18 ديسمبر، 2024 10:45 م

تقاسم غوغول بين روسيا واوكرانيا

تقاسم غوغول بين روسيا واوكرانيا

التقاسم يعني شطر غوغول الى قسمين اثنين متساويين ( اي قطع غوغول بمنشار حاد وتحويله الى جزئين متساويين بعد قياسات دقيقة وصارمة حد المليمتر !!!) , كي تستلم كل من روسيا القسم الخاص بها من غوغول وتستلم اوكرانيا القسم الخاص بها من غوغول , ( وما هو هذا الجزء الخاص بكل بلد من هذين البلدين – العلوي ام السفلى اذا كان التقسيم بالعرض , او الجزء الايمن او الايسر اذا كان التقسيم بالطول , وهذه مشكلة عويصة اخرى طبعا لا مجال لبحث تفاصيلها هنا في اجواء الحرب الروسية – الاوكرانية ونيرانها !!! ) , ولو كان غوغول (رقما محددا حسب علم الرياضيات !!!) , فان عملية تقاسمه بين روسيا واوكرانيا لن تكون صعبة , ولكن غوغول هو ظاهرة ابداعية وفكرية وفلسفية مثل غابة أشجار متشابكة الجذور والسيقان و الاغصان والثمار ( من امسيات ديكانكا وعبر الانف و المعطف والمفتش والارواح الميتة وانتهاء بمراسلاته العميقة مع الاصدقاء ), فكيف يمكن تحقيق هذا التقسيم لتلك الظاهرة الفنيّة الواسعة و العملاقة ؟ او , لنعرض موضوع التقاسم هذا بشكل آخر , وهو – هل يمكن الاعتراف بغوغول كاتبا روسيّا فقط ليس الا ولا شئ آخر , او كاتبا اوكرانيّا فقط ليس الا ولا شئ آخر , او كاتبا للامبراطورية الروسية باكملها ليس الا ؟ او , لنتكلم عن قضية التقاسم هذه بشكل ثالث , وهو – هل يمكن الوصول الى الحل العقلاني والاتفاق حوله بين الطرفين المتحاربين في الوقت الحاضر على أرض اوكرانيا , الاتفاق الذي يؤكد على الوقائع كما هي فعلا , اي الاقرار , ان غوغول (الاوكراني حتى نخاع العظام) هو كاتب (روسي حتى نخاع العظام) حتى عندما يرسم بكلمات روسيّة مدهشة الجمال ومتنوعة الالوان امسيات القرى الاوكرانية (…قرب ديكانكا) , او, وهو يرسم بطله الاسطوري (تاراس بولبا) , تلك الشخصية الغريبة بخصلة شعره الكثيفة في منتصف رأسه الاصلع وشواربه الهائلة و شرواله وثيابه , وهو يقتل ابنه بيده لان هذا الابن قد انتقل الى (الاعداء البولنديين !!!) ؟
لقد تحوّل غوغول الان الى (قضية مركزية!!!) في مسيرة الحرب الروسية – الاوكرانية الدموية الرهيبة هذه , وفي حلّ هذا (الاشكال الكبير!!!) يكمن الحلّ الجذري لهذه الحرب على ما يبدو , وارتباط ازمة الحرب بين دولتين بالموقف من كاتب محدد هو حالة فريدة من نوعها في تاريخ الحروب في العالم , اذ لم يعرف العالم سابقا , ان الموقف من كاتب معيّن يقرر مصير حرب تؤثّر على كل دول العالم بمثل هذه السعة والخطورة ( وفي ذلك تكمن عظمة غوغول طبعا ومكانته ) . ولم تظهر هذه القضية امام روسيا واوكرانيا الآن , بل برزت في تسعينيات القرن الماضي , اي بعد انهيار دولة الاتحاد السوفيتي وظهور الدولة الاوكرانية , و حاولت الاوساط العلمية الروسية دراسة هذا الموضوع , ونود هنا ان نشير – ليس الا – الى ندوة مشتركة تم عقدها بتاريخ 3- 5 نيسان عام 2008 بمبادرة من – معهد اوروبا في اكاديمية العلوم الروسية , والمركز الاوكراني والبيلوروسي في كليّة التاريخ بجامعة موسكو , ومعهد الدراسات السلافية في اكاديمية العلوم الروسية . لقد شارك في هذه الندوة مجموعة كبيرة من الاكاديميين المتخصصين الحاصلين على أعلى الدرجات العلمية في روسيا , و تناولوا في كلماتهم تفاصيل متنوعة حول تحديد معالم هذه القضية وابعادها المتشابكة جدا , كي يجدوا الاجابة الصحيحة عن هذا السؤال التاريخي المعقّد جدا , والذي يرتبط بموقع غوغول بين الدولتين والشعبين السلافيين الشقيقين.
كان شعار الندوة هذه واسعا جدا , ويتكون من ثلاثة محاور أساسيّة , والتي يمكن تلخيص جوهر تلك المحاور – وبايجاز- كما يأتي –
المحور الاول – هل كان غوغول كاتبا اوكرانيا , او امبراطوريا – روسيأ , او روسيّا ؟ /// المحور الثاني – المفاهيم الامبراطورية والقومية والروسية والروسية الشاملة والاوكرانية في ثقافة روسيا القرن 19 /// المحور الثالث – مكانة روسيا بين شعوب الامبراطورية.
من الواضح جدا , ان هذه الندوة العلمية , التي انعقدت عام 2008 في اكاديمية العلوم الروسية , تؤكد بما لا يقبل الشك , ان موضوع تقاسم ابداع غوغول بين روسيا و اوكرانيا كان مطروحا قبل سنين طويلة من الحرب الروسية – الاوكرانية الحالية , والتي بدأت في شهر شباط ( فبراير ) عام 2022 ( ونحن نكتب الان في شهر مايس ( مايو) من نفس ذلك العام) .
ختاما لهذه السطور اودّ ان اشير الى مقالتين عميقتين اطلعت عليهما قبل فترة , الاولى بعنوان ( روسيا واوكرانيا …حرب ثقافية حول معطف غوغول ) بقلم بشير البكر , والثانية بعنوان ( هل ينبغي تقسيم غوغول بين روسيا واوكرانيا ) بقلم محمود عبد الغني , واريد ان اشيد بالموقف الموضوعي الرائع للزميلين في مقالتيهما , ويسعدني ان ارى هذه النظرة الشمولية العلمية عندهما والمعرفة المعمّقة للادب الروسي , اذ ان ذلك يعدّ دليلا ماديا ملموسا لنضوج البحث الفكري العربي وتحرره من الشعارات الساذجة و( المعلّبة !) ….