23 نوفمبر، 2024 2:54 ص
Search
Close this search box.

تقهقر المشروع الطائفي الإيراني بعد الاتفاق النووي

تقهقر المشروع الطائفي الإيراني بعد الاتفاق النووي

مر اكثر من عقد على تمزق العراق بين احتلالين، وسياسيو ولاية الفقيه في السلطة ينفذون وصية قائد الثورة الإيرانية الخميني بحذافيرها، باستثناء ما يتعلق بفقرة “نفخر بعدائنا لأمريكا الإرهابية وحليفتها الصهيونية” التي نصت عليها الوصية. في هذه الفقرة بالذات لجأت إيران إلى مبدأ التقية للحفاظ على مصالحها وتحقيق أهدفها في المنطقة. في الوقت الذي تعاونت مع “الشيطان الأكبر” من خلال الأحزاب والتنظيمات التابعة لها في العملية السياسية ظاهراً للتقية، استخدمت سنة العراق لقتال أمريكا (بدعم وتسهيل دخول التنظيمات السلفية الجهادية والأسلحة إلى مناطقهم) باطناً للتقية. بعد انسحاب آخر ما تبقى من القوات الأمريكية من العراق في ديسمبر 2011، كانت الثورة السورية في طريقها إلى أن تتحول إلى أكبر مجزرة للصراع الدولي بمسميات إسلامية طائفية، بدأتها إيران لحماية رأس السلطة العَلَوية. ظنت إيران بأنها تمكنت من العراق بعد تهميش السنة بتهمة الإرهاب، وتخدير الشيعة بحكم دولة علي (الاسم الذي أطلقه الشيعة على فترة حكمهم للعراق الطائفي). وبالفعل كادت بغداد أن تكون عاصمة الثورة الخمينية ومركز انطلاقها للمنطقة لولا تورط إيران العسكري في سوريا.
لقد فات إيران بأن العم سام الذي فتت الاتحاد السوفيتي، وترك الشعب الروسي يتقاتل أمام المخابز على رغيف الخبز، لن يترك دولة عائمة على بحر من البترول ومفصل جغرافي مهم، للسيد السيستاني يقودها، والسيد الخامنئي يحلّق منها بمشروعه الطائفي بعد امتطاء حكومتها. العم سام صياد ماهر، يدخل الغابة، ينصب الفخاخ، ثم يعود إلى كوخه، يسكر وينام، وفي الصباح يخرج لجمع الطرائد. هناك أوقات تبدو امريكا فيها عاجزة عن اتخاذ القرارات، أو تأخذ جانب الصمت والحياد إعلامياً، كموقفها من الثورة السورية قبل ذبح داعش للصحفي الأمريكي دراماتيكياً، أو كصمتها على التظاهرات والإصلاحات الحكومية في العراق هذه الأيام. تلك الأوقات التي عودتنا السياسة الأمريكية بأنها أوقات ما قبل الجَنْي. لم يكن موقف الحياد الأمريكي من الحرب في سوريا سببه فقط نهاية للصراع العربي الإسرائيلي وخلق صراع إسلامي طائفي كل قتيل فيه عدو لها ولإسرائيل، ولكن لأن التدخل الإيراني في سوريا كان فخ لاستنزاف قوة إيران واصطيادها، كما كان الضوء الأخضر الذي منحته لصدام حسين باجتياح الكويت فخ لاستنزاف قوة العراق واصطياده. عودة إلى إيران في فترة حكم رجل الثورة الإسلامية الخمينية، احمدي نجاد، وطبيعة سياستها العدوانية إعلامياً اتجاه أمريكا وإسرائيل، واستعراضها للقوة في المناورات العسكرية، وبياناتها عن صناعة الأسلحة، وتهديداتها بالصواريخ البعيدة المدى، ستكشف حجم الأزمة الداخلية التي تعانيها إيران، وأسباب تخليها عن التيار المتشدد بانتخاب مرشح تيار الإصلاحات حسن روحاني. جاء انتخاب روحاني كقرار جماهيري للانسحاب من واجهة الصراع الإسلامي مع امريكا والغرب، وبداية مرحلة جديدة، ربما تتصادم مع التيار المتشدد التابع لقائد الثورة الإسلامية، لإنقاذ إيران من الانهيار. الأزمة الاقتصادية، تحسين العلاقات مع الغرب، بالاضافة إلى حقوق الإنسان وقضية الملف النووي الإيراني، المحاور الرئيسة التي تغلب فيها روحاني على خصمه في الانتخابات.
ولكن الشروع في الإصلاحات كان يتوقف على حل أزمة الملف النووي ورفع العقوبات عنها. على العكس من سلفه احمدي نجاد، توقف روحاني عن سياسة التصعيد إعلامياً ضد أمريكا والغرب، واستقطب المفاوضات حول الملف النووي إلى الحوار المتبادل، بدل التأزم والندية، كفرصة لتحسين العلاقات. ولكن في ذات الوقت مارس سياسة التصعيد في مناطق نفوذه في الوطن العربي كوسيلة للضغط على مفاوضيه والتوصل إلى اتفاق يحقق فيه نسبة أكبر من المكاسب. أما سقوط الموصل بيد تنظيم داعش وإعلان دولة الخلافة، فقد حقق نقلة نوعية في العلاقات الدولية، حيث صارت إيران حليفاً استراتيجيا لأمريكا والغرب في محاربة الإرهاب. إلا أن نهوض قوة جديدة من بين الركام، يتفوق ثقلها الإسلامي على إيران واقتصادها على الولايات المتحدة، جعل أزمة الملف النووي الإيراني تخضع لإرادة الزمن لا لتحقيق المكاسب. ظهور قوة خليجية عربية بقيادة سعودية تسبب بما يكفي من القلق للتعجيل في توقيع اتفاقية النووي، خاصة بعد انتشالها لمصر من هاوية الانهيار الاقتصادي، ونجاحها في هزيمة الحوثي وعودة الشرعية للحكومة اليمنية المنتخبة. السير باتجاه اكتمال ملامح المشروع الخليجي العربي وفرض وجوده على واقع المنطقة، لا يشكل خطراً على اسرائيل فقط، ولكن يربك مشروع التقسيم الأمريكي للمنطقة. منذ انهيار الاتحاد السوفيتي وأمريكا تسعى للتفرد بالقوة لأجل فرض إرادتها على اسواق النفط والتحكم بالاقتصاد العالمي. ليس خفياً بأن الاتفاق النووي شمل جوانب غير معلنة، لكن زيارة وزير الخارجية الإيراني جواد ظريف إلى النجف ولقائه بالسيد السيستاني كان مؤشراً على أن العراق واحد من الجوانب غير المعلنة في الاتفاق. صرح السيد جواد ظريف بأن الزيارة لغرض اطلاع السيد السيستاني على نتائج الاتفاق النووي الايراني، وتأكيد تعاون الطرفين على محاربة الاٍرهاب والطائفية في المنطقة.
لم يحدث أن تدخلت مرجعية النجف في الشؤون السياسية الإيرانية قبل اللقاء، لكن الإرهاب والطائفية شأن مشترك بينها وبين إيران، تجاوز سكوت الثانية على تدخل العراق الشيعي عسكرياً في سوريا، أو في الشؤون الداخلية للبحرين، ليشمل فتوى بالجهاد اصدرها مكتب السيد السيستاني، حصنت المالكي وحكومته من السقوط مع الموصل، وفتحت جبهة طائفية في المدن السنية يقودها الجنرال قاسم سليماني ومليشاته. وللوقوف على نتائج وأسباب إصدار الفتوى، يمكن الاطلاع على الحوار الذي اجرته قناة التغيير مع المرجع السيد الصرخي الحسني. بعد زيارة السيد ظريف إلى النجف، ظهرت بوادر أزمة بين الرئيس الإيراني ومرشد الثورة الإسلامية حول الاتفاق النووي ومعارضة السيد خامنئي لبعض بنود الاتفاق، على اثرها صرح السيد خامنئي بأن الاتفاق النووي لن يؤثر على دعم إيران لأصدقائها في المنطقة. هل تخلي إيران عن اصدقائها في المنطقة بند من بنود الاتفاق؟ هل التظاهرات التي جاءت بعد زيارة السيد ظريف خطوة اتخذتها مرجعية النجف لفصل مرجعيتها الفقهية عن مرجعية قم الثورية؟ هل التخلي عن المالكي وساسة الولي الفقيه في الحكومة محاولة لتنصل السيد السيستاني من مسؤوليته في تجريد حوزة النجف من دورها التاريخي كمدرسة للفقه الشيعي وجعلها رواق سياسي لصراعات أمراء الفساد وقادة الجريمة في العراق؟ هل التظاهرات في العراق من تدبير المرجعية أم موجة ركبتها المرجعية لفض الشراكة الثقافية والاقتصادية والعسكرية مع إيران ورجالها في الحكومة؟ أحداث ما بعد عودة المتهم نوري المالكي من إيران، كفيلة باستنباط الإجابة عن هذه التساؤلات. ذكرت قناة البغدادية، المتبنية للتظاهرات والإصلاحات، بأن رئيس الوزراء حيدر العبادي طلب من الحكومة الإيرانية عودة المالكي، وبالفعل استجابت إيران للطلب. لكن عودة المالكي لم تكن لمواجهة التهم المنسوبة إليه قضائياً، إنما لإعلان الحرب على شركائه في العملية السياسية. عند الساعات الاولى من دخوله العراق هدد المتهم بملفات الفساد والجريمة ضد شركائه، لم يكن موضوع الملفات غريباً على الشعب العراقي، لقد استخدمها سابقاً في إدارة العملية السياسية وابتزاز خصومه أو التخلص منهم عندما كان رئيساً للوزراء، الجديد هو ذكره لأبناء المرجعية ضمن هذه الملفات. بعد عودة المالكي تبعه قائد قوة القدس، الجنرال سليماني ليجتمع بما يسمى بالإتلاف الشيعي، وهو ائتلاف طائفي يضم قادة الأحزاب والتنظيمات التابعة لإيران. دخل قاسم سليماني العراق لينهي التظاهرات ويعطي انطباعاً واضحاً عما يحدث في إيران والعراق. هناك انقسام أو تصادم بين ما تسعى إليه الحكومة الإيرانية بقوة الشعب الإيراني وبين ما يريده مرشد الثورة بقوة الحرس الثوري الإيراني. أما في العراق فالانقسام  بين ما تريده مرجعية النجف بقوة تظاهرات الجماهير الشيعية وبين ما يريده سليماني والمالكي بقوة المليشات.
منذ توقيع إيران للاتفاق النووي والمنطقة تشهد تغييرات سياسية يمكن أن نصفها بالإيجابية، ومنها المثير للاستغراب، مثل القبض على مهندس تفجيرات الخبر بعد ملاحقة استمرت لعقدين. التغييرات تؤكد بأن إيران بعد الاتفاق النووي تتقهقر إلى الداخل، وأن ميزان القوى يعود إلى قبضة العم سام، كما كان عند احتلاله للعراق. ليس هناك قوة إسلامية في المنطقة مهما كانت مسمياتها يمكن أن تشكل خطراً على أمريكا وإسرائيل كمشروع دولة خليجية عربية إسلامية، يدعو إلى وحدة اقتصادية وعسكرية، من خلال بنود الاتفاق النووي الإيراني، أمريكا تسعى إلى إلغاء أسباب الحاجة إلى هذا المشروع، وقد يدعونا هذا إلى التفاؤل بأن المنطقة مقبلة على حالة من الاستقرار، ربما يكون تحرير الموصل من تنظيم داعش جزءاً من بداية النهاية فيها.

أحدث المقالات

أحدث المقالات