22 ديسمبر، 2024 8:13 م

تقرير مهم كتبته لمسؤول كبير ولم يجد أذناً صاغية

تقرير مهم كتبته لمسؤول كبير ولم يجد أذناً صاغية

المستعصم بالله؛ الخليفة العباسي السابع والثلاثون, وآخرهم, تولّى الخلافة بعد أبيه؛ المستنصر بالله, وقد حكم ستة عشر عاما؛(640-656 هجري), وكان, وفقاً للروايات التاريخية؛ ضعيف التدبيروالحزم والقيادة, قليل الحنكة والدهاء, فاتر الهمّة والعزيمة مع سوء في اختيار الأعوان ووجود بطانة فاسدة, كثير الغفلة وعدم التحسب لغزو المغول, والذين صار خطرهم داهماً وقريباً من بغداد, دار الخلافة ومركز الحضارة. وكان الخليفة إذا نُبّه لذلك الخطر الشديد, يقول 🙁 أنا بغداد تكفيني, ولا يستكثرونها لي إذا نزلت لهم عن باقي البلاد)!!. ولكن كل ذلك الضعف والهوان الذي أبداه الخليفة للمغول لم يدفع عنه شرّهم , فاحتلوا بغداد ودمرّوا مكتباتها وشواخصها العمرانية والحضارية والعلمية , ومعها رأس الخليفة, وأبادوا ما يقرب من مليون إنسان من أهلها, في غضون أربعين يوما, استُبيحت فيها المدينة.
كان المستعصم بالله؛ شحيحاً محبّاً للمال, واستغلَّ فيه هذه الصفة الذميمة, وزيره (إبن العلقمي), والذي خان الخليفة وتعاون مع هولاكو في احتلال بغداد. وتمكن هذا الوزير الخؤون الغدّار, من إقناع الخليفة, بتخفيض تعداد الجيش من مئة ألف مقاتل, الى عشرة آلاف مقاتل فقط, بحجّة؛(تقليل النفقات)!!, وحتى هؤلاء العشرة آلاف, أُهمل تدريبهم, وقُطعت رواتبهم, ووصل بهم سوء الحال, الى أن أخذوا بالاستجداء في شوارع بغداد, وعند أبواب مساجدها !!.
ولأن (المصائب لا تأتي فُرادى), فقد كان الخليفة المستعصم, منصرفاً للّهوِ والطرب والتمتع بالجواري الحسناوات, بينما البلاد تعيش أشد الظروف العصيبة وأخطرها. وقد روى بعض المؤرخين, موقفاً مخزياً له, إبّان هجوم المغول على العراق؛ فقد طلب من (بدر الدين لؤلؤ)؛أمير الموصل, جماعة من (ذوي الطرب)، وفي تلك الأثناء, وصل مبعوث هولاكو إليه, يطلب منه منجنيقات وآلات الحصار، فقال بدر الدين: (انظُرُوا إِلِى المِطلُوبَينِ وَابْكُوا عَلَى الإِسلَامَ وَأَهلِهِ).
وكما قال الشاعر إبن التعاويذي: إذا كان رَبُّ البيتِ بالدفِّ ضارباً *** فشيمةُ أهلِ البيت كلِّهِمُ الرَّقصُ . بدأ عليّة القوم في البلاد الإسلامية, بتقليد (الملأ), وفق قاعدة ؛(الناس على دين ملوكهم), فصار الترف والمجون والانحلال, دينهم وديدنهم , وانغمسوا في الشهوات الحرام؛ كالخمر والنساء والغلمان, لدرجة لا يصدّقها العقل, ووصل الحال بأحد قادة جيش خليفة المسلمين, وهو يتحدث عن غلام له , وقد بلغ به الوله والهيام, مبلغه, أن يقول:(ضياع هذا الغُلام مني, أشد عليَّ من أخذ بغداد من يدي، بل أرض العراق)!!!.
كان هجوم المغول على بغداد قد ابتدأ ليلة الخميس 17 كانون الثاني 1258م, وهو اليوم نفسه تماماً, الذي تعرضت فيه بغداد, لهجوم همجي آخر من المجرم؛(بوش),بعد ذلك التاريخ ب(733)سنة بالضبط. فسبحان الله ربّ العالمين !!. وفي التاسع عشر من شباط سنة 1258م, سقطت بغداد عاصمة دولة الخلافة العباسية الإسلامية, التي حكمت نصف الدنيا على مدى أكثر من خمسة قرون. وأُسر الخليفة المستعصم بالله, ومُنع عنه الطعام. ويُروى أن هولاكو قد أمر بأن تُقدّم إليه الكنوز التي وجدوها في قصره بدلاً من الطعام, فقال له المستعصم: (إن الكنوز لا تُزيل جوعاً). فردَّ عليه هولاكو ساخراً: (إذا كانت الكنوز لا تسد الرمق، وإذا كانت لا تحفظ الحياة, فلماذا لم تعطها لجنودك ليحموك، أو إلى جنودي ليُسالموك)؟!!.
وردَ على خاطري, جانب من تلك الوقائع التاريخية, وأنا أعود, ب(خُفّي حُنين), من مكتب (مسؤول كبير) في المقر العام للحرس الجمهوري في بغداد. كان ذلك بتاريخ 10-10-2001. فقد قصدته في ذلك اليوم, حاملاً تقريراً مُهماً كتبته, محذّراً فيه من كارثة كبرى تلوح في الأفق القريب, وإن البلاد مقبلة على أحداث جسام تهدّد وجودها وحاضرها ومستقبلها, وإنه إذا كان الأعداء قد اكتفوا بتدمير العراق سنة 1991, فإن هدفهم هذه المرّة سيكون التدمير والاحتلال معاً. وسيكون القصف أشدّ وأثقل مما وقع في 1991, وسيكون الزحف على بغداد من جبهات متعددة, وليس من الجنوب فقط, وإن إيران ستلعب دوراً أشدّ خبثاً ممّا قامت به سابقاً, وإن هذه الحشود العسكرية والأساطيل التي ملأت المنطقة, لا يمكن أن يكون هدفها أفغانستان فقط, بل ؛(إن العراق هو هدفها التالي), ومنطلق لإسقاط وتقسيم دول عربية أخرى, كسوريا وليبيا واليمن والسودان. وكنت قد قدّمت لتقريري بنبذة مختصرة, عن مؤتمر؛(هنري كامبل بنرمان),والذي يجهل خطورته وأهميته وتفاصيله, الكثيرون من العرب.
كان ذلك هو المجمل العام, لفحوى التقرير بصفحاته الخمس, والذي كتبته بخطّ يدي, بعد شهر واحد فقط على أحداث 11 أيلول(سبتمبر), وقبل أكثر من سنة ونصف من شنِّ العدوان على العراق. ولكن المسؤول الكبير, لم يقابلني, لأنه كان (مشغولاً بما هو أهم)!!,كما أبلغني مدير مكتبه, والذي رجوته أن يسلّم التقرير له, وغادرت المكان. ولكن وأنا في طريقي خارجاً, لمحته, وهو يجالس(أحدهم), والمعروف بالفرفشة ورواية الطُرف, للترفيه عن المسؤول (الكبير)!!, والذي غدا (صغيراً) بنظري.
وبعد يومين أو ثلاثة, رأيت مدير المكتب, بشكل عرضي, واستفسرت منه عن التقرير, فأجابني: بأنه قد عرضه على المسؤول الكبير, والذي علّق عليه (شفويا)؛ بأنه لن يحصل شيء ممّا ذكرته (إن شاء الله)!!. لم يستدعيني أحد ليناقشني بما كتبت, وكأن الذي كتبته, هو؛(نشرة الأحوال الجوية خلال ال24 ساعة القادمة) !!.
ولكن ما توقعته في تقريري؛ كمعلومات وتحليلات واستنتاجات, حصل أدهى منه وأقسى بكثير. وكان المسؤول المذكور أحد (الضحايا), فقد ظهر اسمه ضمن قائمة المطلوبين ال55 الشهيرة, وتم أسره بعد أيام قليلة من الاحتلال, وتنقل في معتقلات الغزاة وحثالاتهم, وهو يقبع لحد الآن في (بطن الحوت)!!. ليس حوت النبي يونس(عليه السلام), بل (سجن الحوت), سيّء الصيت في أطراف مدينة الناصرية, والذي مصير من يدخله, الموت؛ شنقاً, أو قهراً,أو اهمالاً.
وقصة هذا المسؤول, ليست استثناءً, بل كان كُثر من المسؤولين, وفي مواقع مختلفة, من هذا النمط في اللّامبالاة, في السنوات القليلة التي سبقت الاحتلال. والأمرُّ من ذلك, إن زعيم البلاد وكبيرها, بدلاً من الانشغال بواجباته الموكولة له في حفظ وحماية وسلامة الوطن, (استهوته) فكرة كتابة الروايات. فكتب؛(زبيبة والملك), و(القلعة الحصينة)!!, والتي ثبت في النهاية, إنها لم تكن حصينة أبداً. فقد استباحها الأشرار ودمّروها تدميرا, وأذلّوا أهلها, وسلّموها الى ضباع الأرض من (العلاقمة) الجدد, مكرّرين ما فعلوه أول مرة, قبل 745 سنة تماما.
وهكذا يكون الحال والمآل, عندما يُوسّد الأمر لغير أهله, وعندما يغفل الراعي عن إعداد مستلزمات الدفاع , ويتفشّى الخَبث, ويركن الناس للترف والشهوات, ويكثر الظلم, وينتشر الفساد. فحينها ؛ يسلّط الله سبحانه, عليهم وبذنوبهم ,عدواً من غيرهم, لا يخاف الله فيهم ولا يرحمهم, ولا يرقب فيهم إلاًّ ولا ذمّة. تلك سُنّة الله في خلقه, ولن تجد لها تبديلا.
قال تعالى: (( قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ))..