منحت مفوضية الانتخابات المستقلة موافقتها لعدد من الاحزاب كي تمارس عملها على وفق القانون ويرجح ان تصل اجازات العمل الى اكثر من ثلاثمئة. وهي بادرة خير لبناء الحياة السياسية على اسس ومبادئ الشرعية القانونية، وان كانت هذه القضية بحاجة الى تقييم لجهة علاقة وبنية بعض الاحزاب الطائفية والمذهبية والعرقية، وما الى ذلك من اشتراطات قانون الاحزاب وفي مقدمتها الفروع العسكرية لبعضها.. وهذا على خلاف ما نص عليه قانون الاحزاب وبالتالي هناك ضرورة لتكيف هذه المسألة لاجل حياة حزبية سليمة وديمقراطية صحيحة. ان اولى الملاحظات على هذه الفورة بتشكيل الاحزاب ان العدد الذي طلب اجازة العمل والتأسيس كبير جداً وتتشابه برامجه واهدافه ولا يتواءم مع الحياة السياسية المألوفة في بقية البلدان. مثل هذا النشاط السياسي والتنظيمي لتأطير الناس جرى في بلدان كثيرة خرجت من الدكتاتورية، ولكن ليس بهذه السعة غير المحسوبة.. مما يفتت القوى ويشظيها. صحيح ان من حق اية مجموعة تنظيم نفسها في اطار القانون، غير انه بهذه الطريقة لا جدوى ولا فعالية منها مؤثرة في الحياة السياسية، بل انها تخدم الاحزاب الكبيرة والماسكة بزمام السلطة، وهذا ما تعمل عليه وتشجعه، وتوعز لمنتسبيها القيام به. وفي الافق المنظور لا يمكن لهذه الاحزاب ان تتحول الى احزاب ذات كتل نيابية يعتد بها في صناعة القرار او ذات ثقل ووزن مؤثر في تشريع القوانين والاسهام في بناء الدولة، بل انها ستكون عامل كابح وعرضة للمساومات ليس الا.
ان القوى السياسية تدرك ذلك وتلمسه وبدأت تعاني من حالة الانفلاش هذه وتشجع على الانشقاقات في داخلها، على الرغم من ضعف الانتساب العددي اليها جميعاً والعزوف عن المشاركة في الشأن العام والامر من ذلك ان هذه القوى المبعثرة تبرر تكوينها بانها الاحق بتمثيل الشعب العراقي الا انها في الواقع العملي مجرد اسم ومكتب لا يزار ولا يرتجى منه شيئاً. طبعاً الديمقراطية لا تفرض قيوداً محددة على التأسيس الا بتوافق القوى الحية في المجتمع، والتي تركت الامر على عواهنه خشية ان توسم بالتضييق على الديمقراطية والحد منها، الى جانب فائدتها من الحالة الراهنة، وتسخير هذه التشكيلات لاهدافها في الحفاظ على السلطة. في الواقع ان ظروف البلاد من الفوضى وعدم القدرة على ضبط الامن والاستقرار السياسي شجعت على اوضاع التأسيس بهذه الصورة، كما ان النظام اللامركزي الذي اعتمد لادارة البلاد يشجع على ذلك ايضاً، فهو يعتمد على الوحدات الادارية الجغرافية الصغيرة (المحافظات) وكل وحدة يمكن ان تؤسس فيها احزاب منفصلة عما موجود في المحافظات الاخرى، وتستطيع ان ترسل نوابها الى البرلمان الاتحادي، ولا يشترط عليها التحالف فيما بينها لتشكيل كتل كبيرة، فيمكن لشيخ عشيرة او وجه اجتماعي ان يعتمد في وصوله الى مجلس النواب على اصوات رقعة جغرافية اصغر بالدرجة الاساس كي يصل الى البرلمان، وحتى التحالفات بين الاحزاب تبرم بشكل رئيس للوصول الى العتبة الانتخابية. ان هذا التعصب للجهوية والمحلية واعتماد نظام انتخابي يخدم هذا الاتجاه لا يبني دولة مدنية ولا يفسح في المجال لبناء حياة سياسية بادوات وبرامج وطنية تشمل كل البلاد، وانما تبقى في المساحة الضيقة التي هي فيها. ومن هنا فان تطبيق قانون الاحزاب بحذافيره كخطوة اولى في غاية الاهمية لافراز نائب يمثل كل الشعب وليس جزءاً منه، كما انه العنصر الاهم في الطموح نحو الاصلاح السياسي.
ان هذه الظاهرة التي تسم الحياة السياسية يفهم منها الجميع انه لا مناص للخلاص منها الا بالتغيير والاصلاح، غير ان البعض يناور ويحاول ان يسوف ويفعل كل ما من شأنه ان يبقيه اطول فترة ممكنة لتحقيق اغراضه واهدافه، فنراه يحاول ركوب الموجة بالتغييرات الشكلية مبتدئاً بالاسماء من دون تغيير الجوهر والبنية الداخلية التنظيمية والفكرية، متصوراً ان ذلك يمكن ان يمرر مراميه ويخدع الناس الذين باتوا مطلعين على التجارب العالمية ويميزون بين الاصلاح الجذري والترقيع ولا تهمهم التسميات فهم يسمعون ويلمسون افعالاً ويلاحظون نشاطات احزاب في بلدان اخرى تتخذ اسماء تختلف كليا مع محتوى وجوهر اعمالها وما تقدمه الى الناس حتى ان بعضها يتخذ تسميات دينية او اشتراكية وهي لا تحقق هذا ولا تلك وفي حالة انفصال مع الشكل تماماً. اكثر من ذلك في هذا الصدد ان البعض لجأ الى دفع رموز شبابية للواجهة لكسب الشارع وايهامه انه هو متجدد والتغيير ممكن بوجود قياداته التاريخية.