23 نوفمبر، 2024 5:26 ص
Search
Close this search box.

تقنية الحياة وإيتيقا المعرفة عند جاك مونو

تقنية الحياة وإيتيقا المعرفة عند جاك مونو

” أن نقبل بمسلمة الموضوعية هو أن نعل إذن القضية القاعدية لإيتيقا معينة هي إيتيقا المعرفة”1[1]
من المفارقة أن تعيد المجتمعات المعاصرة بناء رؤيتها للكون على ضوء الاكتشافات العلمية والاختراعات التقنية على مستوى النظر العقلاني وأن تستمر في الاعتماد على معايير أخلاقية ومفاهيم تقليدية وتواصل عادة تأسيس الثقافة على أعراف وشيم موروثة عن المجتمعات القديمة على الصعيد العملي والاجتماعي.

لقد شهدت العصور الحديث تشكل ما اصطلح على تسميته علوم التقنية ولكن استمر الصراع بين النظرة الغائية والنظرة الآلية في تفسير ظواهر الطبيعة والتغيرات التي تحدث داخل الكون وتم استبعاد كل دور للصدفة والفرضيات الاحتمالية الأخرى أو التقليل من قيمتها الإبستيمولوجية مثل النظريات التحولية والتطورية والكوارثية والانفجار العظيم والتقلص التدريجي والتمدد اللانهائي والنسبية الخاصة والعامة. وبالتالي تعاني المجتمعات في الحقبة الراهنة صعوبة التأليف بين الأنساق القيمية التقليدية والنظريات العلمية الجريئة وغير المعهودة والتي دفعت بالعقل البشري إلى ملازمة الصمت وتبني خيار تعليق الحكم. إذا كان المؤرخون رصدوا اضطرابا كبيرا أصاب قصور المعرفة البديهية وخلخلة في المعتقدات الراسخة نتيجة التقدم العلمي والثورة التقنية والتطور الصناعي فإن الفلاسفة الجدد أدركوا خطورة هذه التحولات ودعوا إلى إعادة تجذير انتماء الإنسان للطبيعة وتمتين روابطه بالكون والمحافظة على الحياة في الكوكب.

لقد حافظ الفكر البشري على الأساطير والمعتقدات والأديان والتصورات الكوسمولوجية والأفكار الفلسفية الكبرى إلى جانب المناهج العلمية والتطبيقات التقنية والمعالجات الرقمية وكان ذلك بسبب الشرخ الذي أحدثه التقدم في النواة الروحية لكل الأنساق القيمية والقلق المصيري الذي ولدته السيطرة على الطبيعة . لقد اعتقد البشر أن العلم قادر لوحده على تقديم الحل التام والنهائي لكل المعضلات العنيدة وأن التقنية هي الأداة الناجعة في ترجمة ذلك على أرض الواقع ولكن جهد العقلنة المبذول لم يكن كافيا قصد التعبير عن الحوافز العميقة للعقل بل لم يقدر على الإحاطة بكل المجموع المعقد والمتشابك الذي يتشكل منه الكون.

لعل الطريقة المتاحة أمام العلوم للارتباط بروح العصور الحديثة هو إعطاء أهمية مركزية للمسألة التقنية على مستوى التجريب والتصنيع بل وكذلك على مستوى حركات التنظير والافتراض والاستشراف والتنبؤ وبهذا المعنى ظهرت التقنية الصناعية وعلوم الإعلامية والعلوم التقنية وعلوم البرمجيات والنمذجة وعلوم الاتصال وحدث تفاعلات معقدة بين الخيال العلمي والمعرفة الفلسفية وبين الأدب القصصي وعلوم التقنية.

غني عن البيان أن المشروع العلمي الذي يتصف بهيمنة البعد النظري ويميل إلى التجريد يتضمن أيضا بعدا تقنيا ويميل من حيث الجوهر إلى التطبيق وكذلك يحتاج المشروع التقني لإعداد نظري وتأمل مجرد. لهذا السبب هيمنت التقنية على العلوم المعاصرة من ثلاثة منافذ حيث اعتبرت المصدر والأداة والهدف وصارت تتكلم لغة الترميز والعلامات والإجرائية والصورنة والأكسمة والمنظومة والنفعية والبنائية.

والحق أن علوم التقنية تتميز بالمرونة وعدم قابلية الانصهار والتحلل بين الجانب النظري البحثي والجانب الإجرائي الصناعي وبمنحها البعد التقني الهندسي الأولوية الإنشائية على البعد النظري والبلور المفهومي.

من المعلوم أن التقنية هي مجموعة أدوات تمثل امتدادا لمجموعة أعضاء الإنسان الطبيعية وقد تم توظيفها ووضعها في خدمة حاجياته الحياتية والاجتماعية ولكنها عرفت في الإبستيمولوجيا بكونها نظريات مطبقة.

لقد ضاعفت العلوم التقنية من قيمة الإنتاج المادي وجعلت الإنسان يراكم الثروة ويجني الكثير من الأرباح وحل الإنسان الصانع مكان الإنسان العارف وانتصرت الحياة النشطة على الحياة التأملية واشتهر المهندس والتقني والخبير والمحاسب على حساب الشاعر والكاتب والمثقف والمنظر ولكنها في المقابل ولدت حيرة أكسيولوجية وأحدثت فراغا قِيَميًّا وسببت الشعور بالقلق والضياع وصحّرت الوجود وجففت المعنى. لقد غيرت من الطبيعة الإنسانية وصنعت الذكاء وشرحت الانفعال ودفعت الرغبات الى اختراق جميع الموانع والحدود وتلاعب بالعقل وصارت تتحكم في وعيه وذوقه ونمط حياته وتحدد مستقبل تواجده على الكوكب.

بناء على ذلك تركز علوم التقنية على التشييد المادي والبناء المعماري والتنظيم الإداري وتحرص على التكوين والاختراع والاكتشاف والتصور ولكنها وصلت إلى نقطة من التطور بحيث لا يمكنها العودة إلى الوراء أو التوقف عن السير إلى الأمام فقد أجرت تغييرات عميقة وتحولات عنيفة في الطبيعة الإنسانية.

صحيح أن التقدم العلمي والتقني مصدره الإنسان وأن علوم التقنية بدأت بوصفها ظاهرة أنثربولوجية ولكن الإنسان لم يعد يتحكم في وجهة هذا التقدم ولم يعد قادرا على توقع مصيره ودوره في التقدم صار صغيرا.

من هذا المنطلق يجب تشديد الرقابة المنهجية والعقلانية على علوم التقنية ومضاعفة المساحة التي تغطيها الحكمة العملية وتوخي الحذر الفلسفي والفرونوزيس التعقلي وتدبير الاكتشافات والتصرف في التقنيات بروية وتبصر وحسن تمييز ولا يجب أن يفعل الإنسان كل ما تقدر علوم التقنية على فعله ولا ينبغي أن يستهلك كل ما تتمكن المخابر من إنتاجه فربما سيكون المستقبل للفن والإيتيقا وليس للعلم والتقنيات.

لقد انصبت علوم التقنية على وضع المعرفة النظرية في خدمة الحاجات الصناعية للبشرية وقلبت فعليا بنية العالم ونظام الطبيعة وأجرت معالجات معينة للقوى الطبيعية ضمن أفق قرارات سياسية واقتصادية. لقد مثلت علوم التقنية تكملة للماهية الثقافية واللغوية للكائن البشري وإتمام مشروع اللّوغوس في ترتيب تاريخ الكوكب وتنظيم الفوضي وعقلنة اللاّمعقول وضبط الطارىء وقراءة المفاجىء وحصر اللاّمتوقع.

لقد تصور العلماء أن القيمة العليا والخير الأسمى  والأخلاق العلمية من تطبيق التقنية على الحياة هو إسعاد الإنسانية والتقليل من الأضرار وأشكال التعب وجلب المنافع والزيادة في أزمنة الراحة والترفيه ولكن الغرض الحقيقي من التقدم العلمي هو الإيمان بالقدرة الزمنية للمعرفة الموضوعية على تحرير الأذهان من الخرافة والجهل وتربية النوع البشري على التخطيط والتنظيم والبناء والتعمير في الكون.

لا يحتاج الإنسان اليوم إلى الوعي السياسي بأهمية المطالبة بالحرية فقط والى ممارسة الفعالية النقدية تجاه الازدراء والعنف المسلط عليه فحسب بل يبحث كذلك عن مصادر المعلومة ونجاعة المعرفة الموضوعية ويتسلح بكل ما توفر له من مناهج وتجارب من أجل اكتساب ابستيمولوجيا معيارية تساعده على الابتكار. يتخذ الإنسان من العلوم ملاذا للتوقي من الخلط ودرء الشبهات وتبين المسالك النيرة وتجويد ملكة الاختيار وتلعب المعرفة الموضوعية سلاحا فتاكا في مقاومة الأشكال الذكية من الاغتراب والتأديب والانضباط. يختار رجل العلم الصيرورة ويرفض العبث واليأس ويتمسك بالحياة ويبحث عن معنى الوجود ويبلور نسقا قيما يخص عمله الخاص ويصر على التحلي بروح الموضوعية والنزاهة والحياد في نظرته وحكمه.

كل الأنساق التقليدية وضعت الأخلاق والقيم بعيدا عن تناول الإنسان وجاءت علوم التقنية لكي تساعد الإنسان على إيقاف قوة التدمير والتحكم في مساحة التحطيم وجعل القيم والأخلاق والبناء في متناوله.

لا يمكن الحديث حينئذ عن معرفة موضوعية وعن قيمة للعلم دون التطرق إلى القيم والأخلاق والأصالة والإنسانية والفعل النافع والحقيقة والاختيار الحر والعناية بالأبعاد الروحية وأحكام القيمة ورعاية الحقوق.

عندئذ توفر علوم التقنية القدرة المادية لتأسيس المعرفة الموضوعية في حين” إن إيتيقا المعرفة المبدعة للعالم الحديث هي الوحيدة المتطابقة مع ذاتها والقادرة لوحدها لو تم فهمها وقبولها على قيادة تطورها”2[2]. أليست إيتيقية المعرفة هي في نهاية المطاف معرفة بالإيتيقا مرتبطة بالفعل ارتباط العقل بالتجربة ؟

الهوامش والإحالات:

[1] Monod Jacques, Le Hasard et la nécessité, essai sur la philosophie naturelle de la biologie moderne, édition Cérès, Tunisie,1993,p192.

[2] Monod Jacques, Le Hasard et la nécessité, essai sur la philosophie naturelle de la biologie moderne, op.cit,p192.

المصدر:

Monod Jacques, Le Hasard et la nécessité, essai sur la philosophie naturelle de la biologie moderne, édition Cérès, Tunisie,1993.

أحدث المقالات

أحدث المقالات