يوم كانت تواريخ الميلاد تنسب إلى الوقائع بدلا عن السنين، كانت أحوال التعليم تعاني من الركود وضعف المستوى، ما يعكس تخلف المعارف وركود فعالياتها إذا ما قيست بأحوال التعليم في الوقت الحاضر. إذ أن الكتاتيب التي تستند إلى تعليم الصغار بعض آيات من سور الكتاب الحكيم بطريقة ( التهجئة ) كانت هي السائدة حينئذ، إلا أنها لم تكن نمطاً عملياُ مشجعا لمواكبة الأطفال مسيرتها؛ بالنظر لميل ( الملا ) إلى الزجر واستخدام العقوبات الشديدة سبيلاً للتعليم، حيث كان التلميذ يحفظ الآيات الكريمة عن ظهر قلب من دون تعلم القراءة والكتابة التي كانت تبدو مهمة عسيرة، إن لم تكن مستحيلة جراء تخلف أساليب التدريس وتدني كفاءة من يمتهنها المتأتية من غموض الرؤية التربوية، فضلاً عن عدم جدية طرائق التدريس المعتمدة حينئذ.
وفي ظل هذا الواقع الذي يكتنفه الفقر والمرض والتخلف، نشأ الملا ( جبر ) في إحدى قرى العراق التي تغفو بهدوء وأمان على أحد الجداول المتفرعة من نهر الفرات، وكان أهم ما يشغله سعيه الابتعاد عن الإثم والكف عن الشبُهات والمعاصي على سبيل التقوى، ما جعله يصوم شهري رجب وشعبان من كل عام، تمهيداً لأداء فريضة الشهر الفضيل الذي حوله في بلدنا كثير ممن يدعي التحضر إلى مهرجان للبطون بفعل الجهل الذي أحاق بهم. ولأن الحاجة تساهم في تحريك روح الابتكار الكامنة لدى الإنسان، فقد اهتدى ( الملا ) إلى آلية بسيطة تمكنه التعرف على ليالي شهر رمضان بسبب افتقار أغلب مناطق البلاد في تلك الحقبة، وبخاصة سكنة القرى والأرياف والمناطق النائية إلى المساجد وغيرها من أماكن العبادة، فضلاً عن خلو الحياة العامة حينئذ من جهازي الصورة المسموعة والمرئية، إلى جانب عدم ظهور التقويم والإمساكية وغيرهما من وسائل الاتصال المتيسرة حالياً، حيث إعتاد صاحبنا على جمع ثلاثين فردة تمر مع إطلالة الشهر الكريم من كل عام، والاحتفاظ بها في أحد جيوب معطفه الوحيد الذي تهرأت أكمامه جراء تقادمه. ويبدأ تقويم الملا جبر بتناول تمرة واحدة في وجبة سحور كل يوم؛ بقصد التعرف على ما تبقى من أيام شهر رمضان المبارك. فكان أن تسببت هذه العملية التي تماثل في بعض جوانبها التقويم الذي يسود حياتنا هذه الايام بإثارة انتباه مجتمعه المحلي الذي بدأ يعتمد عليه في معرفة أيام شهر رمضان المبارك.
وصادف أن دعي الرجل إلى وجبة إفطار بقصد الأجر والثواب في منزل أحد أرحامه خلال العشرة الأواخر من شهر الطاعة والإيمان، فقام رحمه الله بنزع معطفه الذي لا يفارقه طوال اليوم وتعليقه بوساطة مسمار مثبت على جدار الحجرة الطينية، من أجل أن يشرع بالتوضؤ استعدادا لأداء فريضة الصلاة، فاستغل أبن صاحب العزومة الذي كان صبياً شقي هذه الفرصة بترك يده تتحرك على هواها في معطف الملا، بحثا عن فردات التمر التي وجد أن عددها لا يتجاوز عدد أصابع اليد الواحدة، ما شجعه على جلب مقدار كبير من التمر المتيسر في منزل والده، ودسه في جيب معطف الملا جبر من دون أن ينتبه إليه أحد؛ بغية تضليله وإفشال تقويمه البدائي. وبعد أن تناول الصائمون طعامهم، وحمدوا الله تبارك وتعالى على نعمته التي لا حدود لها، أفتتح الملا كعادته الجلسة الرمضانية المباركة بتلاوة آي من الذكر الحكيم، أعقبها بما تيسر له من معلومات عن فضائل العبادة أيام الشهر المبارك، ثم ما لبث أن سأله أحدهم عما تبقى من أيام شهر رمضان، فسارع رحمه الله إلى تقويمه اليدوي بقصد إجابته، إلا أنه فوجئ بكثرة ما وجده من فردات التمر أو ( الخلال ، كما يحلو له الاشارة إليها ). وأمام هذه المشكلة التي أرهقت تفكيره وجعلته مطأطأ الرأس من شدة الخجل، أجاب الملا جبر بنبرة لا تخلو من الحسرة والألم: ( يا أخوتي، يبدو والله العالم أن هذا العام سيمضي من دون الاحتفال بعيد الفطر المبارك )!!!.
وفي ظل الأحداث الراهنة التي تحمل نذراً أكبر مما يتوقعه كثير من أهل السياسة في بلادنا، فإن المأمول من مجلس النواب، العمل على تجاوز الخلافات السياسية والتوافق على حسمها عبر الركون إلى ثوابت الدستور؛ بغية النجاح في مهمة إقرار قانون الموازنة العامة التي ألقى تأخر المصادقة عليها بظلال سلبية على جميع مفاصل الدولة، وبخاصة تلكؤ المشروعات البلدية والاجتماعية، وتوقف كثير منها، إضافةً إلى استفحال خطورة الأزمات التي تعيشها البلاد.
وفي الوقت الذي تتباين فيه رؤى مختلف الشرائح الاجتماعية حول مدى إمكانية مجلس النواب الذي كثر ما اقترنت دوراته السابقة بتلكؤ الأداء، تجديد الأمل في نفوس الشعب، آمل أن لا يكون مصير قانون موازنة العراق العامة 2014 مماثلا لما أحدثته طرفة ( خلالات ) الملا جبر رحمه الله، فيمضي العام الحالي الذي لم يتبق على نهايته سوى أشهر عدة، من دون إقرار المجلس النيابي في نسخته الجديدة، موازنة عامة لجمهورية العراق، فنصبح حينها ملزمين باستذكار مجلس النواب عندما نترحم على الملا جبر أسكنه الله فسيح جناته!!!.
في أمان الله.