18 ديسمبر، 2024 6:44 م

تغيير الأيديولوجية هو مفتاح الحل؟

تغيير الأيديولوجية هو مفتاح الحل؟

بالرغم من خلفيته الماركسية يرفض الفيلسوف الإيطالي (أنطونيو غرامشي) الحتمية الاقتصادية لماركس، بل يعتبرها ظاهرة فرعية وليست أساس كل شيء، ويؤكد على أن بؤرة الصراع هو الصراع الفكري والأيديولوجي، لاسيما أن الأولوية للثقافة والأيديولوجية كمظاهر محددة للصراع السياسي بحسب رأي غرامشي.
لم نعد بحاجة إلى مخادعة أنفسنا عند تشخيص الأزمات التي يمر بها المجتمع العربي في الوقت الراهن، فهي بلاشك كثيرة وعميقة وخطيرة، لها أسبابها وظروفها وتداعياتها، ومن أبرزها وأخطرها هي (أزمة الخطاب السياسي) تلك الأزمة التي أصبحت تهدد الاستقرار الاجتماعي والسياسي والاقتصادي لتلك البلدان. حيث أرتبط الخطاب السياسي ارتباطا وثيقا بالأيديولوجيا، وأصبح منتج الخطاب السياسي يتجلى بخصائص أيديولوجية وهي مجموعة من الأفكار والثقافات التي يعكسها أصحابها في الصحافة والإعلام. لقد سبق ذلك عملية تبلور أتباع الأيديولوجيا والأفكار كجماعات متميزة منفصلة ذات خطاب سياسي تتجاوز فيها الهوية الوطنية، ولكن الأهم من ذلك أن سياق الخطاب السياسي بمعناه التحاصصي المحدد يرتبط بمرحلة تاريخية نشأت فيها الدولة الوطنية والجماعات القومية والمذهبية. وبلا شك أن المسار التاريخي لأزمة الخطاب السياسي كان وما زال سببه هو صراع الثقافات والأيديولوجيات المختلفة فيما بينها، والسياسة التبريرية السلطوية لبعض أنظمة الحكم، مما أدى إلى اختراق وحدة المجتمع وضرب الاندماج المجتمعي إلى جماعات عشائرية أو جهوية إلى طوائف تبعية دينية مذهبية، من ثم انعكس ذلك بالسلب على بنية الهوية.
وفقا لما تقدم فإن من أهم أسباب هذه الأزمة هو فشل الدولة الوطنية منذ عهد الاستقلال في بناء المواطنة كأساس للحقوق، بالإضافة إلى إشكالية البعد القانوني للدولة، ناهيك عن الالتباس حول واقعية التدين السياسي لأغلب المجتمعات العربية. بالتالي فأنه أنتج طوائف سياسية حاملة معها فكرها السياسي الديني وفي مختلف الاتجاهات. من هنا فقد تم تسييس الطوائف الاجتماعية إلى نوع من الطوائف السياسية، بحيث أصبح التوزيع الطائفي عرفا لبعض البلدان العربية. عليه فإن الظروف السياسية تشكلت وفق الصراعات الإيديولوجية والتاريخية بين القوى الاجتماعية المختلفة في بعض الدول العربية.
في السياق ذاته كانت المفارقة في موضوع الدولة الوطنية والاستعمار تتجلى بالاختلاف بين تطلعات شعوب المنطقة وأهداف الدول الاستعمارية اختلفا جذريا، فبينما كانت الشعوب ترى في الغرب نبراسا للتحرر والتقدم وتسعى للخلص من الاستبداد والتخلف والفقر الذي خيم على كل بلاد العرب تحت الحكم التركي العثماني، بالمقابل كانت دول الغرب الاستعماري تنظر للعالم العربي بمنظار الغنيمة التي تتقاسمها بعد سقوط الدولة العثمانية، ومع أن الدول الاستعمارية نفسها قد تجاوزت النظرة الدينية بين شعوبها وحجمت دور الكنيسة وتدخلاتها في السياسة، إلا انها لم تتخلص من بعد نظرتها الدينية إلى العالم الإسلامي، وقد كان واضحا وجليا في تعامل دول الاستعمار مع مجتمعاتنا وخصوصا الاستعمار الفرنسي الذي جسد الطائفية في تعامله ،وهو الذي يفتخر بثورته العلمانية ونظامه الوطني الجمهوري وبمبادئ الحرية. إن تعامل الغرب مع العالم السلمي يتناقض جذريا مع الثقافة الغربية، ولايزال هذا التناقض قائما ويشكل عقدة تاريخية نجمت عنه فترة الحروب الصليبية. الجدير بالملاحظة أن الثورة العربية التي كانت أهم عامل في سقوط الحكم العثماني، وهي التي تمثل ثورة تحرر وطني وقومي، لم تنطلق من منظور ديني وقد شاركت فيها جميع الأعراق والطوائف الدينية وبينما كان العرب يتطلعون إلى تأسيس دولة قومية واحدة فقد تم تقسيمهم إلى دول متعددة وخاضعة قسرا للانتداب الاستعماري، وبذلك التقسيم تبدل واقع العالم العربي ودخلت الشعوب في مرحلة أكثر تعقيدا في مواجهة ومقاومة الاستعمار.
ولأن الخطاب السياسي ليس مجرد كلمات تُلقى، وانما هو رسالة ذات مضمون فكري وديني واجتماعي وثقافي له أثر كبير في توجيه الإنسان، وإن إساءة استخدامه يهدد الأمن والسلم المجتمعي، لما يتضمنه من أفكار العنف والتطرف، توجب على أصحاب الرأي والفكر مواجهة هذه التحديات الخطيرة من خلال تقديم الرؤية الصحيحة، وتصحيح المفاهيم، ومحاربة فكر التشدد والتطرف في الخطاب السياسي، ومن ثم تأسيس خطاب عقلاني معتدل، متسامح. لاسيما يمكن أن توفر بعض التجارب المختلفة للصراع الأيديولوجي في المجتمع العربي مجالا خصبا لدراسات تساعد على فهم أفضل السياقات لكل تجربة وتقييم دقيق لنتائجها، إضافة إلى وضع أدوات ومناهج جديدة وغير تقليدية للتعامل مع أزمة الخطاب السياسي، وبناء منظورات متوائمة ثقافيا وحضاريا مع مجتمعاتنا ومشكلاته ومنطلقاته وثوابته، حيث يساعد هذا الفهم والحوار على تجاوز تجارب الماضي وسوء الفهم المتبادل والبناء على التجارب الايجابية والتأسيس عليها.