18 ديسمبر، 2024 6:58 م

تغيير وجه السودان سياسيا

تغيير وجه السودان سياسيا

قل ما شئت عن العلاقات التاريخية بين شعبي مصر والسودان، وتحدث كما تريد عن العلاقات السياسية الجيدة بين قيادتي البلدين، لكن هذا لا يلغي أن هناك ألغازا تعب في حلها كثيرون، بشأن التصعيد الذي يظهر ويختفي، خاصة من الجانب السوداني.

في مصر تبدو الكتابة عن السودان الشقيق من المناطق الشائكة، لأن بعض من يتطوعون بتناول حدث يهم السودان، إما أن يسقطوا في فخ العواطف والاستفاضة في الكلام عن العلاقات الأزلية والدم المختلط والمصير الواحد، وإما أن يشنوا هجوما سافرا على النظام السوداني وينكأوا جروحا نحن في غنى عنها.

في الحالتين يظل الوضع على ما هو عليه، أي تظهر أزمة بلا مقدمات منطقية ثم تتوارى بلا نهاية مقنعة ويعود الجميع إلى جدول الأعمال التقليدي، وعنوانه الهدوء الحذر، انتظارا لوقوع توتر جديد، يمنح الغافلين والمتربصين (في الدولتين) على مواقع التواصل الاجتماعي وبعض وسائل الإعلام فرصة لتبادل القذائف والاتهامات السياسية والاجتماعية والثقافية.

خلال الأيام الماضية شاهدنا نموذجا سافرا، فجّر الكثير من براكين الغضب الشعبي، وأعاد للأذهان ترديد مقولات »شوفينية« عفى عليها الزمن، بينما تم احتواء التوتر رسميا وبطريقة سريعة وسلسة، كشفت عن عدم وجود رغبة للدخول في أزمة يمكن أن تؤثر تداعياتها على المصالح الحيوية، وتجاوز سُحب التوتر التي تخيم من وقت لآخر على سماء العلاقات المشتركة أفضل وسيلة لقطع الطريق على من يريدون توظيف السودان كرأس حربة للتنغيص على مصر.

إذا كانت المعطيات السابقة تعني أن هناك حرصا رسميا على تجنب الصدام، فإن ثمة تطورات داخلية قد توحي بزيادة التعاون وتفتح أفقا يطوي بعض الصفحات القاتمة، وأخرى خارجية ربما تؤدي إلى التأثير سلبيا، لأن بعض القوى الإقليمية والدولية بدأت تجد في السودان أداة لضبط بعض التوازنات التي تهمها.

على الصعيد الأول، يحاول النظام السوداني التخلص من إحدى العقبات التي تقف حائلا دون زيادة أطر التعاون مع مصر، وهي تتعلق بتخفيف ارتباطه بالحركة الإسلامية، التي لعبت الدور الرئيسي في وصول الرئيس عمر البشير للحكم عام 1989، أملا في نفي الاتهامات التي توجه إليه بخصوص عدم تحلله منها نهائيا، واستمراره في إيواء عناصر مطلوبة على أراضيه.

في هذا السياق، قام الرئيس عمر البشير بتعيين نائبه الجنرال بكري حسن صالح رئيسا لأول حكومة في عهده، ولم يعتمد على أي من الوجوه الإسلامية، واتجه حزب »المؤتمر الوطني« الحاكم إلى تنحية عدد من الوجوه المحسوبة على التيار الإسلامي، وبعث الحزب برسائل لهؤلاء تفيد بضرورة عدم التشويش على مشروع الرئيس لمزيد من الاعتماد على المؤسسة العسكرية، لطمأنة بعض القوى الإقليمية والدولية، ومن بينها مصر.

وهنا يمكن فهم منع عبدالمنعم أبوالفتوح رئيس حزب مصر القوية والمحسوب على جماعة الإخوان، من دخول السودان قبل أيام، فقد أرادت الخرطوم إيهام البعض بأن مشروع التخلص من الارتباط بالحركة الإسلامية يسير على وتيرة جيدة، وما يتردد بشأن احتضانه لقيادات إخوانية غير دقيق.

لكن هذه الرسالة لم تجد اقتناعا كافيا لدى بعض المراقبين لما يدور في السودان، لأن عدم حضور أبوالفتوح اجتماع حزب المؤتمر الشعبي لتأبين مؤسسه الراحل حسن الترابي واختيار قيادة جديدة له، لم يمنع وجود شخصيات إسلامية من نحو خمسين دولة، بينها قيادات من الصف الأول في حزب النهضة التونسي وحركة حماس والتيار الإسلامي القوي في كل من ماليزيا وباكستان وتركيا وغيرها، ما يعني أن الرسالة تندرج في إطار التهدئة مع مصر تحديدا، عقب تصريحات سودانية استفزازية حادت عن تفاهمات تميل إلى تحاشي الصدام بين البلدين.

أما على الصعيد الخارجي، فمن يراقب التطورات على الساحة السودانية، يتوقف عند ملمحين، أحدهما التطور الإيجابي بين الخرطوم وبعض العواصم الخليجية، على خلفية التصعيد المشترك مع طهران، حيث قام السودان بغلق المكاتب الثقافية الإيرانية في أراضيه، وقطع حبل الود وغلب الخصام في عدد من الملفات التي ربطته بقوة مع طهران، ونجح في استقطاب جزء من الأموال الخليجية للاستثمار، وتطورت العلاقات عندما أرسل الرئيس السوداني مئات من جنوده إلى اليمن للحرب ضمن قوات التحالف العربي التي تقودها السعودية، مع وعود ضمنية متناثرة بتبني تصوراتها الإقليمية.

الملمح الآخر، يخص التحسن النسبي في علاقات السودان ببعض القوى الغربية، تمهيدا لإعادة تأهيله سياسيا، بما يتوافق مع القيام بأدوار تساعد على تحقيق أهدافهم ومصالحهم في المنطقة، ورأينا أن الولايات المتحدة وعدت برفع العقوبات الاقتصادية المفروضة على السودان نحو عشرين عاما، في يونيو المقبل، ووجهت دول أوروبية انتقادات حادة لمعارضي الرئيس البشير، بما يفيد بضرورة تحجيم دورها، وخفتت لهجة الاتهامات التي كانت توجه له شخصيا على ضوء مطالبة المحكمة الجنائية بتسليمه، وبدأت وفود من دول غربية تتوافد على الخرطوم، بما يوحي برغبة في تأسيس علاقات جيدة، يمكن الاستفادة منها في ملف مكافحة الإرهاب مثلا.

هذه التصورات النوعية تفسر واحدة من العلامات التي جعلت النظام السوداني يبتعد خطوات تكتيكية عن الحركة الإسلامية أخيرا، والتي تحّول الارتباط اللصيق بها إلى عبء ثقيل لا تستطيع الخرطوم تحمل تكاليفه، في وقت يتزايد فيه السباق نحو استهداف القيادات المتطرفة في الحركة، التي ارتبط بعضها بعلاقات وثيقة في فترات سابقة بالرئيس عمر البشير.

لكن سوف تظل المشكلة في أن يثبت النظام السوداني ابتعاده تماما عنها، لاسيما أن فك الروابط التاريخية يستوجب تحركات واسعة، فهي تمثل الرديف السياسي له في الشارع السوداني، ولم يتمكن حتى الآن من أن تكون له قاعدة كبيرة بعيدا عنها، وحتى المؤسسة العسكرية التي تمثل ضمانة أساسية لتدعيم حكمه، توجه لها انتقادات شعبية بحكم الهيمنة وعدم القدرة على حسم كثير من المعارك التي تدور في السودان، جنوبا وغربا وشرقا.

في كل الأحوال، الاتجاه نحو تغيير وجه السودان سياسيا يحيطه كثير من الغموض، فقد درجت قيادته على اللجوء إلى درجة عالية من المرونة عندما تريد التخلص من أزمة مستعصية، وتنحني للعواصف للوصول إلى هدف معين، وحققت هذه الطريقة أغراضها في مواقف مختلفة، وسوف تكشف المحكات التي يواجهها النظام السوداني، على مستوى مدى قدرته على فك ارتباطه بالحركة الإسلامية، وطبيعة ما يقوم به من مهام إقليمية، حجم التغير الذي دخل على توجهاته وتصرفاته.

كما أن الممارسات الغربية، والأمريكية تحديدا، سوف تبين لأي مدى مطلوب التخلص من العناصر الإسلامية في الحكم، لأنه لا تزال هناك إشارات متناقضة ومتضاربة، بعضها يصمم على عدم التفريط في ورقة الإسلاميين، وقد نشرت صحيفة »واشنطن تايمز« في 27 مارس الحالي تقريرا يفيد بأن إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب رفضت خطة تصنيف الإخوان كتنظيم إرهابي، وهو ما يجنب السودان المزيد من الحرج مع حلفائه التقليديين.
نقلا عن الاهرام