إن تجارب من هذا النوع حدثت مراراً في أحلك الظروف، وأشدها مرارة. وكانت ناجحة بكل المقاييس. ومن أبرزها دون شك، نقل الموظفين العراقيين الراغبين في العيش في كركوك، من المناطق الوسطى والجنوبية. وتقديم مساعدات مالية لهم وقطع أراض سكنية، تمكنهم من بناء منازل خاصة في أحياء جديدة، وعصرية.
ولولا هذه التجربة الرائدة، التي جرت في الثمانينات، لكانت أوضاع كركوك الاجتماعية والأمنية غير ما هي عليه الآن. ولكانت الآن كردية بحتة، لا ينازعها في كرديتها منازع. فبعد مرور أربعة عقود على الحملة، تناسل العرب وتكاثروا، وباتوا مكوناً لا يمكن إغفاله في المحافظة. ووجودهم كان سبباً رئيسياً في منع إلحاقها بالمحافظات الانفصالية الثلاث.
وكانت هناك تجربة أكثر جرأة منها، لم يسلط عليها الإعلام إلا قليلاً. وهي هجرة عشائر عربية في مناطق التماس مع المجموعة الكردية حوالي عام 1963. وكان الغرض منها حماية المناطق النفطية بوجه خاص، من تعديات العصابات الكردية.
إلا أن هناك في الواقع تجارب عظيمة كثيرة حدثت في أنحاء مختلفة من العراق، وهي المدن الصناعية. أو ما يطلق عليها عالمياً اسم قدور الصهر. وهي مجمعات سكنية مخصصة للموظفين والعمال من منتسبي المنشآت الصناعية الحكومية. وأصول هؤلاء في العادة من محافظات مختلفة. فكانت هناك مجمعات في بغداد، والأنبار، والبصرة، وكركوك، وبابل، والديوانية، والناصرية، وبيجي، وغيرها كثير. وكان إنشاء هذه المجمعات جزءً من مشاريع نفطية أو صناعية أو خدمية، كبيرة. ولم يكن بالإمكان المضي قدماً في توفير العمالة اللازمة لها لولا وجود مثل هذه المدن بالقرب منها.
إن أحداً في ذلك الوقت لم يرفع عقيرته بالشكوى من تغيير التركيبة السكانية، أو يتذمر من قدوم موظفين من محافظات بعيدة، بما فيها تلك التي توصف بالمحررة. بل أن الكثيرين منهم كانوا يتوقون للحصول على فرصة كهذه. فوجود سكن حكومي شبه مجاني، أمر كان يحلم به عموم موظفي العراق. ولا يتوانون عن الاستفادة منه، حتى لو كان في منطقة نائية. وقد أسهمت هذه المجمعات بتطوير عدد من الأقضية والنواحي المهملة والبعيدة، مثل بيجي وأم قصر.
بل إن كثيراً من الموظفين، ورجال الأمن، ومنتسبي الجيش الكرد، كانوا يقطنون في الجنوب، ويعيشون جنباً إلى جنب مع أشقائهم العرب. ولم يكن ثمة من يجد غضاضة في هذا، مثلما يحدث الآن. وقد هجر الكرد من الجنوب بعد اتفاقية 11 آذار 1970 بين الحكومة وممثلي البارزاني. اشترط فيه الأخير عودة الموظفين الكرد إلى مناطقهم الأصلية في المحافظات الثلاث التي شملت بالحكم الذاتي. وكان هذا الإجراء مقدمة لسريان روح الانفصال لدى القوميين الكرد.
وقد حدث في قضاء تابع لمحافظة نينوى اسمه الحمدانية تقطنه أغلبية مسيحية أن رفضت الإدارة المحلية عام 2017 سكنى 180 من الطلبة الشيعة المقبولين حديثاً في جامعتها، في دور مستأجرة في المدينة. وكانت حجتها في ذلك منع التغيير الديموغرافي في المناطق السريانية – الآرامية. مع أن كثيراً من أبناء هذا القضاء درسوا في بغداد والبصرة وغيرهما منذ عشرات السنين، وعاشوا فيها، دون أي مشكلة أو تمييز. وهذه سابقة لم تحدث من قبل. رغم أن الشيعة هم الذين حموا الأقليات من الإبادة في تلك الحقبة (ومنها السريان الآراميين) . ولم يكن ممكناً استئناف الدراسة في الجامعة لولا الدماء الغزيرة التي أراقوها في المعارك مع السلفية.
لقد ساعدت الهجرة الخارجية التي اضطلعت بها أعداد كبيرة من العرب والعراقيين في الأمريكتين وأوربا وأستراليا، في نشر الثقافة العربية خارج حدودها التقليدية. كما أسهمت في تعريف الشعوب الأخرى بالدين الإسلامي، والفلسفة الإسلامية، وكثير من القيم والتقاليد التي يعتنقها المسلمون في مجتمعاتهم الأصلية. أما الهجرة الداخلية فهي عامل مهم من عوامل الوحدة والألفة والوئام بين مكونات الشعب الواحد. وهي ضمانة أكيدة تحول دون انقسام وتفكك البلاد، في زمن العولمة والغربنة والنسبية الثقافية.
لقد أدرك أحد أهم قادة الفكر في هذه البلاد ذات يوم، وهو المرحوم ساطع الحصري (1880 – 1968)، أهمية اجتماع طليعة النخبة العراقية في معهد دراسي واحد، بدلاً من معاهد متباعدة ومتفرقة. لأن مثل هذا الأمر يتيح للشبان القادمين من مناطق شتى التعرف على زملائهم عن قرب، وفهم طريقة تفكير بعضهم البعض، وخلق علاقات رفاقية متينة في وقت كانت المواصلات صعبة ومتعبة. فقام بدمج ثلاثة دور للمعلمين في دار مركزية واحدة في بغداد، في عشرينات القرن الماضي، يوم كان عدد السكان لا يزيد عن مليوني فرد. وأنشأ لهم مدرسة داخلية للإيواء والإطعام والقراءة. وكان ذلك بنظره خطوة متقدمة من أجل تقارب العراقيين وشعورهم بالانتماء لوطن واحد، بعد خروجهم من سلطة الولايات العثمانية الثلاث. وقد أثبتت نظريته هذه نجاحاً منقطع النظير في تلك الحقبة المبكرة من تاريخ العراق الحديث.
إن التغيير الديموغرافي الذي تأوه منه البعض في المناطق المحررة، أو في المحافظات الشمالية الشرقية، هو الحل الأمثل لمشاكل العراق المزمنة. وهو الضمانة الأكيدة للوحدة والتماسك والأخوة، ونبذ الجهل والتخلف، والطريق المثلى للتنمية والتقدم والازدهار.