعا.
 الاميركان ليسوا قراء جيدين للتاريخ لانهم يفتقدون اليه اصلا. لذلك فانهم عصر ذلك اليوم النيساني  اختزلوا بغداد بساحة هي الفرودس وتمثال هو اسوأ انواع التماثيل التي نحتت لصدام حسين على كثرتها ايامذاك.  
تلك الساعة عصر ذلك اليوم “الرابعة بتوقيت ابو جعفر المنصور” كانت حدا فاصلا زمانين ومكان واحد. كنا نحن المراسلين العرب والاجانب نتخذ  من سطح فندق “فلسطين ميريدان”  ازمنة مؤقتة لنا. وكان النقل من فوهات  مئات الكاميرات المنصوبة على السطوح والمرتبطه بالاقمار الصناعية مباشرا للعالم اجمع. وكان العالم اجمع يحبس انفاسه الا نحن المراسلين لان كل واحد منا كان يعرف قبل بوش وبلير وكوندليزا رايس ورامسفيلد وتومي فرانكس “النغل طبقا لمذكراته” ما سوف يحصل قبل ثوان مما يشاهده العالم حدثا يستحيل فيه  فصل الزمان عن المكان .
في تلك اللحظات الهاربة من جوف التاريخ وقفت دبابة اميركية قبالة التمثال. النظام العراقي لم يسقط بعد بتوقيت الساحل الشرقي. واشنطن ربما بسبب قلة تجربتها التاريخية ربطت بين سقوط تمثال شخص وبين انكسار ارادة مدينة يفتخر التاريخ بالانتماء اليها. كنت على بعد امتار من شهرزاد التي كانت تحكي الليلة الاخيرة .. الثانية بعد الالف حيث لا شهريار يخشى منه ولا ديك يصيح بعد الرابعة عصرا.     كان المشهد سينمائيا بامتياز. جرى ترتيب كل شئ باستثناء واقعة العلم الاميركي الذي شد فيه وجه التمثال قبل اسقاطه بدقائق معدودات. بعد لحظات ازاحوا العلم الاميركي المرقط ليجيئوا بعلم صاحب التمثال نفسه .. بنجومه الثلاث وعبارة “الله اكبر” بخط اليد.. يد التمثال.
في لحظة زهو بالقوة المارينزية سحبت الدبابة التمثال فتهاوى ساقطا نحو الارض تشيعه نظرات من تم احضارهم من كومبارس المشهد. كان الحدث ينقلنا نحن المراسلين لا نحن من نتكفل بنقله. لم تكن الساعة قد اكملت دورتها حتى تجرأ منا بعد خمس وثلاثين عاما على ان يقول  وعلى الهواء مباشرة جملة  “سقوط النظام العراقي”. واذكر اني استخدمت ولاول مرة جملة “الرئيس العراقي السابق صدام حسين”. كانت الكاميرا تستهزئ بي وانا اتجرأ على  تاريخ طويل بكل ما فيه واستقوي بتلك الدبابة  لاقول جملة جديدة لقاموس جديد. ما ان التفت حتى اكتشفت اني لم اكن وحدى حيث كان زميلا لي يقف تحت دبابة مارينزية في زمان قصي من الفندق يروي لقناته الحدث بمهنية يحسد عليها بينما كان بالامس ينقل .. اخر خطب القائد.     

أحدث المقالات

أحدث المقالات