18 ديسمبر، 2024 11:49 م

خلال الثلاثة آلاف سنة الأخيرة قبل الميلاد، حقق العقل البشري في بعض التجمعات البشرية قفزات حضارية وعلمية ذات أهمية مِفصلية كبيرة تطوّرت فيها أوضاع الإنسان في مجالات الزراعة وتربية الحيوانات والري، كما تمكن الإنسان خلال هذه الفترة من أختراع الكتابة والعجلة والساعة الزمنية، وأكتشاف وأستخراج وصنع الأدوات المعدنية، وإبتكار العملة النقدية وغيرها، وكان من نتائج تلك التغييرات المهمة في حياة تلك المجتمعات البشرية أنْ نشأ فيها ولأول مرة في التاريخ شكل من أشكال الصراع الطبقي، وأنتج ذلك الصراع الطبقي ولأول مرة في التاريخ الإنساني العشرات وربما المئات من الأديان والمذاهب والفروع الدينية على التوالي في الألفية الثانية والألفية الأولى قبل الميلاد في عدد من مناطق من العالم بما مثلته تلك الأديان من أصول وأعراف وأنظمة تتحكم بالعلاقات الأجتماعية والأقتصادية لمجتمعاتها عن طريق الملوك ورجال الدين الذين كانوا يَزعُمون أنهم يُديرون شوؤن أفراد مجتمعاتهم بتكليف من الآلهة بعد أن كانت تلك المجتمعات تعاني من فراغ تامٍ في مجال مَنْ يقوم بإدارة شوؤن علاقاتها الإجتماعية والإقتصادية والحقوقية، وتلا ذلك نشوء التنافس والصراعات الكبيرة بين المملكات البشرية المتجاورة والقريبة، حيث كان يطمح مَلِك كل مجموعة بشريّة الى الإستيلاء على أفراد وأراضي وثروات المجتمعات المجاورة الأخرى.

أول الأديان في التاريخ البشري ظهرت في أقدم المجتمعات التي تمّ إبتكار العملة النقدية (المال) داخلها، حينما حدَثَ أنْ قام البعض مِمن كان يمتهن مهنة التعامل بالتماثيل أو الأصنام التي ترمز للآلهة بأعلان تسلّطه على جميع أفراد المجتمع بتوكيل من تلك الآلهة لغرض الحُكم في الخِلافات التي تفاقمتْ بين أفراد المجتمع بعد ظهور (المال) في حياتهم اليومية مقابل حصول المَلِك على كل ما يرغب من أموال وأملاك ومتعة جنسية بلا حدود، وهكذا بإمكاننا القول أنّ ولادة (الدين) في حياة الإنسان كان نتيجة مباشرة لقيام بعض أفراد المجتمعات البشريّة البدائية بإنشاء نظام سياسي لإدارة القضايا الإقتصادية والأجتماعية في مجتمعات خالية من أيّ جهة تُدير مختلف أمور وقضايا المجتمع، مُنوّهين الى أن مصطلح (الدين) لا يعني أبداً حاجة الإنسان البدائي لتصنيع أحجار ترمز بشكل ملموس لـ (الخالق) المُفترض والغيْر مرئي وذي القوّة الخارقة القادرة على أعادة الحياة للإنسان بعد الموت، وأنما يَعني مصطلح (الدين) مجموعة صفات ومفاهيم خاصة عن (إله) أو (خالق) وعن (الحياة والموت) مقرونة مع أحكام وضوابط وطقوس وأوامر منسوبة لذلك الإله أو الخالق لتنظيم العلاقات بين مجموعة أفراد بشرية تنتمي الى ذلك الدين.

إذن، أول الأديان في التاريخ البشري ولدِتْ أو تأسست في مجتمعات بشرية خالية من أيّ منظومة إدارة أو قانون أو أحكام تُدير شوؤن تلك المجتمعات عدا النشاط العشوائي للأفراد والعوائل والقبائل، وحدثتْ ولادة أيّ دين من تلك الأديان حال تسلّطِ شخص على أفراد مجتمعه بصفة (مَلِك) يقوم بتطبيق الأحكام المزعومة للآلهة أو الأله الواحد، وليصبح هذا الملِك وأمثاله في تلك الأزمان أول (رجُل دينٍ) لأول (دينٍ) ولأول (نِظام) دولة في تاريخ البشر، فلمْ يكن أمام الفرد الذي يحلم بإمتلاك أموال كثيرة ونساء كثيرة حِجّة منطقية متناسبة مع أوضاع تلك الأزمنة للتسلط كـ (ملك) أو كـ (قائد) وبتسميات متعددة داخل مجتمعه سوى الإدعاء بأنه سيقوم بتطبيق أحكام وأوامر الآلهة المصنوعة من الطين أو الحجر أو أحكام وأوامر الإله الغير مرئي في السماء لحل الإشكالات وتنظيم العلاقات الإجتماعية والإقتصادية بين جميع أفراد ذلك المجتمع، وهكذا نجح موؤسسو الأديان في أنْ يكونوا هُمْ المستفيد الأكبر من إنشائهم لنظام (الدولة والدين) كدفعة واحدة، بينما كان المستفيد الثاني من إبتكار تلك الأديان هو عموم المجتمعات البشرية دون إستثناء، حيث أن رجال الدين (الملوك) مكّنوا المجتمعات البشرية حينها من الحصول على أول شكل من أشكال النظام في المجتمع البشري على مدى عُمْر الإنسان السابق على الأرض بغض النظر عن السيئات الكبيرة لذلك النظام الدينيّ حينها حيث كان كثيراً ما يَميل الى جانب الأقوياء والأغنياء ضد الضعفاء والفقراء، فالغنيّ مثلاً، الذي يقتل إنساناً فقيراً كان يُعاقب وفق الأصول الدينية المنسوبة الى الآلهة بغرامة مالية بسيطة، بينما يُعاقب الفقير بالإعدام فيما لو قتل إنساناً غنيّاً، فذلك كان يُمثل (عدل الآلهة) في مستوى تطوّر أداء العقل البشري في تلك الأزمان!

تغيّرتْ وتطوّرتْ أحكام وأفكار الأديان المُتتالية والمتعاقبة بمرور القرون والألفيات من الزمن على مختلف المجتمعات البشرية، وحصلتْ تلك التطوّرات في أحكام وأفكار الأديان الجديدة بسبب رغبة المُستثمرين الجُدد من موُؤسسي الأديان في كسْب أكبر عدد مِن المؤيدين والمُنتمين لتحقيق المزيد من الأرباح، ولا غرابة في ذلك، حيث أن الدافع الوحيد والحاسم لولادة أو تأسيس أيّ دين أو أيّ مذهب ديني في التاريخ الإنساني هو رغبة نخبة من البشر الحصول على السلطة والمال والمتعة من مِهنةٍ لا تتطلب

منهم جهداً أو رأسمالاً سوى مهارة بيع الأماني والأوهام بين البشر الذين يُعانون دوماً من الحاجة الأنانية الفطرية اللامتناهية لمن يُعلن إنّ بإمكانه التواصل مع (الله) القادر على إعادة الحياة للإنسان بعد الموت المحتوم.

يرى الكثير مِن المُثقفين أنّ الأديان الرئيسية المَشْهورة حالياّ والتي تمّ تأسيسها تباعاً في الألف الأول قبل الميلاد وفي الألف الأول بعد الميلاد والمسماة اليهودية، المسيحية، والإسلام، تميّزت بقيام قادة أو موؤسسو تلك الأديان بإختصار الطريق والغاء الحاجة الى التماثيل أو الأصنام التي ترمز للآلهة، حيث قاموا بالإدّعاء بأنّ (الله) الواحد هو الذي أختارهُم سِرّاً بِشكلٍ شخصي ومباشر لإيصال شريعته وأحكامه الى بشر الأرض!

ومعروف إنّ كل ديانة مِن الأديان الثلاثة الأخيرة تَعْتبِر حالياً أنّ مُوؤسسها هو آخر إنسان يُمثّل الله فيما تحدّث به، فهو الوحيد الذي كان الله يُمَلّيه سِراً آخر أحكام الشريعة الإلهية، والمعروف أيضاً أنّ الثلاثة أديان الأخيرة يُطْلق عليها الكثيرون لقَب (الأديان السماوية)، فـ (السماء) كانت عند حدود دماغ الإنسان قبل آلاف السنين وربما لحد اليوم تُمثل الفضاء العالي والبعيد عن البشر والذي يَجلس فيه (الله) الذي يقوم بإرسال أحكامه وأوامره منها وبطريقة سِريّة الى الوكلاء والأنبياء والرُسل على الأرض!

كخلاصة نقول إن الإنسان في العصور التي بدأ فيها بإدراك حاجته الى ضرورة وجود خالق، كان يتصرف في حياته اليومية مع الآخرين مِن أبناء جنسه وفق الأخلاق والأصول النمَطيّة الأجتماعية السائدة حينها دون وجودٍ لأيّ أحكامٍ أو تشريعات دينية، حيث أنّ قيام إنسان تلك المجتمعات بتصنيع تماثيل أو أصنام الآلهة لم يكن يعني وجودَ (دينٍ) في حياته، بقدر ما كانت تلك التماثيل أو الأصنام تعطي الراحة النفسية للأنسان الذي كان يُقابلها كجسم ماديّ ملموسٍ يرمز الى الخالق المُفترض والذي لا يمكن رؤيته.

قد يشاركني العديد من مثقفي العالم الإعتقاد بأنّ ظهور أوائل الأديان في مجتمعات البشر على الأرض حدثَ تحديداً عندما إتّجه بعض من أفراد المجتمعات المستقرة لأبتكار صناعة جديدة رخيصة المواد تدرّ عليهم أموالاً طائلة، فبعد أن ظهرت العملة النقدية (المال) في حياة الإنسان، وفي أتجاهٍ يهدف الى كسبِ أموالٍ هائلة بجهود بسيطة، قام بعض الأذكياء ممن كانوا يمتهنون تصنيع آلهة الطين والآحجار، بإعلان أنفسهم كـ (وكلاء) لـ (الآلهة) وليَحكُموا كـ (مُلوك) أو (وكلاء آلهة)على جميع أفراد مجتمعهم بحجّة إنهم مُكلّفون بتطبيق وتنفيذ أحكام وقوانين ورغبات الآلهة المصنوعة حينها من الخشب أو الطين أو الأحجار.

موؤسسو مهنة أو صناعة الأديان كانوا أذكياءً جداً عندما إستفادوا من المادة الأساسية الأولية المجانية المتوفرة والمتمثلة بـ (حاجة دماغ الإنسان) الفطرية أو البايولوجية لوجودٍ ملموسٍ لِمَن يُمثّل القوة الخارقة القادرة على إعادة الحياة الى الإنسان بعد الموت!

وهكذا تكاثرت وتوالت عمليات تصنيع أنواع وأشكال (الأديان) و(المذاهب الدينية) في كل مجتمعات العالم ولاسيما الشرقية منها وحتى يومنا الحالي طالما أنّ أسُس إبتكار هذه المنتوجات (الأديان والمذاهب الدينية) تعتمد فقط على إستغلال حاجة الأنسان الفطرية الى وجود خالق، حيث يتم تحويل تلك (الحاجة) الى (نظام ديني) يقوم بفرض أحكام وأخلاق مُعيّنة على جميع أفراد المجتمع مع إلزامهم مَنْح كل الإمتيازات المعنوية والمادية والجنسية لِصانع أو مؤسس الدين أو المذهب الديني الجديد، مُشيرين الى أنّ صناعة (الأديان والمذاهب الدينية) ما تزال لغاية يومنا هذا قائمة وتتطور ولكن بأشكال وسبل جديدة سنتطرق اليها في مقالات مقبلة من هذا الكتاب.

يتبع ..

اعلاه هو مقال ( تكاثر الأديان ) من كتابي المعنون ( أحترمُ جداً هذا الدين ) والمنشور عام 2021 بأكثر من تسع لغات رئيسية متداولة في العالم .