23 ديسمبر، 2024 5:39 ص

تلازم العروبة والإسلام وخطره المعرفي

تلازم العروبة والإسلام وخطره المعرفي

نشأنا وتغذينا معرفياً وتربويا وتعليمياً أن العروبة والإسلام متلازمان، مما يعني أن استهداف أحدهما هو استهداف للآخر، وانتقاد أحدهما، بل حتى الطعن بأحدهما هو طعن بالآخر! ولأكن أكثر وضوحاً تعلمنا وتربينا أن المساس بالعروبة هو مساس بالإسلام بوصفه ديناً عربياً! ولعل هذا التلازم شكل خطراً حقيقيا على البنية المعرفية للمجتمع العربي، أكثر من خطورة الآخر (الخارجي) واستعماله لهذا التلازم في استفزازنا، واستعدائنا، إذ مرة يطعن بالدين استنادا إلى تصرفات العرب، وأخرى يطعن بالعرب استناداً إلى أدبيات الدين الموروثة التي كانت تحاكي مجتمعاً لم يكن فيه للتقنيات المعاصرة وجود!!

لعله حان الوقت للتخلص من ذلك التلازم (الخدعة) الذي روّجت له ثقافة الانقلاب العربي على الدين في سقيفة بني ساعدة بعد رحيل النبي الأكرم(ص)، ولعل في هذا الطرح جرأة يراها المنغمسون في هذه الخدعة محاولة لتوهين النسيج المجتمعي العربي أو خلخلته، وكأن النسيج العربي بُني بناءً إلهياً؟؟!!

يشهد الواقع العربي اليوم على أن هذا النسيج الاجتماعي الذي حاكه ذلك التلازم الموهوم لا وجود له إلا في خيالات أولئك المستفيدين وأذيالهم من جر الوعي العربي المعاصر إلى ماضٍ لو اطلع الشباب العربي على حقائق ما حصل فيه لتمنوا نزع جلودهم والانسلاخ من تلك العروبة (الأعرابية) المشؤومة التي جرّت على المجتمع العربي نفسه كل الويلات.

استغربت كثيرا وأنا أسمع أحد الشعراء يتغنى بمقولة معاوية بن ابي سفيان (نحن الزمان، من وضعناه اتضع، ومن رفعناه ارتفع)، ويغفل عن أن دلالات تلك المقولة الأنانية واضحة وضوح الشمس في رابعة النهار، وهي خلاف الأسس الإنسانية التي جاء بها الإسلام ووضع لها حجر الأساس النبي الأكرم(ص): (لا فضل لعربي على أعجمي إلا بالتقوى)، والتقوى ميزان إلهي، وليس ميزانا عروبياً، فالدين ابتدأ عربيا بمحمد(ص)، ولكنه ليس ملكاً للعرب، إنما هو ملك للإنسانية كلها، ومن استطاع أن يحمل مشعله ويعلي شأنه ويعرّف الناس به هو المسلم الحق بغض النظر عن هويته العرقية أو القومية، وليس اعتباطاً أن يكون من صحابة النبي(ص) المقربين والمشهود لهم بالدين هم من أمم أخرى، وليسوا من العرب، ولقد اجتهد النبي(ص) في محو هذا الوهم المعرفي التربوي الذي بدأت بذرته تنشط في أوساط العرب في زمن النبي(ص) من أن الإسلام يعلي من شأن العرب كيفما كانوا، ويحط من شأن الأمم الأخرى كيفما كانوا!!!

لقد كان رجال مثل سلمان (الفارسي)، وصهيب (الرومي)، وبلال (الحبشي)، وآخرون ربما لم يحفل بذكرهم التاريخ هم الدلالة الواضحة على إنسانية الدين وعالميته، ووسعه المعرفي الذي لا ينظر إلى لون أو إلى لسان، بل صريح ما ورد فيه قوله تعالى{يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا ۚ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ}(الحجرات/13)، ولم تقل الآية إن أكرمكم عند الله العرب، والتقوى لباس يسع البشرية كلها من أي لون أو جنس أو لسان، ولم يفصّل على مقاس العرب لينعقد هذا التلازم الذي كنا ومازلنا ندفع ثمنه غالياً، بل دفع الدين الإسلامي الإنساني فاتورته باهضة من رجاله المخلصين الذين اصطفاهم الله سبحانه ليكونوا صوته في الناس يبلغونهم القيم الإنسانية التي ترتفع بهم إلى مستوى إنسانيتهم التي أرادها لهم خالقهم كرماً منه وجودا.

يحتاج العرب إلى وقفة شجاعة مع تراثهم الذي أوقع الإسلام في مأزق تاريخي، ويعملوا على تخليص مناهجهم التربوية سواء على مستوى التعليم، أو على مستوى الخطاب الإعلامي المسؤول عن بناء الوعي الأسري والاجتماعي للشعوب، ويكشفوا لأنفسهم أولا، وللناس عامة آخراً، إن العروبة شيء، والإسلام بوصفه دينا إلهياً شيء آخر، فالعروبة صبغة اجتماعية قومية، والإسلام صبغة للبشرية كلها، إي نعم أن المبعوث به هو من العرب، وكان يمكن ـ لو شاء الله سبحانه ذلك ـ أن يكون من الترك أو الروم أو الفرس، أو غيرهم من الأمم، ولكن شاءت حكمته سبحانه أن يكون من العرب لينكشف للناس كافة إنسانية الدين لا قوميته، إذ نزل الدين في العرب لأنهم ـ لعله ـ لم يكونوا في زمان نزوله غير قبائل متفرقة متناحرة، ولم تكن لهم دولة وسلطان يفخرون به قبل الإسلام، ولذلك لما استشعروا الدولة والسلطان الذي وضع أسسه النبي(ص)، انقلبوا على الدين وأزاحوه عن مسند القيادة، وتولوا هم مسند القيادة بنزعتهم القومية وشعار الدين، فكانت السقيفة حدثاً تاريخياً مفصلياً، انعطف بقيادة الدين من الوجهة الإنسانية إلى الوجهة القومية، وبذلك بُذرت بذرة النزاع القومي على مسند الخلافة في الدين، والدين منها براء.

ما أريد الخلوص له والإشارة إليه هو أن الأوان أزف لتفكيك هذا الوهم الرابط بين العروبة كقومية والإسلام كدين إلهي، فالله سبحانه لكل الخلق وليس للعرب، ولا يعني اصطفاؤه سبحانه لقادة دينه من العرب أنه يرى أمة العرب هي أشرف الأمم وأفضلها هكذا محاباة، تعالى الله سبحانه عن ذلك علوا كبيرا، بل لأن أولئك القادة المصطفين هم أكثر الخلق إيمانا بالإنسانية، وأكثرهم مقتاً للتخندقات الطائفية والعرقية والقومية، هذا فضلا عن معرفتهم العالية بالله سبحانه التي بها حازوا رتبة الاصطفاء والانتخاب.

وفي الختام أريد أن أثير بعض التساؤلات أمام الوعي الإسلامي المعاصر، منها على سبيل المثال لا الحصر:

أولا: لماذا لا يتحدث الموروث الثقافي العربي الديني المتداول بين عامة المسلمين عن انقلاب السقيفة بوصفه انقلاباً على الشرعية، بل الأنكى أن ترى أن هذا الموروث يصف السقيفة بـ(الحل المنقذ) للمفترق التاريخي والمأزق التاريخي الذي وضع به النبي(ص) دولة الإسلام بعد رحيله، إذ أشيع بين الناس أنه رحل عن هذا العالم وترك دولة الإسلام هكذا في مهب الريح؟؟؟!!!

وهذا السؤال يدمي القلب حقيقة، ويكشف حقيقة مشاعر الأمة اتجاه النبي(ص) وعظم مظلوميته منها، وأنا أسأل هنا: هل يمكن لراعي غنم أن يترك غنمه هكذا في التيه وهو يقترب من الموت؟ ألا يوصي أحداً برعايتها بعده؟ الجواب الأكيد قطعا لا، وإلا يكون بذلك هو المسؤول عن ضياع الأغنام وهلاكها!! إذا كان هذا الحال مع راع وأغنام، فكيف ارتضت العقول تصديق تلك الفرية القبيحة على النبي(ص) أنه مات ولم يخلّف أحداً بعده؟!

ثانياً: الموروث الثقافي الديني المتداول يجعل النبي(ص) أول مخالف لنصوص الكتاب الإلهي الذي أرسل به إلى الناس ليبلغهم رسالات ربه سبحانه، إذ أن النص على كتابة الوصية عند حضور الموت واجب على كل المسلمين، فكيف يستثنى النبي(ص) من كتابتها وهو على رأسهم وسيدهم؟!

ثالثاً: نزولا عند ما يتناقله عامة المسلمين بكل طوائفهم، من أن النبي(ص) أراد أن يوصي ومنعه بعضهم وحصل لغط وعلت الأصوات في حضرته فطردهم، ولم يكتب الكتاب الذي وصفه بأنه عاصم للأمة من الضلال، وهذا ما أفصح عنه خبر الرزية المروي عن ابن عباس في صحاح المسلمين، وهذا كان يوم الخميس، والنبي(ص) رحل يوم الاثنين أي بعد الخميس بثلاثة أيام، فهل من المعقول أنه في تلك الأيام ترك كتابة كتاب فيه حفظ الدين وأهله على مر الأجيال وتعاقبها، لمجرد أن اختلف عنده أولئك الأشخاص؟ أي هل يُعقل أن النبي(ص) ضيع الأجيال التي جاءت بعد الجيل الذي منع كتابة الكتاب العاصم للأمة من الضلال؟؟؟

هذه بعض الأسئلة وهناك أسئلة أخرى كثيرة تجعل المسلمين بوعيهم الثقافي الحاضر أمام مأزق معرفي وتاريخي هو: إنهم يطعنون بحكمة النبي(ص) ومصداقيته، ويجعلونه المسؤول الأول عن ضياع المسلمين بتعاقب أجيالهم، ليصل الحال إلى ما نراه اليوم من أن الكلمة صارت بيد الوهابية وأذنابها، ليأنف الناس من تلك الأفعال والجرائم القبيحة التي ترتكب باسم الدين، والدين منها براء.