في متابعة عشوائية حاولت أن استطلع ردود الفعل إزاء حدث جلل مثل التفجيرات الأخيرة. تفاجأت حقا. من كنا نرتجي منهم الإنسانية كانوا بحق بحاجة إلى إعادة تأهيل إنساني. اقصد بعض الفنانين والممثلين تحديدا. أن يرفض رياضي معروف وثري كما يروي احد الفنانين، تقديم المساعدة لعلاج الشاعر والفنان الموهوب طالب السوداني الذي رحل مبكرا بعد أن ملأ أجواءنا بلوذعيته وطرافته ورحابته الانسانية، فذلك أمر يبدو عاديا على رغم تعارضه مع “النخوة” العراقية. حتى لو كان على خلفية ما صرنا نسميه تحوطا “المكونات” التي لا تُكوِّن سوى تمزقا كما نشهد. إذ قد لا نحتاج من الرياضي أن يعطي آراء في السياسة أو يتخذ مواقف خارج ملعبه. نحتاجه أن يسجل أهدافا فقط كي يجسد “نخوته” على بلاده.
لكن أن تصدر من فنانين وممثلين تحديدا كما قلنا تعليقات تنضح منها روح التشفي جراء التفجيرات الأخيرة فهو أمر يستحق التوقف عنده، خصوصا أنها- أي التعليقات والمواقف- كانت على خلفية تلك “المكونات” التي كنا نرتجي أن تُعامل بتحوط اكبر ولو من باب الاتكيت والذوق، من قبل ذلك البعض الذي كان يقول عنه شكسبير”خلاصة العصر وموجز تاريخه”. فبدل ان تكون لحظة موت الأبرياء نوعا من الاستدعاء المباشر للإنسانية، كانت مناسبة لتقيؤ كل ما هو مستكره حتى في قاموس الرثاثة واللانسانية.
حاول فنانون وكتاب ألا يكونوا مكترثين بالتفجيرات، ما استدعى من نظراء لهم على مواقع التواصل الاجتماعي أن يهددوا “اللامكترثين واللامبالين” بأنهم سيمسحوا من صفحتهم أسماءهم. ولكن ألا تكون مكترثا شيء، وان تكون مكترثا بسفاسف حول الدم المراق شيء آخر، إن لم اقل انه مدعاة “لشن حملة” لإعادة تأهيل الإنسانية المفتقدة لدى البعض.
المثير أن بعض أولئك المتشفين من الممثلين الشباب الذين يفترض أن يكونوا على قدر اضئل من غيرهم في معايشة الانقسامات والتمزقات. ولكن ذلك البعض كان الأشد في تجسيد ذلك التشرذم الذي تشم منه مخاضي الدم. علما انه ومن باب الإنسانية البحت، يجدر القول إن لكل امرئ نزوة، أو حالة تستغرقه بلا رادع أحيانا على وفق مسبباتها التي تتفاقم نتائجها بحجم تأزم التجربة الإنسانية بأوجهها المختلفة. ولكن الاستمرار في تلك النزوات، إن لم اقل تطويع النفس المستمر من اجل استدامتها، لا يعكس سوى خللا إنسانيا على العالم أن يهرع لعلاجنا منه. دعونا نقول إن من الحق أن يمضي من يشاء الى القول بأي شكل من أشكال الحلول السياسية التي تخطر على بالنا وخيالنا السائر في التضاؤل: تقسيم أو فدرالية أو مناطق منعزلة وكانتونات وغيتوات مستحدثة لفرط استحداث أسباب العداء. دعونا نقول لا ضير في انك تحب ساسة من هنا وسياسات من هناك. بل دعونا نتخلى عن “دعونا” هذه المستجدية لما نرجوه، ولنقل: إن من حق أي فرد أن يشتم ويلعن أي عصر لم يجد فيه ما يرتجيه، وان يعلن ويصب جم غضبه على رموزه وممثليه فذلك حق إنساني ما بعده حق. ولكن أن يكون مقتل الأبرياء موضعا للاحتفاء بساستك أو سياساتك أو حلا سياسيا مفترضا، أو تشفيا سياسيا بأناس جمع الحظ العاثر وجودهم بعصرك الذي سبب مصرعهم بلا ذنب، فليس ذلك من السياسة في شيء ولا من الإنسانية في أي شيء. وان تكون المبتغيات السياسية التي لم يطالبك احد بتبنيها (لقلة محصلة الفنانين منها أساسا) أعلى شانا من أبرياء تراق دماؤهم، فهو نتيجة لحاصل جمع الخسة والرداءة في معادلة يصنعها طرفان أردأ من نتيجتها.
الأمر الآخر الملفت أن الأعم الأغلب من المكترثين بالسفاسف حول الدم المراق هم من الفنانين الذين يعيشون خارج بلادهم، وبعضهم يعيش في أوربا أيضا. أوربا التي لم ينل منها على الأرجح سوى أن يكون حرا في التعبير عن الاستخفاف بحرمة الدم البشري، فيما يبدو هو كَيِّساً مطواعا مِرحابا مُستخذيا أمام ممن يسمون أبناء البلاد الأوربية التي التجأ إليها من “هول ما عانى”. بل هو قد تعلم في تلك البلاد أن أية إساءة لأية قومية أو دين أو مذهب أو لون أو ملة أو نحلة تهمة يحاسب عليها القانون ومن جرائها غرامات تحتاج لخزينة مترف لتسديدها مستحقاتها. لكن يبدو أن غياب التسديد، في حالة أبرياء التفجيرات، أدى إلى انسداد العقل والروح والقلب.
هل قال شكسبير حقا إن الممثلين هم “خلاصة العصر وموجز تاريخه”؟ لم لا. إذا كان مقصده حقا خلاصة هذا العصر الرديء وموجز تاريخه الأردأ. ولا يغيب عن البال إنني اقصد البعض. لكن الأخطر أن ينطبق على “بعض” ممثلينا قول أنيس منصور ولكن بتحوير: “الممثل هو الشخص القادر على أن يكذب بمنتهى الصدق، والمتفرج هو الشخص الذي قرر أن ينخدع بمنتهى اليقين”، أي ماذا لو كان الممثل صادقا بسفاسفه خارج الخشبة هذه المرة، وانخدع معجبوه بسفاسه بمنتهى اليقين؟ النتيجة قد تكون “فاصلا”.. دمويا ليس بقصير.