لم يكن خروج القوانين والأعراف القبلية –العشائرية من بيوت الشعر والمضايف والدواوين البعيدة عن حواضر المدن,واقتحامها لمختلف المجالات بما فيها المجالات السياسية والقضائية,إلا دليل على ضعف الأنظمة السياسية وغياب القوانين العصرية المنظمة للعلاقات الاجتماعية في البلدان الاثنية ,ذات الطبيعة والتركيبة القبلية المغلقة.
غادرت السلطات والقبائل العربية في شبه الجزيرة العربية أزمة الأعراف والقوانين البدائية ,بعد أن رتبت لهم الحضارة الغربية حياتهم ووضعت القوانين الخاصة بعلاقاتهم الداخلية(عقليات المندوب السامي),فهم ليسوا بحاجة للعودة إلى سلطات شيوخ العشائر وأمراء الفتن ,وسلسلة النزاعات المتبادلة المستمرة,فقد ولت إلى غير رجعة, فصارت مدنهم زاخرة بالخيرات ,وبعوائد الثروات الطبيعية الكبيرة ,فأصبحت محط إعجاب دول العالم بما فيها دول الاستعمار
وبقي علينا أن نفهم أسباب تذبذب ارتفاع وهبوط سقف مطالب السلطات القبلية في الدول المضطربة سياسيا,العراق واحد من اعقد النماذج المتداخلة فيها السلطات الرسمية مع الشعبية(القبائل والعشائر-والسلطات الحزبية والاثنية والعرقية),البعض ينظر إلى السبب الرئيس في كل تلك المنزلقات الاجتماعية الخطيرة ,وهو ضعف تطبيق القوانين في الدول المنهارة سياسيا أو المحاصرة دوليا,
ولكن تهمل الأسباب الحقيقة الأخرى التي لم تطرح من قبل الكوادر الثقافية السياسية والاجتماعية المدنية,حيث إن نقص تشريع وتطبيق القوانين القضائية المتعلقة بكل صغائر وكبائر الأمور الحياتية ,هي من يقف عائقا أمام احترام تطبيق القوانين والأنظمة العامة من قبل أبناء العشائر ,
حيث استطاعت الأنظمة السياسية الديمقراطية في اغلب دول العالم المتحضر أن ترصد كل المخالفات الاجتماعية ومراقبتها عن كثب,فتعاملت معها على أساس الضرورات الملحة لحماية دولة المؤسسات,من خلال الدراسة والتجربة والتجديد في تشريع القوانين والأنظمة المتغيرة تقريبا كل عام(والبعض منها كلما دعت الحاجة والضرورة),<�ول تخصص مبالغ لوظائف جديدة من اجل متابعة تطبيق واحترام تلك القوانين من قبل المواطنين(التدخين في الأماكن الممنوعة-إهدار مياه الشرب في أوقات الأزمات-رمي الأوساخ والفضلات في الأماكن العامة أو من خلال السيارة-تجاوز السرعات المحددة من قبل سائقي السيارات ووقوفها في الأماكن الممنوعة-الاعتداءات اللفظية أو الاشتباك بالأيدي بين المواطنين-الإزعاج بكل أنواعه-التحرش الجنسي بمختلف الطرق والأساليب-الجرائم الأسرية-فساد المسئولين واستغلال السلطة للأغراض الشخصية,الخ)
الغاية من كل تلك القوانين هي تهذيب السلوكيات الاجتماعية العامة ,وسد الثغرات القانونية التي يمكن أن تكون جسرا لعودة الفوضى الاجتماعية( هم يعانون من بعض التجمعات الشرقية والعربية المهاجرة والمقيمة عندهم تحديدا التي لازالت تعمل بالعقليات الثقافية القبلية والأثنية في حل مشاكلها مع الآخرين أو فيما بينها),
ولهذا نرى مثلا في بعض جرائم القتل تراعي مختلف الظروف والأسباب والأوضاع النفسية ساعة ارتكاب الجريمة أو وقوع الحدث,وقد أنصفت قوانينهم العديد من ضحايا تلك الجرائم(عبر التاريخ ومن خلال اغلب التشريعات السماوية للأديان المقدسة لم تكن دوما اعتبار كل حالات القتل هي جرائم ,وإنما وضعت جملة من الأسباب التي تدين أو تنصف مرتكب أو المتورط بالحادثة).
نعود إلى مشكلة العراق العشائرية القديمة ,التي عادت بعد احتلال الكويت 1991 بقوة إلى الواجهة ودخلت المدن بشكل غريب,حتى صار اغلب شيوخ العشائر اليوم من أصحاب
الشهادات الجامعية(ويجيدون التكلم باللغة الفصحى),هذه المعضلة لم تعالج بشكل جذري أو بطريقة منهجية منطقية,بل ساعدت الانتخابات البرلمانية ومجالس المحافظات إلى تعزيزيها وزيادة تفاقمها(بسبب انتخابات القائمة الواحدة والدائرة الواحدة),فصار الشخص المرشح عن منطقة معينة يستعين بعشيرته الموزعة في كل مكان من محافظته لكي يضمن فوزه في الانتخابات,وهو أول أخطاء الانتخابات العامة(إضافة إلى انعدام قانون الأحزاب)
(ممثلا عن مدينة تعدادها يفوق أحيانا المليون بلا مكتب محدد لمنطقة معينة),هذا إضافة إلى هرولة بعض المسئولين الذين لا يملكون قاعدة جماهيرية واسعة(حزبية أو فئوية)يستندون عليها في الانتخابات العامة إلى القرى والأرياف لاستجداء الأصوات(ليس لخدمة الوطن بل للمصالح والمنافع الشخصية المصحوبة بجيش من الخدم والحشم وفتح العلاقات المشبوهة مع تجار الديمقراطية),
فتراهم يحتضنون بعض شيوخ العشائر ويشترون أصواتهم بحقائب الدولارات(القادم بعضها من خارج الحدود),ويداهنون آخرين عبر وعود شخصية(توفير وظائف خاصة-ومنح وهدايا)حتى يكاد أن يكون العراق البلد العربي الوحيد الذي تعترف حكوماته بالسلطة الرابعة(السلطة العشائرية بدل السلطة الإعلامية),
ونرى ظهور طلبات ترضية تصدر من قبل ألأجهزة الأمنية والقضائية لحل المشاكل العشائرية أو الشخصية دون الرجوع إلى التشريعات القضائية(حاول احد الأشخاص المساكين وهو من رجال الدين رفع راية بيضاء واقفا بين الطرفين لمنع نزاع أبناء العم فجاءت رصاصات طائشة أودت بحياته-وقيل بعدها الحاجز لا يدفع له دية),تعد تلك المنزلقات الاجتماعية من اخطر معاول تهديم مؤسسات الدولة المدنية الأمنية والقضائية,
تلك التي زحفت بثقافتها الوعرة إلى حواضر المدن,ساحقة بأقدامها كل المحاولات الثقافية التنويرية الحديثة التي عرفها العراق منذ أواسط القرن الماضي(هل تشاهدون أيها السادة رقص شباب العشيرة المشوه تحت وقع أنغام التفاخر لأهازيج بعض شعارهم).
التصرفات الطبيعية(الهمجية)المتناقضة التي ظهرت كما قلنا إبان الحصار الاقتصادي الجائر بعد الانسحاب من الكويت,والمستمرة حتى مع بزوغ فجر الديمقراطية (الغائم),جاءت كما يعلم الجميع بسبب انشغال السلطات الرسمية بمشاغلها ومنافعها الخاصة,ومن هذه الأفعال والتصرفات العشائرية المتعلقة بالتعويضات المادية,حيث يمكن اعتبار بعض تلك التجاوزات العشائرية(الفصل-دفع دية التسبب بالقتل الخطأ-والتعويضات المالية عن الحوادث) خروجا عن الأعراف الإنسانية الحديثة المتمثلة بالقانون المدني العصري ,فتعدها تصرفات همجية لم تعد مقبولة في عصر العولمة (القرية الكونية),
ولهذا علق بعض المسئولين والإعلاميين الأجانب حول طريقة مقتل الرئيس الليبي المقبور ألقذافي ,بأنها جزء من الثقافة العربية-الشرقية,ولكن هناك ظروف طبيعية تبرر تلك التصرفات الشاذة.
بالنسبة لطلب أسرة-عشيرة المريض (على سبيل المثال)الذي يتوفى في المستشفى تحت العلاج(إثناء العملية الجراحية البسيطة والمتوسطة وحتى الخطرة) من الطبيب,لأسباب خارجة إن إرادته,بينما يعتقد أهل المريض(لما يروه من قلة اهتمام واضحة من قبل بعض الكوادر الصحية من ممرضين وأطباء) إن الطبيب كان مهملا وعليه إن يتحمل المسؤولية كاملة,للتقصير المفترض
في أداء واجبه تجاه مرضاه(وقد يحمل الطبيب تبعات إهمال بعض الممرضين),أو مثلا يطلب الشخص الذي تتعرض سيارته أو احد أفراد أسرته للدهس مبلغا معيننا تعويضا عن الأضرار الجسدية والمادية التي سببها الطرف الأخر,وهكذا تسير تلك المشاكل بنفس الوتيرة بعيدا عن أعين السلطات الرسمية وكأنها غير معنية بحماية المجتمع من الفوضى الاجتماعية الخاضعة لرغبات ونزوات الأشخاص المتذبذبة,
هذه المشكلات وجدت لها الحضارة الغربية حلولا,ففي الأخطاء الطبية أو حوادث السير أو الأحداث التي قد يتعرض لها المواطن إثناء ذهابه وعودته من العمل مع بقية المشاكل الاجتماعية,تخضع جميعها لتقييم اللجان(مع الاعتبار إن المواطن يثق بدولته ومؤسساتها المستقلة الغير خاضعة لأية حسابات)المشكلة لدراسة تلك المشاكل المختلفة وفقا للقوانين المشرعة لها,ومن ثم يأتي دور التعويضات التي تدفعها الدولة لأسرة أو للشخص المتضرر(علما إن الأنظمة الغربية تكون دائما إلى جانب مواطنيها عكس ثقافة الحكومات الشرقية التي تحمي موظفيها رغم تقصيرهم أحيانا),ومن هنا نقول من حق أي طبيب يخشى على نفسه من تبعات أخطاءه الطبية التي قد تحصل بالطبع دون إهمال إثناء تأدية واجبه الإنساني من الدولة إن تدفع هي التعويضات المالية لذوي المريض أو الضحية(دون العودة إلى الأعراف العشائرية),وهكذا بالنسبة لحوادث السير(حيث يفرض على سائقي السيارات في اغلب دول الخارج أن يدفع مبلغا معينا سنويا يرصد لحوادث السير التي قد تحصل لأي مواطن) الخ.
لقد عاثت الأنظمة الشمولية(وحتى الملكية)فسادا اجتماعيا من خلال ترك مجتمعاتهم بعيدة عن التنظيم والتقويم والتشريع القانوني الشامل ,لأنهم يريدون من خلال تلك الثغرات المفتوحة أن ينفذ منها أبناءهم وذويهم وأتباعهم المخالفين لقوانين حكوماتهم,فضلا عن تركهم المواطن فريسة سهلة لثقافة العادات والأعراف العشائرية السيئة,بغية إشاعة فوضى اجتماعية كبيرة تلقي بضلالها على الواقع السياسي الذي تمسك خيوطه بعض الإرادات المنتفعة من هذه المشاكل.
نحن ندعو البرلمان العراقي والمؤسسات القانونية والاقتصادية بالتعاون مع وزارة التخطيط والمالية لدعم أسلوب تطبيق نظام الضمان الوظيفي والوطني الشامل,الذي يمكن بواسطته تعطيل وإلغاء تلك الأعراف الخارجة عن التاريخ والحضارة والتمدن وحتى الأخلاق الإسلامية(تبيع الناس بيوتهم وأغراضهم من اجل دفع التعويضات العشائرية),لأجل من نبني وطننا مشحونا بالسلطات والأعراف البدائية! .