23 ديسمبر، 2024 10:47 ص

تغيرت الاسماء وطيحان الحظ واحد  

تغيرت الاسماء وطيحان الحظ واحد  

في احد برامج إذاعة لندن العربية ، سأل المذيع المستمعين عن اطول حرب في التاريخ ، والجواب الاصلي كان هو حرب المائة عام التي دارت بين انكلترا وفرنسا بين عامي 1337 و 1453 ، وقد تخللتها فترات طويلة من الهدنة والسلام بين ملوك البلدين . الكثير من مستمعي راديو لندن اجابوا بأجوبة لاعلاقة لها بالسؤال ، واطرف الاجوبة هو إن اطول حرب في التاريخ هي بين الزوجة وحماتها ، ويؤكد ذلك المثل العراقي ( لو تصالحت مرت العم والجّنة ، جان ابليس طب بالجنة ) .
نسأل الآن ماهو اقدم صراع مستمر سجله التاريخ في العراق ؟؟ ، يستطيع الكثير من الناس اعطاء اجوبة مختلفة ومتباينة ، إلا إنني سأختار صراع قبيلتي بكر وتغلب كنموذج للصراع الازلي والذي استمر منذ عهد المناذرة ولحد يومنا الحاضر ، ورغم تغير الزمن وتغير الوجوه والاسماء والالقاب ، فالأسباب الاصلية للصراع استمرت وتناسخت ولكن تحت عناوين آخرى ، مع العلم إنه في ذلك الوقت لم يكن هناك شيعة وسنة ، ولا اسلاميين وعلمانيين .
كانت قبيلة تغلب من اوائل القبائل العربية التي زحفت من شبه جزيرة العرب واستوطنت العراق ، وكان ذلك في ايام ملوك الطوائف الذين اعقبوا الاسكندر حسب قول الطبري ، وإذا دققنا رواية الطبري مع التاريخ الحديث لوجدنا إن من اعقب الاسكندر في حكم العراق هو الدولة السلوقية مابين 312 و 140 قبل الميلاد ، حتى جاءت الدولة الفرثية وازاحتهم عن العراق ، فانحصرت ممتلكات الدولة السلوقية في جنوبي الاناضول وفي بلاد الشام غربي الفرات . خلال عدة قرون من حكم السلوقيين ثم الفرثيين للعراق كانت الحروب والاضطرابات مستمرة ومتواصلة ، والدولة لاتستطيع السيطرة على اطرافها البعيدة عن المركز ، وهذا مما اتاح لبني تغلب استغلال الظروف المضطربة والزحف من نجد شمالاً نحو وسط وشمال العراق الغربي .   
لا يمكننا تحديد الموطن الاول لبني تغلب ، لكنهم كانوا قبيلة صحراوية رعوية ، فهم سيبحثون عن موطن قريب من بيئتهم الاصلية في شبه جزيرة العرب ، ويتوفر فيه العشب والماء الكافي لغنمهم وجمالهم ، ويقول القلقشندي في كتابه (نهاية الارب في معرفة انساب العرب) ، بأن موطن تغلب هو سنجار ونصبين وتسمى ديارهم بديار ربيعة ، في حين قرأت في كتاب آخر كون الاراضي الرعوية لبني تغلب تمتد نحو حوض الثرثار وشرقي الفرات ، فهم قبيلة كبيرة العدد وتعتبر المنافس الاول لبني تميم . لا نستطيع تحديد زمن استيطان بني تغلب في الجزيرة الفراتية ، إلا إنه يمكن أن يكون مابين اواخر العهد السلوقي واوائل العصر الفرثي ، والدليل إن بني تغلب لم يعبروا نهر الفرات ، والذي اصبح الحدود الشرقية للدولة السلوقية .
اصبح التغلبيون بمرور الزمن عراقيون قلباً وقالباً ويجيدون تطيير الافيال ، فهذا شيخهم عمرو بن كلثوم يقول في معلقته المشهورة ( ملئنا البر حتى ضاق عنا ـــ وماء البحر نملأه سفينا ) ، صحيح إن عدد نفوس التغلبيين كان كبيراً ، إلا إن بني تغلب كانت قبيلة برية وليس لديهم لديهم زوارق يصطادون بها الاسماك أو يعبرون بها نهر الفرات ، فكيف سيملأون البحر بسفنهم المزعومة . أما البيت الاخير من المعلقة فيقول (إذا بلغ الصبي لنا فطاماً ـــ تخر له الجبابر ساجدينا) ، وايباخ البامية شكد تنفخ ، لكن هذان البيتان دليل واضح على عراقية الرجل وكلاواته .
قبل الاسلام بأقل من قرن ، حصلت مشاكل وحروب بين بني تغلب وبين اولاد عمهم بكر بن وائل ، أما السبب فهو الصراع على الماء والكلأ ، فعشيرة بكر بن وائل يأتون بأغنامهم وجمالهم من منطقة الاحساء وجنوب العراق ، ويصعدون صيفاً نحو وسط العراق وحوض الثرثار ، فيتشاجر التغلبيون معهم حول الاحقية والافضلية في استغلال المراعي ، فهم يعتبرون البكريون غرباء ومهاجرون وليسوا من ولد الملحة ، ولأن اراضي بني تغلب تقع ضمن نفوذ دولة المناذرة ، فقد تدخل الملك النعمان بن المنذر لفض الصراعات والاشتباكات السنوية بين الطرفين وتحديد مراعي كل طرف .
ننتقل الآن من السابق الى اللاحق ونسأل ماهي الجاهلية وماهو العصر الجاهلي ؟؟ ، يقول الدكتور جواد علي في كتابه (المفصل في تاريخ العرب قبل الاسلام) ، بأن كلمة الجاهلية نجدها في بيت شعر قاله شيخ بني تغلب كذلك في معلقته ( ألا لايجهلن احدٌ علينا ـــ فنجهلُ فوق جهل الجاهلينا ) ، ومعنى البيت إن من يشتمنا نشتمه ، ومن يغلط علينا نضاعف له الغلط والسب بحقه ونلعن سنسفيل اجداده ، ومن يتهمنا بالطائفية نتهمه إنه صدامي ونهدده بتطبيق قانون الارهاب الفقرة الرابعة بحقه .
ياسادة نحن ما زلنا لحد اليوم نعيش في العصر الجاهلي ، ومازال السباب والشتائم منتشرين بيننا ، ومازالت تغلب وبكر تتقاتلان على الكلأ والماء ، وكل قبيلة تريد تعيين اكبر عدد من غنمها وجمالها في وظائف الدولة ودوائرها الرسمية ، والمشكلة لا يوجد بيننا النعمان بن المنذر صاحب النفوذ والسلطة القوية لنحتكم اليه في خلافاتنا الازلية المستمرة ، ومازال العراق ساحة صراع مفتوحة بين الغساسنة والمناذرة ، وهذا يدافع عن مصالح الفرس وذاك يدافع عن مصالح الروم ، فمتى ندافع عن مصلحة العراق والعراقيين إذا كنا نتقاتل يومياً على الماء والكلأ .