لم يعد الحديث عن مشروع الشرق الاوسط الجديد سرا أو خافيا على أحد وباتت صور الخرائط الجديدة لدول المنطقة التي تنشرها الصحافة الامريكية بين الحين والآخر بمثابة الدليل على حقيقته التي لايرقى لهاالشك وتؤكدها الاستراتيجية الامريكية لمحاربة تنظيم الدولة الاسلامية والتي أثبتت عدم فاعليتها لعدم وجود ارادة سياسية حقيقية في القضاء على التنظيم تحقيقا لمأرب أخرى على قاعدة (لا غالب ولامغلوب) التي يتم تطبيقها في سوريا والعراق بغرض منع تحقيق أي طرف لنصر كامل وهوما يعني مزيداً من المعاناة والدمار والاستنزاف والمراوحة في المكان وتشديد قبضة كل طرف على أراضيه تمهيدا لحل سياسي على طريقة (نقسم البلد نصين) وللولايات المتحدة تاريخ طويل في استغلال ظرف سياسي أو أمني معين لغرض فرض مشروع أخر يتناسب مع مصالحها على أرض الواقع فقد تذرعت بهجمات الحادي عشر من أيلول/سبتمبر وبحجة ضرب الارهاب للولوج الى أسيا الوسطى من خلال غزو أفغانستان بهدف التضييق على الدب الروسي والتنين الصيني واحكام الخناق على ايران خصوصا بعد غزو العراق عام 2003 تدشينا لمشروع الشرق الاوسط الجديد بحجة أسلحة الدمار الشامل المزعومة ورفع الظلم والحيف عن الشعب العراقي !!!
وكما كان العراق حجر الأساس في استهداف مفهوم الدولة المركزية وانهاء وجودها في العالم العربي فانه يعود ليتصدر المشاريع السياسية التي تستهدف تقسيم المنطقة من خلال مشروع بايدن الذي عاد ليظهر كحل سحري للازمة العراقية.
هذا المشروع يتزامن مع اتساع الدعوات المحلية التي تروج للفيدرالية الطائفية وباستحالة امكانية تعايش المكونات العراقية الرئيسية فيما بينها لعدم وجود الثقة المتبادلة (كلام حق يراد به باطل) حيث يتم تصوير الأمر على ان المعاناة العراقية ستنتهي وسيعيش العراقيون بسلام و أمان بمجرد أن يتم تقسيم البلاد فيدراليا
وللمفارقة ان بعض الذين يتحدثون اليوم عن أهمية التقسيم هم ذاتهم الذين تسببوا بسياساتهم الطائفية بنشر ثقافة الكراهية والتحريض بين المكونات الاجتماعية فاتحين ثغرة نفذ منها الارهاب الذي أرتبط بهم بشكل أو بأخر والذي أتخذ من القتل على الهوية شعارا له وبعد ظهور نتائج هذه السياسات واستحالة قدرة طرف واحد على فرض رأيه وفكره على البلاد بأكملها بدأت الدعوة للفيدرالية الطائفية لتكون خاتمة الأحزان مثلما قاموا بايهام الشعب من قبل بأن المحاصصة الطائفية هي نظام الحكم الأمثل للعراق لضمان مشاركة كل الطوائف في ادارة شئون البلاد و للحيلولة دون عودة الديكتاتورية دون أن يتحقق أيا منهما بل أدت الى المزيد من التفتيت والتشتيت والخراب.
دعوني أوضح بانه لافرق عمليا بين المطالبين بالفيدرالية الطائفية (الاقليم السني – اقليم الوسط والجنوب) من السائرين خلف مشروع بايدن وبين مشروع الشرق الاوسط الجديد الموضوع للمنطقة بأسرها فهؤلاء هم مجرد مقدمة لما سيحصل في نهاية المطاف .
فعند التمعن بحيثيات الفيدرالية الطائفية تجد بانها عبارة عن مرحلة جديدة من الألم والدم وتزداد تلك القناعة عند تأمل خرائط الاقاليم الطائفية والأثنية التي تطالب بها الأطراف المتناحرة حيث تجد الخلاف قائم فيما بينها حول الحدود الادارية لتلك الاقاليم فالمناطق المختلطة بين اقليم كردستان ومحافظات نينوى وديالى وصلاح الدين وكركوك يعتبرها الأكراد تبعا لاقليمهم ودولتهم المقبلة فيما يراها السنة جزءا من محافظاتهم واقليمهم الموعود مع عدم معرفة مصير سنة بغداد والجنوب وفي المقابل لا نجد لمروجي ما يسمى باقليم الوسط والجنوب أو دولة سومر فكرة عن مآلات مناطق ذات غالبية شيعية مثل تلعفر وطوزخرماتو واذا ما افترضنا ضم الدجيل وبلد للحدود الادارية لمحافظة بغداد فماهو وضع مدينة سامراء السنية التي تتوسطها مراقد شيعية؟ وكيف سيتم التعامل مع أهلها اذا مارفضوا الخضوع لحكم شيعي؟ وهو الراجح اذا ما بات التقسيم أمرا واقعيا، هل ستتم ابادتهم أو تهجيرهم؟ أو تتدخل داعش لهدم المراقد انهاءا للمشكلة من وجهة نظرها، ان سامراء وحدها كفيلة باشعال حرب طائفية ل40 عام على غرار حرب البسوس كما كانت هي ذاتها السبب في الحرب الطائفية عام 2006، كما لايمكننا اغفال وضع العاصمة بغداد والتي تتصدر الكاظمية المقدسة جانب الكرخ السني(نظريا) منها فيما تتربع مدينة النعمان الاعظمية في قلب الرصافة الشيعية (نظريا) والتي ستكون في ظل النظام الفيدرالي المراد تطبيقه مجرد عاصمة ضعيفة سياسيا واقتصاديا وليس لديها سلطة فعلية على الاقاليم والتي منحت من الصلاحيات مايجعلها دولة داخل الدولة بل انها لاتستطيع ارسال قواتها العسكرية للاقليم(وهو أحد الأسباب الرئيسية لمطالبة بعض القوى السنية بالفيدرالية)، والرؤية حول بغداد تختلف بين الفيدراليون الشيعة والذين يضعونها ضمن مايسمى باقليم الوسط والجنوب فيما يرى نظرائهم السنة تحييدها وجعلها عاصمة مركزية ليست منضوية تحت اي اقليم في ظل استحالة تقسيمها ، ويبقى السؤال المطروح حول مصير باقي الاقليات الأثنية والدينية الصغيرة؟ والتي يبدو بان تهجيرها خارج العراق هو الخيار الراجح!!!
ان مناقشة موضوع الفيدرالية أو التقسيم في العراق لايستوي مع عدم التطرق لمواقف الدول الأقليمية المؤثرة في المشهد العراقي فايران تعارض بشدة الاقليم السني والدولة الكردية لانها تدرك انها لن تكون بمنأى عن التأثيرات السلبية لتقسيم العراق وهي الدولة المتعددة الأعراق والأديان والمذاهب كما ان هذا التقسيم سيحرمها من التواصل الجغرافي مع سوريا التي ستفقد هي الأخرى الجانب الشمالي الشرقي من أراضيها لصالح دولة علوية تربط دمشق بالساحل ، القلق الايراني تشاركه السعودية أيضا البلاد الغنية الواسعة والمترامية الأطراف والتي أحكم المد الشيعي الخناق عليها من 3 جهات بعد سيطرة الحوثيين على صنعاء في الوقت الذي تتجه اليها أنظار الدولة الاسلامية في العراق والشام فيما تنشط هي بدورها في مكافحة الفكر الاخواني المتغلغل في المجتمع السعودي والذي بات يشكل خطرا حقيقيا على العرش، كل هذه العوامل تجعل الرياض في حالة رفض تام لفكرة تقسيم العراق الذي لن تسلم هي منه في حال حصوله وهو مايفسر تقاربها الحذر مع ايران في الملفين العراقي واليمني ، تركيا أردوغان تبدو مواقفها هي الأقرب للفيدرالية العراقية الطائفية وهي داعم رئيسي للاقليم السني العراقي الذي سيكون عبارة عن اقطاعية تركية سيلحق به شمال شرق سوريا ذي الغالبية السنية والذي تبدو فرصة الاسد باستعادته معدومة حتى لو تم طرد تنظيم الدولة منه كما ان أنقرة قد تمكنت من تكييف نفسها مع امكانية قيام دولة كردية في شمال العراق شريطة عزل الأمر عن محادثات السلام الكردية التركية وعدم التطرق أصلا لملف أكراد سوريا .
مما لاشك فيه ان الدولة المركزية في العراق وسوريا وطوال نصف قرن قد فشلت بتأسيس دولة مواطنة حقيقية التي تدمج كافة الأقليات والأعراق في المجتمع والدولة المدنية وتعطيهم كافة حقوقهم وتساوي بين كافة المواطنين وهي المسئولة عن تحويل الوطن لمجرد كرسي تتصارع عليه المكونات لانها تدرك بانها لن تحصل على حقوقها كاملة في وطنها مالم تمسك بزمام السلطة وهو ما أدى الى ماوصلنا اليه اليوم من احياء للنعرات الطائفية والعرقية وتزايد دعوات الانفصال وتقرير المصير وهو مابدأت تستغله بعض الأطراف لتنفيذ أجنداتها الخاصة من خلال الترويج لدول واقاليم ترقى لمستوى المدينة الفاضلة التي أطلقها أفلاطون ناسين أو متناسين ان داخل كل طائفة هناك مجموعة من المصالح المتضاربة والأجندات المختلفة والأهداف المتصارعة وهي ان كانت مؤجلة في الوقت الحالي للحيلولة دون استغلال الطائفة الأخرى لها فان ستجد لها المساحة الكافية للظهور بمجرد الانفصال أو انشاء الاقليم الطائفي ولنا في دولة جنوب السودان خير مثال التي ما ان انفصلت عن الخرطوم حتى دخلت في حرب أهلية ذات طابع عرقي قسمت الجيش وشردت الألاف السكان وأضعفت الدولة الوليدة التي روجت الحركة الشعبية بانها ستكون مثالية ومنقذة بمجرد التخلص من الوحدة مع الشمال المسلم ، فالدولة الكردية لن تكون بمنأى عن الصراعات الداخلية الحزبية والمناطقية كتلك التي شهدها شمال العراق في عقد التسعينات والاقليم السني سيتحول الى ساحة صراع دموي بين مؤيدي الاقليم ورافضيه من ناحية وبين البعثيين والعشائر والاخوان من ناحية ومايسمى بالدولة الاسلامية من ناحية أخرى كما ان اقليم الوسط والجنوب الذي سيكون اقطاعية ايرانية لن يكون بأفضل حال وسرعان ماستطفو فيه الصراعات
المناطقية والحزبية والتي كادت ان تنفجر بتنحية المالكي عن الحكم لولا الحرص على وحدة الكلمة وتوحيد الصف وهو اعتبار لن يكون له معنى في ظل اقليم شيعي منعزل .
ان دعاة الاقاليم الطائفية ومروجي الدويلات الفاشلة يريدون انهاء القتل الطائفي الذي قد يستهدف العشرات والمئات في بعض الأحيان(ساهموا هم فيه) والانتقال الى مجازر تطهير وتهجير عرقي وطائفي قد يصل ضحاياها لملايين الأشخاص لغرض اشباع رغبتهم الهستيرية بالحكم ولو على حساب الأوطان والمواطنين وللوصول الى خيار الانفصال أو الاقليم الطائفي لتشكيل كانتونات لن تنعم بالاستقرار وستعود هي الأخرى لتنشطر وتتشظى بذاتها على أسس حزبية ومناطقية.
ان الكانتونات الطائفية والعرقية ليس لها مكان في عالم اليوم الذي تحكمه مجموعة من القوى المتعددة الأعراق والأديان والمتحدة فيما بينها مثل الولايات المتحدة،روسيا الاتحادية، الاتحاد الاوربي، الصين، وهو مايعزز من هيمنتها السياسية وقدرتها الاقتصادية وقوتها العسكرية والتي ستتحكم في هذه الكانتونات وفقا لمصالحها الخاصة وستكون مجرد أحجار على رقعة الشطرنج.
ومن هنا نعيد ونكرر ان العراق بحاجة لصيغة تعايش مشتركة جديدة تنهي أوجاع الماضي وتحافظ على وحدة الدولة ففكرة التعايش السلمي تمر بأسوء أوقاتها نتيجة حمامات الدم التي أريقت بأسم الطائفة والتي ولدت حالة من عدم الثقة ان لم نقل الخوف من التعايش مع الطرف الأخر خصوصا مع امتلاك كل فريق لجماعات مسلحة أمتهنت استهداف الفريق المخالف وممالاشك فيه ان الفيدرالية أحدى أرقى الانظمة الادارية الحديثة وأكثرها تقدما ومعمول بها في أغلب دول العالم الأول وهذه الاطروحات كثيرا ماسمعناها من مروجي الفيدرالية الطائفية الذين يتعاملون مع الموضوع على طريقة (ولاتقربوا الصلاة) دون أن ينظروا الى أسباب نهضة هذه الدول ونجاحها في مسيرة صعودها والتي أستمرت مايقارب من القرنين للوصول الى ماهي عليه اليوم من الوعي الحضاري والنضج السياسي واحترام الحريات العامة والخاصة والايمان المطلق بمبادئ حقوق الانسان وبالديموقراطية فكرا وسلوكا وبأهمية التداول السلمي للسلطة (وهي أمور لانمت لها بصلة من قريب أو بعيد) ناهيك عن كون هذه الفيدراليات قائمة على أسس ادارية لا طائفية ولا عرقية (باستثناء المملكة المتحدة ولاسبابها الخاصة) فلا توجد في الولايات المتحدة مثلا ولاية للزنوج وأخرى للبيض وهذه للاتينيين وتلك للعرب ، ان الفيدرالية الادارية هي النظام السياسي الأفضل للعراق في الوقت الراهن وهي الضامن الحقيقي لاستمرار وحدته الجغرافية ولتحقيق الرخاء الاقتصادي والموازنة بين حقوق جميع المكونات وتحقيق الشراكة الحقيقية في بناء البلد انسجاما مع الاتجاه الاداري اللامركزي الواسع الذي أصبح هو السائد سياسيا في مختلف دول العالم بعد انهيار أنظمة الحكم الشمولية وهي الخيار الذي يجب أن ترنوا اليه الأنظار لمعالجة اشكالية الحكم في العراق واعادة ترميم النسيج الاجتماعي والمحافظة على بقاء الدولة ومقدراتها ، وهنا يحق لنا ان نتسائل عن الفرق بين الحقوق التي سيحصل عليها أبن البصرة وأبن الرمادي في حالة اقامة اقليم البصرة و الانبار مثلا
عن تلك التي سيحصل عليها في ظل اقليم سني و أخر شيعي اذا كان الأمر متعلق بالحقوق فعلا؟ والجواب هو لافرق الا اذا كانت النية تتجه نحو التقسيم أصلا وما الفيدرالية الا تمويه لذلك مع ضرورة التأكيد على أسبقية تعديل الدستور الاتحادي (اعادة كتابته هو الأفضل) لتنظيم العلاقة بين الاقليم الاداري والحكومة المركزية بشكل يمنح الاقليم حقوقه دون أن يخل ذلك بهيبة وسلطة الحكومة الاتحادية والتي يجب أن تكون ملفات الدفاع والسياسة الخارجية والمالية والطاقة بيدها حصرا وهو المعمول به في كل دول العالم التي تأخذ بهذا النوع من الأنظمة السياسية .