شيء من مقالتنا السابقة
في سلسلة مقالتنا الثالثة عن أحداث أيلول/1970، والمنشورة بهذا الموقع الحبيب على قلوبنا يوم (3/11/2020)، تطرّقنا إلى مُجرَيات إختطاف “الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين” لأربع طائرات وإرغام ثلاث منها على الهبوط وسط صحراء “خَو” الأردنية بالقرب من المُخَيَّمات الوقتية لوحدات جحفل لوائنا المدرع/6 العراقي، وها نحن بصدد إقدام الجبهة تلك على تفجيرها.
والمُثير الأعظم في كل ذلك، أننا -نحن ضباط هذا اللواء- رغم مُتاخَمتنا لمهبط الطائرات المختَطَفة وتعايُشِنا مع أحداثها، لم نستلم أية أوامر كتابية أو توجيهات أو إيضاحات شفاهية من أي أحد سوى ما تحدّث به قائد فرقتنا المدرعة/3 أثناء زيارته لمعسكرنا الوقتي يوم 7/أيلول/1970، لذلك كُنّا قلقين لإنعدام دِرايَتِنا عَمّا سنفعله إن وقع أيٌّ من التوقّعات والإحتمالات السيِّئة البائِنة في الأفق، وكيف سنتصرّف أزاءها!!!!
المعضلة تقترب من نهايتها
لم تَأْبَه “واشنطن ولندن” بموضوعة طلب الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين بإطلاق سراح المعتقلين أو المساجين الفلسطينيين، حتى جاءت “غولدا مائير” في خطابها المُتَلفَز يوم 8/أيلول لتُطفئ بصيصَ الأمل الذي تَعَلّقَت به قادة هذه الجبهة، ليمسي “جورج حَبَش” والناطق بإسمه “بسام أبو شريف” وكذلك السيد “ياسر عرفات” رئيس منظمة التحرير الفلسطينية، يتحدثون على أعصابهم إلى جانب إصرارهم على عدم التراجع عن موضوعة إطلاق سراح جميع ركاب الطائرات حسب شروط الجبهة، في حين إضطَرّ “حَبَش” لتمديد ثالث عن موعد تفجير الطائرات من دون أن يُعلِنه، حتى أقدَمَت الجبهة الشعبية على إنهاء هذه المعضلة يوم (السبت- 11/أيلول) وقتما نقلت معظم المُرتَهَنين الـ(310) تحت حراسة مشددة إلى “عَمّان” وسلّمتهم بين لمنظمات إنسانية دولية، ولكنها إحتفظت بـ(56) مُرتَهَناً، (50) منهم إسرائيليّون أو يهود، والسِتّة الآخرون أمريكيون ذوو درجات ومناصب رفيعة لدى دوائر الولايات المتحدة الأمريكية أو خارجَها، وفرّقتهُم جميعاً على شكل مجموعات وخبّأتهم وسط مخيّمات يسكنها لاجئون فلسطينيون في ضواحي العاصمة الأردنية.
وستتوالى أحداث عظام أكثر تراجيديّة من بعد هذا بحيث لا يتسنّى لي متابعة هذا الموضوع في الأيام القليلة التالية، والتي سنأتي على تفاصيلها بمقالة طويلة أخرى، بعون الله تعالى.
ما في داخلي نحو تفجير الطائرات
بإنتقال المُرتَهَنين إلى “عمان” أضحت الطائرات الثلاث الجاثمات على أرض “مطار الثورة” خالِية بمفردها ومُحاطة بالعشرات من مسلّحي الجبهة الشعبية المُحبَطين بإنتظار تفجيرها أمام أنظار العديد من مُراسِلي وسائل الإعلام المتنوعة ومُصوِّريهم، ولم يَرضَوا تسليمَها لممثلي الشركات الذين خاب أملهم في ذلك اليوم، فإضطروا لتركها تحت تهديد المسلَّحين العازمين على تفجيرها بعبوات ناسِفة حالما تأتيهم الأوامر، قبل أن يٌحَدَّد ظهيرة اليوم التالي (12/أيلول) موعداً لذلك.
صباح (السبت 12/أيلول) وبينما كان موعد التفجير مُعلَناً وآلات التصوير السينمائي جاهزة لإلتقاط وقائع تلك اللحظات والدقائق، فقد كانت أحاسيسي الشخصية مختلفة عن العديد من مجاميع الناظِرين نحو الطائرات الثلاث عن بُعد، وكأنها مجرَّد هياكل معدنية كما تبدو في ظاهرها.
فأنا -وما زلتُ- أعشق الطيران والطائرات وأتابع أخبارها وتطوّراتها بشغف بدءاً من أساطير تقليد الإنسان الساذج في التأريخ القديم للطيور في طيرانه وتجواله في السماء، قبل إختراع البالونات والمناطيد، ولغاية إقلاع أوّل طائرة ذات محرّك واحد عام 1903، حتى إنبثقت النفاثات الأسرع من الصوت والقاصفات العملاقة وطائرات الركاب الضخمة العسكرية قبل المدنية.
كنتُ أنظر إِلَيهِنَّ وأسترجع معلوماتي وتمتابعاتي في كيفية إنتاج كل وأية طائرة على حِدة، وكيف وضع أصحاب العقول الراقية من العلماء والخبراء تصاميم كل طراز على حِدَة وتصنيع أجزائها على إنفراد قبل فرشها على خطوط الإنتاج وتجميعها جزءاً بعد جزء وسط مصانع راقية تحتضن نتاج الأدمغة الرائعة والمُختَصّة في علوم متنوِّعة ومترابطة، أمثال:- ]]المُحرِّكات، الآلات، الرياضيات، الكيمياء، الفيزياء، المعادن، المُهاتفات اللاسلكية والسلكية، الإرتباط مع الأقمار الصناعية، أجهزة الملاحة الجوية، مُكَيِّفات الهواء، السِباكة، البتروكيميائيات، الهيدروليك، المعادن، الوقود، الجلود، المَطّاط، الإطارات، الزجاج، ضغط الهواء، الأوكسجين، المطابخ، الديكور، الحمّامات، المَرافق الصحية، تعقيم المياه، والإسعافات الطبية[[، حتى أمسَت في نهاية السِكّة طائرةً متكاملة وجاهزة للإقلاع والتحليق والهبوط الآمِن قبل أن يُحَلِّق بها طَيّار التجارب (TEST PILOT) قبل أن تضحى جاهزة للإستخدام المُريح فتقطع آلاف الأميال بين الدول والقارات ليلاً ونهاراً خلال بضع ساعات، وكل ذلك خدمةً للإنسان الذي ظلَّ يتنقّل على ظهور الدواب والمطايا والعربات طيلة مئات القرون قبل أن تَتَفَتَّق أدمغة البعض من علماء الشعوب الراقية لتنتج هذه الطائرات القادرة على حمل مئات الركاب وعشرات الأطنان من المواد لكل واحدة بمفردها.
وعلى أية حال فقد جاء الأجل المحتوم لهذه الطائرات الثلاث، حيث كنا نراقب أشخاصاً متخصِّصين ومُكَلَّفون وهم يَمُدّون أسلاكاً (فَتائِل) من بطون الطائرات ويربطون نهاياتها برؤوس بَطّاريّات تتحكّم بالمُفَجِّرات، حتى أُوعِزَ لهم بالضغط على المُفَجِّر لينفلق الجزء الأمامي من الطائرة البريطانية (BOAC) في منظر مُريع أدمَعَ عينايَ، وتبعتها الأمريكية (TWA) قبل أن تلحق بهما قرينتهما السويسرية (SWISS AIR) والتي أضحت حُطاماً ونِثاراً، وسط هتافات عدد من المتجمهرين وتهليلاتهم وتكبيراتهم وإفتخارهم بالنصر الناجز!!!
وبذلك أُسدِل السِتار على (6) أيام ظلَّت فيها المنطقة قلقة وعلى أعصابها، وستظلّ في قادم الأيام والسنين.
كانت عايزة وإلتَمَّت
المَثَل شعبي عراقي ]]]كانت عايزة وإلتَمَّت[[[….على شكل عبارة تشاؤمية يُردّدها العراقيون لدى وقوع مشكلة صعبة تأتي فوق سابقتها غير المحلولة، بحيث يحتار صاحبها في إتخاذ قرارٍ مُجدٍ لحلِّها… وهذا ما ينطبق على المعاضل والمشاكل والمواقف والمُعَمّقة والمتشابكة التي تراكمت وتفاقمت يوماً بعد يوم منذ سنوات.
فبعد إنتهاء معضلة “مطار الثورة” وتفجير الطائرات، لم يَنقَضِ سوى يوم واحد حتى بثَّت وسائل الإعلام الأردنية عصر يوم (الأحد- 13/أيلول) خبر تعرّض “الملك الحسين” لثالث محاولة لإغتياله أثناء تجواله بإحدى ضواحي “عمان”، مع إشارة مُبَطَّنة إلى كون الفصائل المسلّحة الفلسطينية وراءَها… مع التذكير أن العاهل الأردني قد تعَرَّضَ لمحاولتَي إغتيال سابقَتَين، كانت الأولى يوم 9/حزيران والثانية في 1/أيلول من العام الجاري.
ولم يَمضِ يوم آخر على تلك المحاولة حتى دخلت منظمة التحرير الفلسطينية –وهي رأس الهرم الرسمي المُعتَرَف به لجميع فصائل المقاومة– على الخط لَـمّا أصدرت بياناً رسمياً مساء اليوم نفسه دعت من خلاله إلى ((ضرورة إقامة سلطة وطنية في الأردن))!!! وقد فُسِّرَت تلك العبارة وكأن المنظّمة تقول جِهاراً أن النظام السياسي القائم في “عَمّان” ليس سلطة وطنية وينبغي إزالته، فتشنَّجَت المواقف أعظم ممّا كانت منذ أشهر.
قائد الفرقة يزورنا ثانية
لم نُفاجَأ صباح (الإثنين- 14/أيلول) بزيارة ثانية لقائد فرقتنا “العميد الركن إسماعيل تايه” -والذي عَوَّدَنا على لقاءاته معنا بالمواقف الصعبة- لِنَقِفَ أمامه بمقر اللواء مثلما عمل قبل أسبوع، وبدأ بالحديث:-
أخوتي ضباط اللواء المدرع السادس البَطَل:- مثلما أرى وأنتم كذلك، فقد أتت الرياح بما لا تشتهي السَفَن وإلتَفَّت الساقُ بالساقِ فأمسَينا وسط مواقف متشنِّجة لا يُحمَدُ عقباها في هذا البلد.
فبينما كنتُم تتهيّأون لإجراء تمارين تنهونها بمناورة بكامل جحفل لوائكم، فقد عَلَّقناها جراء أحداث الأسبوع المنصرم.. ويبدو أن ليس بإستطاعتكم أن تواصلوها في قادم الأيام.
بصراحة.. لو كنتُ صاحب قرار في هذا الشأن لَسَلَّمتُ الطائرات إلى شركاتها بعد أن سُلِّمَ مُعظَم الركاب لدُوَلِها، لأنها مدنيّة لا علاقة لها بالسياسة وصراعاتها، وأن المسيحي والمسلم واليهودي والبوذي والمُلحِد يتنقّلون بها على السواء.
الطائرات المختطَفة فٌجِّرَت ولكن المعضلات لم تَنتَهِ، بل أرى ذيولها أصعب وأخطر، وقد تتفاقم بشكل يُنذِر بخطر داهم ربما اليوم قبل غد، لذلك لا يُعقَل أن نُبقيكم هنا، بل قرّرنا إعادتكم إلى ضواحي مدينة “المَفرَق” غداً وبمرحلة تنقّل واحدة لِتَتَمَوضَعوا في ذات الأماكن التي تركتها وحدات جحفل اللواء المدرع/12… فتهيّأوا لذلك.
الأوضاع في الأردن ليست تحت السيطرة، بل هي مُنفَلِتة في “عَمّان، الزرقاء، جَرَش، إربِد” وعموم المدن الكبرى، فالمُسَلّحون الفلسطينون ينتشرون في عدد من ساحاتها وأسطح مبانيها، يقابلهم جنود وأفراد شرطة أردنيون، وقد حصلت مواجهات مُؤسِفة بين الطرفين بالسلاح الخفيف، وقد تتفجَّر لما هو أنكى وأَمَرّ في أية ساعة، مع إحتمال وارد وقريب -في قناعتي- أن تُعلَن حالة الطوارئ والأحكام عُرفية وحكومة عسكرية في عموم المملكة.
السيد الرئيس “المهيب أحمد حسن البكر” ووزير الدفاع “الفريق الطيار الركن حردان عبدالغفار” ورئيس أركان الجيش “الفريق حماد شهاب” قلقون، ويهاتفونني مرات عديدة يومياً لتفهّم الأوضاع عن كَثَب، ويتمنّون -كما نتمنّى- أن لا تتفاقم المواقف أنكى ممّا عليه، بحيث نغدو -نحن الجيش العراقي- بين مطارِق الأخوة الأعداء وسَنادينِهِم.
هناك أطراف داخلية وعربية وأجنبية تحاول التهدئة، ولكنها لم تتوَفَّق لحد الساعة، ولا أظنّ أنها حققت نتائج ملموسة، فهناك من يصبّ نيراناً فوق براميل الزيوت والوقود والبارود، فيما تتناقل الألسُن عن إحتمال وقوفنا -نحن- مع الجانب الفلسطيني دون الأردني.
ولكني أؤكِّد لكم في هذا الشأن بالذات، أنّنا لغاية هذه الساعة لم نستلم أية أوامر أو توجيهات لإتخاذ موقف محدّد لصالح هذا الطرف أو ضد ذاك، ونرجو الله سبحانه أن لا نضطرّ لذلك.
ولكي لا تُفَسَّر تَنَقُّلُ لوائِكُم من هنا إلى “المَفرَق” وتستجلب الظنون حيالَنا على عكس حقيقته، ورغم كون المسافة لا تزيد عن (50) كلم، فقد فَضَّلنا عدم قطعها على السُرَف، بل خصّصنا لكم سرية ناقلات دبابات (فاون) لِتُحَمِّلوا دباباتكم ومدرعاتكم ومدافعكم على ظهورها، ونَسَّقنا مع الأشقاء الأردنيين في تفاصيله وتوقيتاته، وإتفقنا معهم على مرافقة عدد من أفراد شرطة المرور والإنضباط العسكري الأردني لتسيير الأرتال بشكل منتظم على الطريق العام “الزَرقاء- المَفرَق”.
وعندما تستقرون في ضواحي “المَفرَق” آمُرُكُم بعدم النزول إلى المدينة والإختلاط مع الأهلين، فالوقت ليس مناسِباً للإحتكاك.
آخر ليالينا في “خَو”
مساء اليوم نفسه تناولت وسائل الإعلام خبراً بَدا بسيطاً في ظاهره، ولكنه مُعَمَّقٌ في باطنه، بأن “المجلس الأردني الأعلى للإتحادات العُمّالية والنَقابية” إتخذ قراراً بإعلان إضراب عام ومفتوح لجميع عمّال المملكة الأردنية ومستخدميها وموظّفيها إبتداءً من (19/أيلول/1970) وإلى إشعار آخر، إنْ لم تتخذ السلطات الرسمية إجراءاتها الضرورية للحَدِّ من تدهور الأوضاع المعيشية في “عَمّان” وعموم البلاد وإيقاف تدخل (البعض) في أداء أصحاب المِهَن والعمال لوظائفهم اليومية.. ذلك القرار الذي -في حالة تنفيذه- يُنذِر بعواقب وخيمة، بل ويوقف الحياة اليومية في معظم مَناحيها ويُزلِق الأوضاع الإقتصادية المتدهورة نحو الحضيض.
لم نَنَم طيلة ساعات الليل حتى بزغ فجر (الثلاثاء-15/أيلول/1970) لنرزم أمتعتنا ونطوي خِيَمَنا ونُحمِّلها في بطون الشاحنات ونُصَعِّد دباباتنا ومدرعاتنا على أسطح الناقِلات ونُنَظِّم أرتالنا ونُودِّع صحراء “خَو” القاحلة ومهبط مطار “داوسون” بأحداثهما، باصِقين نحوهما سبع بصقات، قبل أن ندير ظهورنا نحوهما متوجّهين إلى بلدة “المَفرَق”.
ذكرياتٌ عبرت أُفقَ خيالي
في الطريق الذي إستغرق تنقّل أرتالِنا عليه حوالي ثلاث ساعات، إنتابتني -وأنا بسيارة “جيب” عسكرية- ذكريات ومشاعر كانت مزعجة في معظمها، وقتما إستذكرتُ كم كنتُ أعشق الحياة العسكرية وأتمنى أن يأتي يومٌ أضحى فيه ضابطاً أرتدي زِيّاً بَرّاقاً ونُجوماً على كَتِفَيَّ وأزراراً مُذَهّبة وأنواطاً على صدري وشارات على ذراعَيَّ، وأمتطي سيارة “جيب” تُقِلُّني إلى المعسكر وتعيدُني إلى مسكني، وتُؤَدّى لي التحية العسكرية في الثُكنة والطُرُقات، ويحسدني البعض وأتلَقّى نظرات إعجابٍ من هذه وتلك ممّن يَتَمَنَّين الإقتران معي، وأتسلَّمُ نهاية كل شهر راتباً ومخصصات تعلو على أقراني ممّن تخرّجوا معي في الجامعات المَدَنيّة.
ولكن الذي حصل أن إلتحقتُ بالكلية العسكرية وتخرّجتُ فيها ومُنِحتُ رتبة “ملازم” عام (1964)، مشحوناً بضرورات الدفاع عن الوطن وأرضه وسمائه ومائه، وخدمتُ في الحرس الجمهوري وشمالي الوطن حتى غدوتُ اليوم على أبواب رتبة “نقيب”… ولكني لم أتَنَعَّم ولو بجزء يسير من أحلامي الوردية تلك، حيثُ لم أعِش وسط عائلتي ولم أسكن في منزل والدي ولم أتمتع بصحبة والدتي وإخوتي وأحَبّ أصدقائي سوى بضعة أيام في إجازاتي الدورية -وذلك إن كانت المواقف الميدانيّة سانِحةً- ولا أتمتع بأية إجازة دَورية ولبضعة أيام إلاّ بعد قضاء (30-45) يوماً في وحدتي العسكرية، بعيداً منفرِداً مع جنودي مُعَرَّضاً لرَشّاشات الأعداء وهاوناتِهِم ومدافِعِهم وطائراتهِِم، سواءً كنتُ على قمم الجبال والوِهاد أو في البراري والصحارى غير المسكونة والملأى بالأفاعي والعقارب والحشرات الضارة والجرذان والبعوض والذباب وأُمّ الأربع والأربعين، وتحت رحمة الأمطار والثلوج وإنقطاع الطرق السالكة شتاءً ثم الحرّ القارض المصحوب بالرياح المحمولة بالغبار والرمال المتواصلة صيفاً، ناهيك عن الطعام الذي لا يتقبّله سوى عديمي الذوق ومحدودي النظافة، محروماً من الماء الصافي المتدفِّق من الحنفيات وأفواه القناني المُبَرَّدة في الثلاّجات، وكذلك من الإستحمام بماء دافئ ووفير في حمّامات نظيفة، وحتى أن حاجتي قضيتُها بمَرافق صحية مفتوحة من أعلاها لا تَليق بأبسط إنسان قُرَويٍّ أفريقيّ بعيد عن الحضارة والمدنية والعمران، مُتمَنِّياً أن لا تصادِفَني في إحدى زواياها عَقربَة أو حيّة أو جُرذِيّ كي أقضي حاجتي مُطمَئِنَاً ولو في عز ّالشتاء وتحت الأمطار والثلوج والعواصف، أو في الصيف بشمسه المُحرِق ورياحه المتخمة بالرِمال.
وها قد إنقضت (9) سنوات ولكن الحبل ما زال على الجَرّار، فيما أمضيتً منذ فرحتُ بحملِ نَجمَتَيَّ على كَتِفَيَّ (6) أعوام، لم أتجرّأ خلالها مجرَّد التفكير بالإقدام على طلب يد أية فتاة تمنّيتُ أن تصبح رفيقة عمري، خشية أن أظلمها وأجعلها تعيش بمفردها أربعة أو ستة أضعاف ما تقضيها معي في بيت الزوجية.
وهنا تساءَلتُ مع ذاتي بكل ألَم وأسىً:-
هل يرضى الإنسان أن يعيش بعيداً عن عائلته (30-45) يوماً، ولا يراهم سوى عدة أيام، إن سنحت الظروف؟؟!!
وهل يتقبَّل أي إنسان، حتى لو كان في جزيرة نائية غير مسكونة، العيش في حُفَرة (2×2) متر وبإرتفاع (2) متر تحت مستوى الأرض طيلة (4) سنوات متتاليات منذ إلتحقتُ بهذا اللواء في شماليّ الوطن يوم (23/تموز/1966)؟؟!!
وهل يُعقَل أن يشدّ الرُعاة والبَدو والصيادون، وحتى الغَجَر (الكاولية)، رحالَهُم ويقطعوا آلاف الكيلومترات ليُغيِّروا منازلهم المؤقتة (20) مرة في غضون (39) شهراً؟؟!!
وهل يتصوّر المدنيون أن حياة العساكر –على عكس المنظور والمَرئي والـمَحسود– أتعس من حياة الرُعاة والبدو والغَجَر، بل أدنى منهم إستقراراً؟؟!!
وكل ذلك مع فارق الأخطار والتعرّض للمَوت والإصابات والأمراض الجسدية والنفسية، ناهيك عن نوعيّة حياة الغَجَر ولياليهم المِلاح، ونومهم حتى الظهر، وإستحضاراتهم إستعداداً للطَرَب والسَهَر.
حينها لم أجد لكل ذلك مُقارنةً بين حياة المدنيين جميعاً مع العسكر ومعاناتهم اليومية.
معسكرنا الرقم (21)!!!
لم أجد بُدّاً أن أتحدّث مع ذاتي وأقنعها بأني أنا الذي إندفعتُ بكامل قوايَ العقلية كي أُقحِمَ نفسي بالمسلك العسكري، وقد برهنتُ كوني ضابطاً بمستوىً جيِّد وكنتُ الناجح الأوّل في معظم الدورات التي خُضتُها… إذَن لا مناصَّ من تَحَمُّلِ هذه الحياة، إن رضيتُ أم لم أَرضّ.
ولم أفِقْ من خيالي إلاّ لمّا بلغنا ضواحي “المفرق”، لأدخل وسط حُفرَة متروكة بعد تنظيفها وترتيبها والتَيَقُّن من خلوِّها من الحيايا والعقارب والجرذان والحشرات، وقد أحاطَتني جُحور ضباطي وجنودي ومواضع مُدرّعاتي المحفورة بالمعاول والمجارف تحت مستوى سطح الأرض إتقاء القصفات الجوية المتوقعة على يد العدو الإسرائيلي، والتي تعوّدنا عليها طيلة السنوات الثلاث المنصرمات.
وفي الحفرة ذاتها عصر (الثلاثاء 15/أيلول/1970)، أدرجتُ في مفكِّرَتي أن موضعنا الجديد هذا هو المعسكر الوقتي الرقم (21) الذي نتّخذه تِباعاً منذ وطأت أقدامُ لوائِنا أرض المملكة الأردنية يوم (8/حزيران/1967)، أي قبل (39) شهراً من يومنا الراهن!!!
إعلان الطوارئ والحكومة العسكرية
رغم التعب والإرهاق اللذان إستشعرتُ بهما، فإننا لم نُفاجأ كثيراً في اليوم التالي (الأربعاء 16/أيلول) بمارشات وأناشيد وطنية أردنية قبل أن يبثَّ التلفزيون الأردني خطاباً مُتَلفَزاً للملك الحُسَين، مُعلِناً فرض حالة الطوارئ والأحكام العُرفِية في عموم البلاد، إضافة إلى مرسومَين آخرَين:-
الأول:- تعيين “المُشير حابِس الَمجالي” بمنصب القائد العام للقوات المسلحة والحاكم العسكري العام في المملكة.
والثاني:- تشكيل حكومة عسكرية يرأسها “الزعيم (العميد) محمد داوود العَبّاسي” ((وهو فلسطيني من مواليد القُدس)) وتسمية حاملي حقائبها بواقع (12) ضابطاً برُتَبٍ عالية ومتوسطة تراوحت بين “لواء طبيب” في أعلاها ولغاية “رائد” في أدناها، وتحديد مهمّتها في إتخاذ كل خطوة ممكنة لإنقاذ البلاد من الوضع المتردّي.
آخر الكلام
ولكن حديثنا يطول عَمّا وقع بعد ذلك من مواجهات دموية وقتال شوارع بين الجيش الأردني والمسلّحين الفلسطينيين ستطول (4) أيام بلياليها… فإعذروني لإرجائها لمقالة قادمة بعون الله.