10 أبريل، 2024 6:12 ص
Search
Close this search box.

تفكيك عالم ما بعد الحداثة

Facebook
Twitter
LinkedIn

ترجمة ومراجعة
د.حارث محمد حسن
د.باسم علي خريسان

 ان أي نقاش جدي لما بعد الحداثة يؤدي بناء الى ((طرق متشعبة))  ملأى بالتعريفات المختلفة-  كي لا نقول المتضاربة- وللسير في هذا الاتجاه علينا في البداية ان نولي بعض الاهتمام لمصلح ((ما بعدpost  )) الذي يبدو انه يستخدم في العادة للإشارة الى تغيير ما يطال نظاماً سابقاً. ان الـ ((ما بعد ))  في (( ما بعد الحداثة)) تقترح نهاية التفكير العقلي ، والعقلانية ،  والمشاريع الاجتماعية التي أنتجها عصر التنوير ، وبالتالي  نهاية ((السرديات  الشاملة)) التي شكلت لدعم هذه المشاريع. وقبل ان نتعمق في دراسة العدد الواسع من المجالات الثقافية التي كان تحتك بها ما بعد الحداثة ، من الضروري ان نؤكد على العلامة الصميمية بين ما بعد الحداثة وبين العوامل السياسية والاقتصادية التي أسهمت في تحديد خصائصها الأساسية. ان النقاش ما بعد الحداثي الذي هيمن على المسرح  الثقافي في الغرب خلال العقود الثلاثة الماضية وضع النظريات الفكرية و الفلسفية الحداثية في موضع المساءلة . وقد برزت عدة محاولات  فنية واجتماعية وفلسفية وسياسية حاولت تعريف هذا المفهوم الذي بدا عصياً على التعريف.
 ان التغير الجذري الذي طال المفهوم الحداثي لـ(( الحقيقة)) خلال الستينيات ، مع انحطاط مشروع التنوير وظهور الاتجاهات ((الضد عقلية))، صاحبه صعود للثقافة الشعبية/ الجماهيرية على حساب الشعر والرواية المتأخرة التي تلت الحرب العالمية الثانية والتي تختلف  عن الرأسمالية الاحتكارية ومنطقها الثقافي (الحداثة). الرأسمالية  المتأخرة تحتاج الى شبكة عالمية تديرها الشركات متعددة الجنسية  والنتيجة هي (( توسع هائل للثقافة على امتداد الحيز الاجتماعي، والى الحد الذي يمكن  القول فيه.. ان كل شيء في حياتنا الاجتماعية يصبح (ثقافياً) والتغيرات التي يبدو انها حصلت على الصعيدين النظري والعملي خلقت تحولاً في المجالات الاجتماعية والثقافية والفكرية وأصبحت ما بعد الحداثة (انعطافاً) في الاتجاهات السوسيو –ثقافية والفنية لـ(( الواقعية ))و (الحداثة). وبكلمات أخرى، ان ما بعد الحداثة قد أعلنت الحرب على رياء البرحوازية((السرديات الشاملة ، والحركة الخطية للتاريخ  وعقلانية الحداثة والمؤسسية والمعرفة الكلية.وتفتقر اللغة الماورائية التي استخدمها المنظرون لمناقشة الوضع ما بعد الحداثي، واعتباره((انعطافاً)) عن الحداثة الى الرؤية التاريخية.ان مفكرين مثل كبلنر وبيست (1991) وجيمسون (1991)وكابلن (1988)وبن ابغير(1992) ومرتن(1994)،وبعض المنظرين النقديين،يميلون الى الاعتقاد ان ما بعد الحداثة هي تحول تسببت به الحداثة، لكن الحداثة بذاتها هي انعطاف عن القرن التاسع عشر الفكتوري، وفي نفس الوقت تجاوزاً للحداثة بذات المعنى الذي تعد فيه الحداثة تواصلاً لرأسمالية القرن التاسع عشر، ولكنها ايضا مختلفة عنها من ناحية الاستهلاك، ووقت الفراغ ،واللامحلية، والامريكانية، والصناعة ،ويدعم( بن ايغير )هذا المنظور ويقترح مصطلح (الرأسمالية السريعة) لوصف لحظة ما بعد الحداثية الراهنة،وهي لحظة يعتقد انها تقيم ((تواصلاً بين الحداثة وما بعد الحداثة )) وتنطوي على سمات مختلفة في نفس الوقت، ويرى ان (( الرأسمالية السريعة )) تسرع من ((معدل توالي المفاهيم والتصورات التي تضفي الغموض على الواقع الذي ترتبط به بعلاقة تمثيل… الرأسمالية السريعة تؤدي الى تراجع ((معدل الذكاء)) ،وبالتالي تحد من ميل معدل المنفعة الى التراجع.
   بدون شك ، ان ما بعد الحداثة تضع الادعاءات التقليدية المختلفة في تفسير الحقيقة والقيم الإنسانية الأساسية في موضع التشكيك … وهي لا تقتنع في ان الحقيقة الإنسانية هي تمثيل موضوعي للواقع.بدلاً من ذلك، فأنها تدعي بأن الحقيقة تتشكل اجتماعياً ولغوياً. ان الابتعاد عن الأيمان بعالم موضوعي وإنكار شرعية ((المعرفة الشاملة)) والنظام الكلي للتفكير و((السرديات الشاملة)) و هجوم دريدا على ((الدلالات المتسامية)) كلها عوامل أدت الى استنتاج مفاده عدم وجود معطيات خالصة وان المعرفة تمثل السلطة كما ان مجموعة الرؤى التي نتجت عن التطورات التكنولوجية والأعلام الالكتروني بعد الحرب العالمية الثانية قوضت الاعتقاد التقليدي بوجود حقيقة موضوعية. بالنتيجة استبدلت الحقيقة بـ((ما فوق الحقيقة)) كما يرى بودريلارد.
 ومن اجل متابعة ((فقدان المعنى)) وافترض اختفاء الحقيقة الاستدلالية والطرق التقليدية في صياغة المعنى،وهي جميعها أشياء ينطوي عليها مفهوم (ما بعد الحداثة)،فأننا بحاجة  للتعامل مع الاتجاهات الأكثر أهمية في تطور النظرية ما بعد البنيوية الفرنسية.فاذا ما كان(( جيمسون )) يعتبر ما بعد الحداثة أمريكية المنشأ، فان ما بعد البنيوية- المصدر النظري والفلسفي لما بعد الحداثة –هي فرنسية بدون شك.
   لقد أدى تتابع الأحداث الصعبة في فرنسا  عام 1968 الى ظهور النظريات ما بعد البنيوية لنقض الفلسفات والنظريات الاجتماعية البنيوية والماركسية التي كانت سائدة.وبالتالي  بدأت حقبة ((ما بعد حداثية)) جديدة في السبعينات والثمانينيات . وكما هو شأن  ما بعد الحداثة، فان ما بعد البنيوية تؤكد على فكرة ((الانقطاع))) الجذري في التاريخ وعلى الاعتقاد النيتشوي في ان كل ظاهرة ثقافية هي ظاهرة اجتماعية. وتدين النظرية ما بعد البنيوية في تشكلها الى أعمال(( جاك دريدا،ورونالد بارت، وجان فرانسو ليوتارد، وميشيل فوكو،وجاك لاكان ، وديلوز ، وغوتاري ، وجولياكريسيفا)) – وهي جميعاً أسماء لازالت تهيمن على المسرح الثقافي في فرنسا وأمريكا.
  وبدون شك، ان كشف ما بعد البنيوية ودعمها لتطلع البنيوية نحو العلمية يمثل الأساس النظري للمشهد ما بعد الحداثي المعاصر. لقد أصرت ما بعد البنيوية دائماً على استحالة بناء المعنى من خلال مهاجمة البنى المغلقة للتضادات الثنائية للبنيوية . وتعتبر مقالة دريدا ((البنية ،الدلالة، الأسلوب، في خطاب العلوم الإنسانية)) عام 1966 ، والتي يعارض-كي لا نقول يفكك- فيها التقليد البنيوي الفرنسي باعتباره امتداد للفلسفة الغربية،المقالة التشكيلية الأولى لما بعد البنيوية، يكتب دريدا (( رغم ان البنية أو بنيوية البنية-هي في موضع التناول دائما، فأنها قد تعرضت  على الدوام إلى التحييد أو التحديد، وان ذلك يحدث من خلال عملية إعطاءها سمة مركزية أو ربطها بنقطة وجود، وأصل ثابت، وظيفة هذا المركز… كانت ضمان ان المبدأ المنظم للبنية ، سوف يضيق نطاق ما يمكن ان يسمى بأسلوب البنية.. وحتى  اليوم تفتقر فكرة البنية الى أي مركز يمثل ما لايمكن التفكير فيه.مع ذلك، فان المركز يغلق الأسلوب الحر الذي يفتحه ويجعله ممكناً)).  بذلك فان المركز في داخل وخارج البنية.وبالتالي فان ((المركز لا يكون عندها مركزاً))،انه يسيطر على البنية/الكلية ويعطيها معنى ،لكنه بذاته بعيد عن لعبة المعاني.
   ان المركز  يكون في داخل البنية لانه يحكمها ، وفي خارج البنية لانه يهرب من البنيوية ،وهذا الإصرار على امتلاك ((مركز)) أو ((قاعدة أساسية)) يتم بناءه بوضع خاطئ على شكل ((لا حركية جذرية)) حقيقة ثابتة، و((يقين يعاد تأكيده)) يتجاوز الأسلوب الحر للبنية. وهذا ما يدعوه دريدا (( مركزية اللغة))،و التاريخ الغربي للبنية ،قبل التفكيك، هو تاريخ (( استبدال مركز بأخر … حيث يحصل المركز على أشكال ومسميات مختلفة)). وبالتالي فان مركزية اللغة تفترض اختلافا/ فجوة بين السطح/المظهر الذي لا يمثل الحقيقة،اما المدخل؟ الحقيقة المولدة فهي تكمن  خلف المركز، لكن اذا كنا نحاول ، كما يقول دريدا، ان ندرك البنية كشيء بلا مركز (ماهية،وجود، جوهر،ذات، المتسامية ، الوعي،الله، الإنسان،…) سيكون بامكاننا ان نفهم بأنه مفتوح دائماً امام التفسير بدون نهاية ،بدون حسم، بدون شمولية،حيث لا يكون بالامكان ابداً الوصول الى الحقيقة. بدلاً من ذلك تظل البنية مشاركة في لعبة ((الاختلافات)) التي تجعل حضورها التام((مؤجلاً)). ان الدلالة المتسامية لاتكون موجودة ابداً خارج نظام الاختلافات،ولذلك فان ((غياب الدلالة المتسامية يوسع نطاق لعبة الاستدلال الى ما لانهاية)).
(( في غياب المركز.. يصبح كل شيء مجرد خطاب))،لذا فان ((الدلالة المتسامية )) تختفي ويصبح كل شيء موجوداً في نظام ((الاختلافات)). ويسمى دريدا الفلاسفة الغربيين الذين حاولوا الهروب من المأزق البنيوي. وهو يذكر تحديداً أسماء نيتشة وهيدجر وفرويد الذين ترث ((خطاباتهم التفكيكية)) في أي حال مفاهيم الفلسفة  الميتافيزيقية الغربية. ويضيف ((ليس هناك معنى في العمل بدون مفاهيم الميتافيزيقيا من اجل هز الميتافيزيقا)). وهذا يعني ان الفلاسفة الغربيين هم دائما داخل طوق المركزية اللغوية على الرغم من أنهم خارجها والشيء الوحيد الذي يمكن فعله هو التفكيك .لا احد يستطيع ان يرفض كلمة ((دلالة)) في محاولته مهاجمة (( ميتافيزيقيات الوجود)) لانه يلقي الدعم من خلال مفهوم ((الدلالة)) نفسه. ولكن في أي حال ، ينبغي علينا ان نرفض ((الدلالة المتسامية)). ونتعامل مع الحيز غير المحدود او ((تداخل الاستدلال)).
   وفي الوقت الذي يقدم(( فردينان دي سوسير))  الدلالة على المستدل ،فان دريدا يعطي الأولوية للمستدل على الدلالة. وبالتالي فان الكتابة ،كما يرى دريدا، تحتوي على المستدلين فقط، لذلك فان الكتابة لا تتضمن كما يرى دريدا سولا المستدلين، ومعنى المعنى هو أشارة إلى مستدل المستدل،وهذا الإنتاج الديناميكي للاستدلال اسماه دريدا في أطار أخر بـ(( الانتشار ومن المثير للاهتمام، ان هذا المنهج (مثل التفكيك) فسر واستخدام في النقد الأدبي في مدرسة (بال الأمريكية). والنص المفكك هو ذلك النص الذي لا يحتوي على معنى محدد، بل ان المعنى النصي يدفع عن عمد الى أدنى حدوده الى الحد الذي يدعي فيه انه يوضح ما يفشل النص نفسه في توضيحه،كل شي هو لغة، وبالتالي فان ((الحياة الحقيقية)) هي نص بذاتها، ويمكن تفكيكها. ولانه لم يعد هناك معنى ثابت، فقد أصيبت كل أنواع السلطوية الابستمولوجية والسياسية و الأخلاقية بالعنف،ان لم نقل التفكيك.
 ومن اجل ان نبتعد عن مركزية اللغة، علينا ان نعيد التفكير بمفاهيمها المؤسسة بطريقة تفكك المفهوم المركزي للوجود. وطالما نثبت ان الوجود ((كتمثيل استكمالي)) لا يمثل شيء، فأننا نقتنع عندها بأنه لم يعد هناك أي مركز أبدا. ومن هنا يلغي دريدا مراكز كل الأفكار عن الوجود الأصلي، ((يفكك)) المفهوم التقليدي للاستدلال. ان المستدل هو استعارة عن استدلال لا يمكنه ابداً ان يفر من اللغة.
 وعندما يصبح- المستدل- مستدل يشير الى مستدلين آخرين، وبكلمات أخرى،وبكلمات أخرى،  ليست هناك دلالة خارج اللغة أطلاقاً. ويفند ((فولو شينكوف )) ما بعد البنيوية التفكيكية في المجال الاجتماعي.
(( ان الوجود يتجسد في دلالة ليست منعكسة فقط بل ومنكسرة، كيف يتحدد انكسار الوجود في الدلالة الأيديولوجية؟ من خلال تقاطع مصالح اجتماعية موجهه بطرق مختلفة في أطار نفس الدلالة الاجتماعية ، مثلاً عن طريق الصراع الطبقي.. وبالتالي فان الطبقات المختلفة ستستخدم نفس اللغة، وبالنتيجة،فان اللهجات المختلفة تتشابك في كل دلالة أيديولوجية . وتصبح الدلالة مجال للصراع الطبقي.
 يقول (زافازاديه وموتون )) ان  نقد دريدا لمركزية اللغة ، لا ينسجم فقط بعدم الاكتمال لكنه في الحقيقة يتواطأ مع الأيديولوجية الحاكمة من حيث انه يعنى أساسا ((بالرعية الاداراكية بالهوية)). ويمضيان الى أكثر من ذلك حينما يجادلان في ان دريدا ( ينكر اغتراب الحقيقة)).
 أي انه في المجتمعات المبنية على الطبقية هناك دائما مسافة تفصل بين ((المظهر أو الحقيقة،بين الكائن تجريبياً والكائن بنيوياً. ان فهم دريدا للفجوة بين الحقيقي والمظهر باعتبارها فجوة تاريخية وقناعته بان كل المحاولات القائمة على مركزية اللغة لردم هذه الفجوة أدت الى شمولية  اعتبرها ( مورتن وزافازاديه) فراغ العامل المغترب،وهو فراغ ملأه بالأيديولوجية (ان وظيفة الأيديولوجية هي ملأ هذه الفجوة بحيث ((يدرك العالم الموجود تجريبياً باعتباره العالم الممكن الوحيد)). وكل محاولة لملأ، أو تحليل هذه الفجوة توضح أساس النظام الاجتماعي في المجتمعات الرأسمالية. ويرى( مورتن وزافازاديه)  ان الأيديولوجية ليست مجرد رغبة بالهوية ترتكز على اللغة كما يقول دريدا، بل هي تطبيق مادي منتظم يبرر العملية التي تخفي كيفية انتزاع فائض العمل من البروليتاريا. أنها حقيقة اجتماعية-اقتصادية ،لا يبدو أنها جذبت اهتمام دريدا، لذا فقد اختفى النقد الاجتماعي- الاقتصادي من خطابه .
    كما اننا دائماً نكون في داخل ما نرغب ان ننقده. وحتى دريدا يقع في نفس المأزق في الطريقة التي يجعل بها ((تاريخ الفلسفة الميتافيزيقية الغربية )) منسجماً مع ((المركزية اللغوية))). وإذا ما أردنا صياغة المسألة بشكل مختلف، هل ان تفكيك دريدا لهذا التاريخ يبرز منطقه؟ وهل ان هذا التفكيك لا يفكك ((الدلالة المتسامية)) الجديدة، كالكتابة مثلاً؟ ان رفضه لمفهوم مركزية اللغة باعتبارها ((صوت)) او تعبير عن المعنى الإنساني الفكري،يقوده الى الإصرار  على ان طبيعة الحقيقة تتجسد  بوضوح اكبر في ((الكتابة)) أكثر من ((الخطاب)) . الكتابة في التاريخ، هي أوسع من الفكرة الغربية عن الكتابة، تأتي قبل الخطاب. والكتابة غير متطابقة مع الأصوات، لكنها ترتبط بكل أنواع النقش ،وهي أي شيء يمكن فن الدلالات التي تتجاوز الخطاب المباشر ولايمكن وضع معنى حاسم لها،… وهناك دائماً لعبة اختلافات ومعاني  وقيم ومستدلين لاتقدم الحقيقة، بكلمات أخرى، فان للكتابة فعالية مزدوجة ، ان ((تختلف)) يعني ان تمتلك معان مختلفة، وان ((تؤجل))، يعني ان تمتلك سلسلة لا متناهية من الدلالات التي لا تودي الى دلالة أصلية. ومع ذلك، فان مفهوم الاختلاف الذي يحدده دريدا من النص هو مفهوم تاريخي وسياسي بمعنى انه يعتمد على ((الفائدة)) اللغوية ضمن الأنظمة التاريخية للتمثيل.
    في أي حال يعتقد دريدا ان نقش المعنى في أشارات ، أي في الكتابة، يمنح استقلالها من  تأثير الكاتب ، وهو ما يشبه مقولة (بارت) عن ((موت الكاتب))، ويعني ذلك، انه يقدم إمكانيات مختلفة للتفسيرات من تلك المقصودة أصلا. لذا لا توجد هناك ((حقيقة)) ثابتة واحدة. والحقيقة ليست سوى تلاعب مستدلين، تعداد استدلالي يفوض وهم الدلالة الموضوعية الأولية، وينبغي ان نستدل من النص على ان دلالات ثابتة خارج النص :((ليس هناك شيء خارج النص ))،(( قراءتنا يجب ان تبقى في أطار النص)) وفي أطار نصية الحقيقة ،يبرز السؤال التالي: هل هناك أمكانية ان يقوم احد بالعب السياسي و يغير الأشياء بشكل جذري؟ بالطبع الجواب سلبي. وليس هناك ((رؤية خارج النص يمكن من خلالها صياغة النقد لحقيقة قائمة)).
   ان الحقيقة الاجتماعية- الاقتصادية ((عرضة)) للتغير الجذري، لانها حقيقة نصية ولانه ((لا يوجد شيء خارج النص)).هل يمكننا ان نقرأ دريدا بدون ان ننسبه للفلسفة الغربية، او المركزية اللغوية كـ((دلالة)؟. وإذا لم يكن علينا ان نتعامل مع مقاصد الكاتب، لماذا يتعامل دريدا نفسه مع روسو وشتراوس وأفلاطون وكأنه يعرف مقاصدهم؟ واذا كنا نتنازل عن التاريخ ،لايعني ذلك ان نترك بنص يعاد تشكيكه عن طريق استخدام نفس  قوانين لغة النص ذاتها.. الا يعني أننا نستخدم البنيوية القائمة على مركزية  اللغة مجدداً؟ الم يؤدي إلغاء دريدا للمركز الى أقامة (( أرضية أساسية)) تستبعد المقاصد الاجتماعية والتاريخية ومقاصد الكاتب؟.
   رغم هجوم دريدا على ((المركزية اللغوية)) باعتبارها تعكس تاريخ الفلسفة الغربية، يبدو ان كتاباته تشترك في المركزية الأوربية. وكما يتساءل ((ادوار سعيد في ((العالم،النص، الناقد)). ما الذي يجعل هذا النظام ((المركزية اللغوية) غربياً؟ ان المنهج الشامل  لكتابات دريدا يتركنا مع انطباع مفاده أننا نتعامل مع ((بنية تجانسية)) مركزية اللغة، تصبح معياراً يقول: ان الفلسفة الغربية كلها ميتافيزيقية، ثابتة، أحادية،شاملة ، مهيمنة، وتتحرك باتجاه تفسيرها النهائي: وهذا يعني، التفكيك وإظهار للأهمية المجهولة للكتابة . وتتحرك باتجاه تفسيرها النهائي.
   بذلك فان الفكر الغربي قد تحرر من خلال تفكيك متواصل (مركزه)) دريدا الذي لا يخضع لأي ((لعبة تفسير)) كما يتبدى لنا من أفكار أتباع
دريدا الأمريكيين ،مع ذلك من المهم جداً ان نلاحظ ان دريدا نفسه يدرك عدم قدرته على الهروب من مركزية اللغة، ويرى جيمسون ان ما يسمى بالطرح النظري ضد التفسيري-وبضمنه تفكيكية دريدا-يقدم ،على العكس مما يريد،برنامجاً تفسيرياً جديداً خاصاً من خلال استبدال السؤال ((ما لذي يعنيه ذلك؟ بالسؤال ((كيف يعمل ذلك؟ كما ان جيمسون يجادل في ان التفكيكية تتبع بدون دراية قضايا ((ميتافيزيقية )) وما فوق بنيوية بدلاً من حصر قضاياها في الرأسمالية الصناعية والاستهلاكية.
    ان منهج دريدا، كما لاحظ ادوارد سعيد، هو انتقائي جدا، بمعنى انه يختار عصر  روسو  بدلاً  من أي عصر أخر، وبمعنى ان نظرية روسو في اللغة ليست هي النظرية الوحيدة الموجودة، ويثبت سعيد ان الكثير من الروائيين كشفوا في سردياتهم ما يهتم به دريدا في الفلسفة،أي مساءلة فكرة التفسير الأصلي. وهنا فان الكثير من السر ديات الغربية هي ضد مركزية اللغة، لذا فان دريدا لا يتجاوز فقط على الأفكار التي وقعت ضد مركزية اللغة في الفلسفة الغربية فقط، بل ويتجاوز هذه الأفكار في الثقافات الإنسانية الأخرى أيضا. ويذهب (جون دوكير ) ابعد من ذلك في  اتهام دريدا بأنه يطمس التاريخ الثقافي الأخر.. وخلافاً لدريدا فان فهم (باكبتن)للتاريخ الثقافي منفتح على التواريخ الثقافية الأخرى. ويتبنى دوكير اتهام كورنيل وبست لدريدا بالقول انه يضع مشروعه ضمن ((الأطر المركزية الأوربية والو لاءات الحداثية، معتبراً التمزيقية والانتهاكية أوربية فقط، في نيتشة وهدجير وما لارن وارو)).
   ما يؤدي اليه التفكيك عند تطبيقه هو اختزال عدمي للمعنى يجعله ((لامعنى)) كي لا نقول هراء ..كما ان المحاولة للابتعاد عن كل النظريات الشمولية السابقة يفترض فيها ان تقودنا الى اتجاهات متعارضة ومتحررة من قيود التضادات الثنائية ،أي متحررة من الديالكتيكيات من اجل فك التضادات. وهنا تطرح (ان كابلان) سؤلاً مهماً(((اذا كان التخلي عن الثنائيات يجعل من الضروري التخلي عن الدياليكتيكيات،كيف سيكون بامكاننا ان نتخيل حياة فكرية ونفسية واجتماعية وثقافية تتقدم الى الأمام، وتجدد نفسها، أي نافذة لذاتها وهادفة)).
   ان أفكار دريدا وما بعد البنيوية هي تخمين يطال اللغة والنصية،وليس للقرينة صلة بالمعاني المتعددة ونصية النص، والتفسير لا يستطيع ابداً ان يصل الى فهم نهائي للنص و لا الى أبعاده المدركة المشتركة.. وفي أي حال، ان مفهوم ادوارد سعيد عن ((الدنيوية)) ينازع مفهوم دريدا عن النصية من خلال الافتراض اننا لسنا بحاجة الى ان نقدم دراسة جدية لمعنى السلطة سواء فيما يخص الاستدلال عن طريقة التي تتحقق فيها السلطة تاريخياً وظرفياً من الدولة الى المجتمع مشبعة بالسلطة او بالعلاقة مع العمل الفعلي للثقافة ودور المفكرين والمؤسسات.
   ان التطابق بين دريدا وما بعد البنيوية لا ينطوي على مفاجأة لأنه يعد اول من يشن هجوماً تفكيكياً ضد البنيوية ويؤكد الاختلافات حول الوحدات والكليات ومع أفكار فوكو عن الصلة الوثيقة بين المعرفة والسلطة ،وإعلان بارت عن موت الكاتب  وآراءه عن فكرة التعددية، وفكرة لاكان عن ان الذاتية مرتبطة برمزية اللغة وعن بناء اللاوعي ،شهدت الستينيات موت الذات والفعل مع ظهور ما بعد البنيوية في فرنسا.
  وبموازنة ما بعد البنيوية كظاهرة فرنسية / أوربية أخذت بالظهور في الستينات وازدهرت في الثمانينيات ،يدعي البعض ان ما بعد الحداثة كاتجاه أمريكي ظهرت لمواجهة أرثوذكسية الحداثة. ومن اللافت بالتالي ان ((ظهور فلسفة محدودة الوضوح جداً عن النصية الخالصة واللاتدخل النقدي ترافق مع هيمنة الريغانية، او لهذا السبب مع حرب باردة جديدة واتجاه عسكري متزايد ونفقات دفاعية متصاعدة، وتحول واسع نحو اليمين في مواضيع جديدة تتعلق بالاقتصاد والخدمات الاجتماعية والعمل المنظم)). وهذا ما يفسر لماذا يعد منظور  دريدا أساسا لكل  من مابعد البنيوية وما بعد الحداثة كظاهرة غربية تؤكد التنوع ، واللايقنية،والاختلاف، والأنماط الجديدة من التجربة الغربية، والتفكيك، والانعتاق من الماضي، والنسبية، واللاعقلانية، والعدمية، ونقد التمثيل، والتفكيك للذات البرجوازية  اجتماعياً ولغوياً.ويفسر (دوغلاس كلينير وستيفن بيست) ما بعد البنيوية ((كموضوع لعدد واسع من الاتجاهات النظرية والثقافية والاجتماعية التي تشكل الخطاب ما بعد الحداثي)).
 وبالتالي فهما يعتبران النظرية ما بعد الحداثة كـ((ظاهرة أكثر  شمولية)) تتبنى (( النقد ما بعد البنيوي للنظرية الحديثة وإنتاج نماذج جديدة للفكر)). باختصار ،فان ما بعد الحداثة هي تطبيق فني للنظريات الفلسفية ما بعد البنيوية.
 لقد بدأ دريدا هجومه الفلسفي التفكيكي/ما بعد البنيوي على البنيوية و (( مركزية اللغة)) في مؤتمر انعقد في جامعة أمريكية عام 1966. وتكمن أهمية هذا الحدث في تطور النظرية الأدبية التفكيكية في ما يعرف بجامعة مدرسة  (يال) التفكيكية، وفي التغيرات الكبيرة التي شهدها المسرح الثقافي الفرنسي والأمريكي. ومن الجدير بالملاحظة ،ان فكرة ((فقدان المعنى)) بدأت  خلال الستينيات ، وبالتحديد قبل عامين من حركة الطلاب والعمال. ولايعني ذلك ان ((المابعد)) برز فجأة،بل على العكس انه كان نتاج لتراكم أحداث اقتصادية وسياسية واجتماعية حصلت بعد الحرب العالمية الثانية. أحداث آذار عام 1968 التي تمثل معلماً في التاريخ الأوربي ضد السلطوية والرأسمالية ، وعلى الرغم من فشلها، فقد خلقت جيلاً جديداً هيمن على المسرح الفكري منذ الثمانينيات . ويعتقد (تيري ايغلتون ) ان (( ما بعد البنيوية كانت  نتيجة لامتزاج الشعور بالنشاط واللاوهم، والتحرر والانغماس في اللذات،المتعة بالكارثة ،وهو ما أدى الى أحداث 1968)). ان ما بعد البنيوية ، التي تفتقر الى الوعي التاريخي، والبرنامج السياسي الواضح، والنظرية الاجتماعية النقدية، ملأت الفراغ الناشئ  عن انسحاب أولئك الذين يفترض ان يقدموا البديل التاريخي للاحتكار السلطوي للنظام الرأسمالي. وبكلمات أخرى، فان فشل النسخة الستالينية من الماركسية  التي هيمنت على الأحزاب الشيوعية في الستينيات، في دعم حركة اذار او تقديم تحليل اجتماعي  واضح للوضع ، ترك الحقول الأيديولوجية والنظرية مفتوحة أمام بروز نظريات اللغة والخطاب وفقدان المعنى/ الحقيقة. ان السياسات الكبرى قد استسلمت للفشل، ولذا ظهرت السياسات الصغرى،السلطة واللامركزية ، التفكيك ، المحلية، والأكثر أهمية اختفاء ((المعرفة الشاملة)) والمفهوم المشترك.
 لذا كانت بداية (( نهاية التاريخ)) والأيديولوجية والماركسية مرافقة لظهور مثل هذه المفاهيم . ولانه لم يعد هناك معنى ثابت / حقيقة/ دلالة متسامية، ولان ((الكاتب-والسلطة)) قد ماتا، ولان ((الحقيقة)) مصنوعة من لغة انسيابية،فان من المقدر لنا ان نعيش حياة فوضوية ليس لها (( أساس جذري))، وبعبارة أخرى، اننا معلقون في (( سجن اللغة)) كما يقول جيمسون. اما استنتاج ((ايغلتون )) فهو حاسم:
 ((أفكار لا يقينية المعنى، وان ((الجانب الأكثر بروزاً لاي قطعة لغوية.. لا يعرف  عن ماذا يتحدث.. يحررك  مرة واحدة من امتلاك موقف محدد تجاه القضايا المهمة)) لأي  أي شيء نقوله يعد (( نتيجة عابرة للمستدل)). وترى (برباره فولي) ان تأكيد التفكيكية على ((لاامكانية التحديد)) ورغبتها بـ((السيادة)) و ((الشمولية)) و الأكثر أهمية- أحجامها ،كي لا نقول عجزها،عن تحديد بديل فعلي للممارسات الاجتماعية –السياسية السائدة والقائمة على المركزية اللغوية الغربية، ادى الى  تسميته بـ((الإفلاس السياسي للتفكيكية)). بالإضافة الى ذلك،لأن ((الحياة هي بذاتها نص)) فليس اختلاف بين القصة والحياة ،اننا دائما نعيش عملية قراءة  لانهاية لها سواء كنا نشاهد/ نقرأ مذبحة في بلد من بلدات((العالم الثالث))، او مباراة لكره السلة، كلاهما ((نص)) بدون معنى ثابت.لماذا علينا ان نتخذ موقفاً أخلاقياً لان ما نحياه سيكون تاريخاً، وهو تاريخ ستعاد كتابته من قبل ((الكتاب))       ( يربط بين لفظ الكاتب  ولفظ السلطة ) الذين هم ميتون اصلاً، انه تاريخ لايمكن ان يفسر ابداً او بشكل موضوعي، وتاريخ مؤلف من لغة غير ثابته؟ لماذا علينا ان نتخذ موقفاً سياسياً اذا كنا لا نمتلك سوى خطاب نظري متمثل في ((نص))؟ وهو ما يدعوه (هابرماس) في نطاق مختلف بـ(( أزمة الشرعية)).
 ومن الأمور الأساسية في هذه الفرضية ماطرحه( فردريك جيمسون )عن (( دورية الستينات)) الذي يمثل متابعة تاريخية للظرف الاجتماعي والتاريخي والفلسفي والاقتصادي ما بعد الحداثي الناتج عن التطورات في الستينات للرأسمالية المتأخرة الاستهلاكية. ومن المثير للاهتمام ، ان((جيمسون) يلاحظ ظهور ((نظرية)) توازي وترافق نحطاط المصطلح القديم للفلسفة خلال الستينات- والستينات هي الفترة التي شهدت (( تحول المناهج البنيوية الى أيديولوجيات من المواقف البنيوية والابستمولوجية)). ويعني ذلك ان ما بعد البنيوية كـ(( نظرية)) ترتبط مع الإلغاء التدريجي للوظيفة السياسية الكلاسيكية للفيلسوف.. التي قد تصل  الى موت الذات .. الانا الفردية او الشخصية.. الذات الفلسفية المتفوقة..
    وبالتالي فان (( النظرية غير مشاركة في قضايا (( الفلسفة الكلاسيكية )) بعد الان . ويكتب جيمسون ان (( الفلسفة تصبح نظرية ظرفية بشكل راديكالي… نظرية يمكن التخلص منها .. بدلاً من كونها طموح للتعبير عن افتراض، وموقف، ونظام ذا قيم أكثر ارتباطاً بالحقيقة)).
   لذا فان ظهور الفكرة الضدية القائلة بان الحياة (( هي ذاتها نص)) ، ونص يمكن تفسيره من خلال صلته بنصوص أخرى. وفي هذا الإطار، يجادل (جيمسون ) بالقول، انه طالما كانت وظيفية النظرية هي كفاح من اجل الوصول الى صياغات لغوية أكثر نقاءاً ، ومحاولة لصياغة افتراضات لفظية (لغة مادية) بطريقة تجعلها غير قادرة على احتواء نتائج غير مرغوبة أو أيديولوجية – وهو هدف غير الممكن تحقيقه- لذا جاء  ( العنف والعودة المفرطة الى النقد الأيديولوجي في الشكل الجديد لمليشيا الحرب الأبدية بين المستدلين الماديين للصياغات النصية )).
     اذن ، ماهي ما بعد الحداثة؟ اذا ما حاولنا تعريفها فسنفرض عليها تلقائياً معنى وهو ما ترفضه ما بعد الحداثة نفسها. والعدد الواسع من الحركات الأدبية والثقافية المعاصرة  التي تعرف نفسها بادراك ذاتي بالتعارض مع الحركات الحديثة تجعلها أكثر صعوبة. من الممكن لما بعد الحداثة ان تفهم نفسها بدون صلة بالحداثة، دورية جيمسون تربط بداية الحركة بالتحولات الراديكالية عند نهاية الخمسينات وبداية الستينات . ان نظريته عن ما بعد  الحداثة هي نظرية ديالكتيكية لا تتجاهل بعض العناصر التقدمية التي تنطوي عليها. ووفقاً لجيمسون فأنها تمثل(( إضفاء نهائي وتام للسلعية على الفن ، وفي المرحلة المتأخرة للرأسمالية ، وهذه الرأسمالية المتأخرة تشكل شيئاً  شديد الارتباط بالرأسمالية  في شكلها الأنقى. ويذهب (جيمسون ) ابعد من ذلك في ربط الدورية  الاقتصادية لمانديل بـ(( الدورية الثقافية)) الواقعية.الحداثة، وما بعد الحداثة تطابق المراحل التطورية للرأسمالية من رأسمالية السوق، إلى الاحتكارية، والإمبريالية، الى الرأسمالية الاستهلاكية متعددة الجنسيات بالإضافة الى ذلك، فان هذه المرحلة الأخيرة ترتبط بفقدان الحس التاريخي:
((تميزت السنوات القليلة الماضية برؤية معكوسة استبدلت فيها تحذيرات المستقبل..بإحساس بنهاية هذا الشيء أو ذاك (نهاية الأيديولوجية، والفن والطبقة الاجتماعية ).. وربما يشكل ذلك ما يدعى ( ما بعد الحداثة).
 وفيما يبدو نتيجة لتأثير  الجيل الأول لمدرسة فرانكفورت- ادورنو وهوركيمير – يكتب(( ما حدث فعلاً هو ان الإنتاج الفني يصبح اليوم مندمجاً بالإنتاج السلعي عموماً : الموجه الاقتصادية- المسعورة لإنتاج الموجات القوية للرواية المستقبلية التي تبدو كالسلع)). لذا فان ما بعد الحداثة هي ثقافة سلعة.
  ان تحليل ( ايرنست ما نديل) للاقتصاد السياسي بعد الحرب اظهر بدون شك نظرية (جيمسون) عن ما بعد الحداثة وجدد شرعية الماركسية باعتبارها أنموذج قادر على تحليل الفترة. انطلاقاً من التحليل الماركسي لدوائر الأعمال خلال عشر سنوات ، يطور (ما نديل) نظرية الدوائر الأوسع لثلاثين أو أربعين سنة. ومنذ القرن الثامن عشر تجددت هذه الدوائر –  التي يسمها (ما نديل) بالموجات-أربعة مرات مع القفزات في الإنتاج التكنولوجي الكومبيوتر والالكترونيات والأسلحة النووية والأعلام والاستهلاك والآلية والإدارة والبيروقراطية كلها مظاهر تميز الدائرة المتأخرة التي بدأت بعد الحرب العالمية الثانية. وقد تم أيضا  استنفاذ  آليات الدائرة المتأخرة كما يرى (جيمسون وما نديل) . ان الدوائر الأربعة مثلت إلى حد كبير رأسمالية السوق في القرنين الثامن والتاسع عشر. الإمبريالية والرأسمالية الاحتكارية  في القرنين التاسع عشر والعشرون ، والرأسمالية الاستهلاكية متعددة الجنسيات أواخر القرن العشرين.
  وقد تجدد تحليل ماركس للرأسمالية الكلاسيكية في ((رأس المال)) مع تجدد الرأسمالية و المرحلة الجديدة من الرأسمالية –الاستهلاكية والمتعددة الجنسية- جلبت الى سطح الصراع الاجتماعي قوى جديدة مثل النساء، الزنوج، الأقليات، الفتيات،البيئيين، حركات التحرر الوطني، وقد بدا ان كل ذلك يشكل تحدياً أيديولوجيا للماركسية الكلاسيكية. لقد تم تجاهل الجماهير المهمشة في المجتمع الرأسمالي بل وتم طردهم أيضا من صفوف الأحزاب (( الثورية)) التقليدية. هذا الكفاح ضد العنف والتمييز العنصري والعنصرية والاستقلال وعدم المساواة لم يحظَ بالدعم ابداً.وبالتالي كان الافتقار لبرنامج سياسي واضح وهيمنة الأيديولوجيات البرجوازية النسوية في حركات المهمشين خلال الستينات والسبعينيات .ان أي برنامج سياسي واعي يجب ان يكون مدركاً للحقيقة التاريخية القائلة  بان كل صراع أصيل ضد القمع الذي تقوم به الرأسمالية يقود الى ظهور أيديولوجيات مختلفة تحتوي عنصراً تقدميا،أي القتال من اجل المساواة  ضمن الرأسمالية ، والقتال من التنظيم الذاتي والاعتراف، والقتال لتحدي وتجاوز الإجحاف،بكلمات أخرى، ان الاعتراف بـ(( الاختلاف)) يعني توسيع نطاق وعي الشخص وبالتالي تحالفه. والقاعدة السياسية والأيديولوجية لجيمسون في هذا الصدد هي التوحيد، او التحالف مع، كل القوى الاجتماعية  المفككة و(المقاومة المحلية)) ويعتقد جيمسون ان الثمانينيات شهدت إضفاء الطابع البروليتاري لكل (( تلك القوى الاجتماعية غير المترابطة)). وفي دفاعه عن الربط الماركسي للثقافة مع السياسة والاقتصاد، يبدأ جيمسون هجوماً على (( كل تلك .. التعميمات السوسيولوجية الطموحة التي ،… تجلب لنا   أخبار وصول أو تدشين مجتمع من نوع جديد تماماً ،، او ما يعرف بـ(( المجتمع ما بعد الصناعي)). الذي يشبه نظريات ما بعد الحداثة، لذا ( فكل موقف  حول ثقافة ما بعد الحداثة.. هو بالضرورة موقف سياسي حول طبيعة الرأسمالية متعددة الجنسيات اليوم)). وفي الحقيقة. ان جيمسون ، في دورية الثقافية، لا يترك لنا أي مجال لاتهامه بـ(( الماهوية))( نظرية تقدم الماهية على الوجود) او الاختزالية الآلية او التجانسية . لكنه يؤكد انه يعالج ما بعد الحداثة(( ليس باعتبارها أنموذجاً)). بل كـ(( مهيمن ثقافي)) يسمح بتعايش (( سمات مختلفة لكن تابعة)). ما يفعله جيمسون هو استخراج (( منطق ثقافي)) لكل  حقبة تاريخية  تعكس (( معياراً تجانسياً)) يصبح (( مهيمناً ثقافياً)) في صلة بتلك  الحقبة وكانعكاس للحظة الاجتماعية- الاقتصادية. وبالتالي فان ما بعد الحداثة هي ((المنطق الثقافي للرأسمالية المتأخرة)).
 وبدلاً من مقاومة اللاعدالة الضمنية  والصريحة في العالم المعاصر، فان الثقافة والفلسفة ، شانها شأن الفن، يفترض ان يكونا ما بعد حداثيين، بل ويدعماها. هذا  يعني انه ((طالما يصبح الإنتاج الجمالي اليوم مندمجاً بالإنتاج السلعي عموماً، فان  الابتكار الجمالي يصبح  ضرورة اقتصادية))، وتمثل ما بعد الحداثة ، من خلال ذات المؤثر ، إضفاء تام وكامل للسلعية على الفن ، أنها ثقافة سلعة تحتوي على مجموعة من المصنعات السلعية او مجموعة  من النصوص. لذا فأنها طيعة للتجمع الرأسمالي المعاصر، انها اتجاه مصطنع لا يقدم اراءاً سياسية نقدية وذلك هو الذي يجعلها مختلفة عن الحداثة كما يرى (جيمسون). ان عملية إضفاء النمط السلطي لا تتضمن فقط موضوعات مصطنعة ، بل وأيضا إنسانية مثل (( النجوم .. التي هي بذاتها سلع)) لذلك فان الرأسمالية وسعت السلعية والإغواء لتشمل كل مجالات الحياة الاجتماعية، واحتلال كل مجالات المعرفة والإدراك وحتى اللاوعي. ومع اختفاء الفلسفة وظهور ((النظرية المعاصرة))، فأننا نميل للبحث عن المساعدة من الأخيرة لكنها بذاتها ظاهرة ما بعد حداثية تتخلى عن المعنى.
   ومن الجدير بالملاحظة ، ان الرأسمالية ما بعد الحداثية ليست متماسكة من خلال فصل الثقافة عن السوق، على العكس، فان الثقافة تصبح سلعة وأداة سياسية اقتصادية لذا، فلان مجتمعنا الإنساني لايمكن اداركه بدون ثقافة ،فانه يصبح غير قابل للفهم بدون سوق. بذلك فان ((الأيديولوجيات . بمعنى الرموز او الأنظمة المنطقية لم تعد محددا حتمياً .. لقد توقفت عن ان تكون فاعلة في إدامة  وإعادة أنتاج النظام )). ويضيف (اندريو ميليز)  لنظرية جيمسون ومانديل عن الرأسمالية المتأخرة  وما بعد الحداثة ما يسميه(العسكرانية المتزايدة)). ان التواطؤ بين الاقتصاد السياسي لما بعد الحرب وعسكرانية  ايضاً الى (( نطاق واسع من اقتصاد الحرب الدائمة)) عجل من (( نمط التراكم الرأسمالي  لما بعد الحرب)). الرمز المرئي لاقتصاد الأسلحة ما بعد الحداثية لم يعد هو الصاروخ  بل ((الانتشار المتكاثر) للحرب النووية. ليس مهماً ما مقدر قدرتها على الاستهلاك ،وبالتالي كان بروز العناصر الرئيوية في ما بعد الحداثة. لكن جيمسون لا ينسئ هذه العناصر كما يرى ميلز ، على العكس فان تعريفه لثقافة ما بعد  الحداثة هو بارز جداً في هذا الصدد:
(( ان هذه الثقافة ما بعد الحديثة التي تشمل العالم كله، رغم أنها أمريكية، هي تعبير داخلي وما فوق بنيوي عن الموجه الجديدة للعسكرية الأمريكية والهيمنة الاقتصادية في العالم:
بهذا المعنى ، وكما هو في التاريخ الطبقي ،فان الشيء غير المرغوب في الثقافة الدماء ، والقتل ، والإرهاب، والاضطهاد)).
 ان كثافة وغنى وتعقيد  أراء (( جيمسون)) أسهمت كثيراً في (( الجدال ما بعد الحداثي)) في الثمانيات والتسعينات . وتنوع مقالاته وكتبه يطبع السمات التشكيكية لما بعد الحداثة ويقدم بالتالي بديلاً ديالكتيكياً للرأسمالية المتأخرة سلبيا  وايجابياً، ومحاولته لخلق مشروع بديل، كلها عوامل أسهمت في تصعيد الجدال بدون شك. في كتابه        (( ما بعد الحداثة والمجتمع الاستهلاكي-1993)) وكتابه ( ما بعد الحداثة او المنطق الثقافي للرأسمالية المتأخرة-1991)) يسعى  لتغطية التحولات الثقافية التي طبقت الظاهرة، وتفتح بالتالي الباب واسعاً للمثقفين في اليسار الأمريكي لكي ينضوا الى المنظرين النقديين في مدرسة فرانكفورت في مقاومتهم لهيمنة النظريات ما بعد الحداثية. ولاختصار زبدة مقالاته البارزة- وهي مهمة قريبة الى المستحل- نحتاج الى ان نأخذ بالاعتبار مرونته في التعامل مع النظريات ما بعد الحديثة الأخرى: أي ان معالجة جيمسون لما بعد الحداثة ليس رفضاً كاملاً لما يدعي بعض النقاد. يتعامل منهج جيمسون وبديله مع مسألة كيفية أدراك مستوى الثقافة في علاقته بالمستويات المستقلة نسبياً ضمن الكلانية الاجتماعية. ووفقاً له فان ما بعد الحداثة اتسمت بالعمق الموجود في الصورة/ الصورة الزائفة وفي النظرية المعاصرة)). (( وبنوع جديد من الأساس العاطفي)) يحل محل الطرق الأولى فيما يخص الموضوعات ،وبالأهمية المتزايدة للتكنلوجيا الجديدة في صلتها بالنظام الاقتصادي العالمي الجديد ،وبروز ((فضاء)) ما بعد حداثي واسع ،وباختفاء الفاصل بين((الثقافة العليا)) و((الثقافة الشعبية)) وبظهور (( نظرية معاصرة)) وبروز الفعل الراديكالي ضد (( الأشكال القائمة من الحداثة المفرطة)) وبالغطاء السياسي للرأسمالية متعددة الجنسيات وبظهور المزيج من الفن، وبنهاية الاعتراف الفردي في ((موت الذات)).
  ان دعوة جيمسون لإعادة تشكيل ((الخارطة الأمريكية)) و(( اللاوعي السياسي)) يمكن اعتبارها كأساس لأي نظرية يفترض أنها تحليلاً دياليكتيكياً للظواهر الصغرى للحقيقية الاجتماعية والطريقة التي تتفاعل من خلالها لتكوين ظاهرة كبرى. ويعني هذا نظريته عن ما بعد الحداثة باعتبارها((المنطق الثقافي للرأسمالية المتأخرة)) وتحليله للظواهر الصغرى فلسفيا وسياسيا وأيديولوجيا في علاقتها بالظاهرة الكبرى.. كالرأسمالية المتأخرة، يقدم بديلاً راديكاليا لحدود ما بعد الحداثة.

مقالات اخري للكاتب

أخر الاخبار

كتابات الثقافية

عطر الكتب