عشية الانسحاب الأميركي من العراق ارتفعت نبرة الحديث عن الدستور على نحو لم يسبق له مثيل، وبرّر الفرقاء جميعاً الخطوات التي اتخذوها بالاستناد إلى الدستور، فالحكومة قالت إن الاعتقالات التي قامت بها ومذكرات إلقاء القبض بحق بعض شركائها، بما فيها التي طالت نائب رئيس الجمهورية طارق الهاشمي إنما تمت وفقاً للدستور وللاختصاصات الممنوحة بموجبه، كما ورد في إجابات رئيس الوزراء العراقي نوري المالكي في مقابلته مع محطة السومرية الفضائية، ودعاة تشكيل الأقاليم ومن يؤيدونهم أو يبررون توجههم قالوا إن هذا التوجّه ينسجم مع الدستور، سواءً كان الحديث عن إقليم للسنة بسبب التهميش، وهو ما جاء على لسان رئيس البرلمان العراقي أسامة النجيفي، أو طلب مجلس محافظة صلاح الدين التحوّل إلى إقليم، رغبة في التخلّص من هيمنة بعض إجراءات الحكومة الاتحادية (المركزية)، لا سيما بعد عزل 146 أستاذاً وموظفاً جامعياً من جامعة صلاح الدين من قبل وزارة التعليم العالي، التي بررت ذلك بشمولهم بقانون اجتثاث البعث «المساءلة والعدالة». وهكذا كان توجّه مجلس محافظة الأنبار بعد ميوعة موقف الحكومة الاتحادية من محاولة اعتقال المرتكبين بحوادث النخيب بطريقة أقرب إلى الاختطاف، حيث تم نقلهم إلى كربلاء وتردّد ما لحق بهم من إهانات وتجاوز خارج القانون، وأخيراً ما نقلته الأنباء عن حصار محافظة ديالى بسبب إقدام مجلسها على التقدم للتحوّل إلى إقليم.
الغريب في الأمر، أن المؤيدين والرافضين لفكرة الفيدرالية والأقاليم المستقلة يتشبثون بالدستور، ولعل ذلك واحدة من إفرازات الوضع الجديد في العراق بعد الاحتلال، وبعد سن دستور دائم، فقد كانت الدساتير الجمهورية جميعها مؤقتة، ولم يعرف العراقيون في تاريخ دولتهم المعاصر جدلاً دستورياً مثلما عرفوه ما بعد عام 2003. ربّما يعود الأمر في جزء منه إلى انتشار الثقافة الدستورية وإلى التعويض عن غياب دستور دائم وممارسة لحق مفقود منذ «ثورة» 14 تموز (يوليو) عام 1958، حين كرّت الدساتير المؤقتة كل بضعة أعوام، أو بعد كل انقلاب عسكري، حيث صدر الدستور المؤقت الأول في 27 تموز (يوليو) عام 1958 وحكم البلاد لغاية 8 شباط (فبراير) 1963، واستبدل هذا الدستور بقانون المجلس الوطني « الدستور المؤقت الثاني» الذي صدر عقب الانقلاب البعثي الأول الذي أطاح بحكومة الجنرال « الزعيم» عبد الكريم قاسم.
أما الدستور المؤقت الثالث فقد صدر عقب انقلاب 18 تشرين الثاني (نوفمبر) 1963 الذي كرّس عبد السلام عارف رئيساً للجمهورية بدستور صدر عام 1964. وإثر انقلاب 17 تموز (يوليو) 1968 ومجيء حزب البعث ثانية إلى السلطة، صدر الدستور المؤقت الرابع في أيلول (سبتمبر) 1968، واستبدل هذا الأخير بدستور مؤقت خامس صدر في تموز (يوليو) عام 1970 واستمرّ لغاية عام 2003 أي نحو 33 عاماً. ومن المفارقة أن تكون فترة الدستور المؤقت الخامس الذي حكم العراق ثلاثة وثلاثين عاماً، مساوية للفترة التي حكم بها الدستور الدائم الأول الذي شرّع عام 1925 بإشراف بريطانيا، وهو أول دستور للدولة العراقية المعاصرة بعد تأسيسها في 23 آب (أغسطس) 1921، والذي أُبطل عام 1958.
وإذا كان العهد الملكي على الرغم من جميع عيوبه ومثالبه قد اتّسم بوجود دستور دائم واستقرار نسبي، فقد شهد العهد الجمهوري دساتير مؤقتة وانقلابات عسكرية قطعت خط التطور التدريجي، إلى أن وقعت البلاد تحت الاحتلال وأطيح بنظام صدام حسين الشمولي الاستبدادي، بعد حروب لا مبرر لها، دامت نحو ربع قرن، وحصار دولي جائر استمر نحو 13 عاماً، حيث تم سنّ قانون إدارة الدولة للمرحلة الانتقالية في عام 2004.
ولأن «العراقيين» لم يصوغوا دستورهم في الماضي، حيث كانت الدساتير أقرب إلى منحة أو تصدر عن جهة فوقية، فإن نقاشاتهم وحواراتهم بدت أكثر سخونة وحدّة خلال الأعوام الأخيرة، فالدستور الأول الدائم «القانون الأساسي»، وضعت مسودته الأولى وزارة المستعمرات البريطانية، أما الدساتير الجمهورية الخمسة فكلّها صدرت بمعزل عن الشعب، ولم تتم مناقشتها من قبله، بل كانت «هيئات مصغرة» تصوغها وتصدرها الجهة التنفيذية وهي «مجلس قيادة الثورة» في الغالب، الذي كان يعطي لنفسه الحق للنطق باسم الشعب باعتباره قائد الثورة وصاحب الشرعية.
ولم يشذ قانون إدارة الدولة للمرحلة الانتقالية الذي صدر عن مجلس الحكم الانتقالي الذي شكّله بول بريمر الحاكم المدني الأميركي في العراق في 8 آذار (مارس) 2004 عن هذه القاعدة، على الرغم من تشكيل لجنة دستورية وإجراء اتصالات أولية، لكنها عجزت عن مواصلة عملها حتى صدر الدستور بتكليفات خاصة، علماً أن بعض المسوّدات الأولية كانت قد وضعت في واشنطن وتم تداولها قبيل وبعد احتلال العراق، وقيل إن نوح فيلدمان اليهودي الأميركي المتعاطف مع إسرائيل هو من وضع النصوص الأولى.
وكان قانون إدارة الدولة للمرحلة الانتقالية بروفة أولية للدستور العراقي الدائم، ونقلت الكثير من أسسه ونصوصه ومواده إليه، على الرغم من تشكيل لجنة موسعة لإعداده، لكنه حتى عندما عُرض على الاستفتاء العام، لم يكن الشعب قد اطلع عليه ولم تتم مناقشته في وسائل الاعلام وفي الأوساط الأكاديمية والثقافية على نحو مسبق، وقد واجهته مشكلات عديدة وهي المتعلقة بشكل نظام الحكم والدولة الاتحادية المركبة والعلاقة بين الإسلام والدولة وموضوع الفيدرالية ومشكلة كركوك، ناهيكم عن باب الحريات والحقوق الذي يعتبر متقدماً على جميع الدساتير التي سبقته.
لعل قانون إدارة الدولة هو الذي وضع أسس الدولة العراقية الجديدة الاتحادية كما حددتها المادة الرابعة، حين نصّت «نظام الحكم في العراق جمهوري اتحادي «فيدارلي» ديموقراطي، تعددي، ويجري تقاسم السلطات فيه بين الحكومة الاتحادية والحكومات الأقلية والمحافظات والبلديات والإدارات المحلية. ويقوم النظام الاتحادي على أساس الحقائق الجغرافية والتاريخية والفصل بين السلطات».
وهكذا تحوّلت الدولة العراقية من دولة بسيطة، لا سيما بعد استقلالها ودخولها عصبة الأمم عام 1932، إلى دولة مركبة «اتحادية» جديدة. وقد بُني على أساسها قانون إدارة الدولة والدستور الدائم الذي تم إقراره في 15 آب (أغسطس) 2005 وجرى الاستفتاء عليه يوم 15 تشرين الأول (اكتوبر) من العام نفسه، وتمت الانتخابات النيابية بموجبه في 15 كانون الأول (ديسمبر) من العام ذاته.
أصبح للعراق دستور دائم بعد سبعة وأربعين عاماً من الدساتير المؤقتة وإنْ اختلفت وتعارضت وجهات النظر بشأنه، لكنه على الرغم من جميع مساوئه، وهي كثيرة، وكل مثالبة، وهي ليست قليلة، وكامل ألغامه وقنابله الموقوتة وغير الموقوتة وهي متشعبة، بل ومعقدة، الاّ أنه احتوى على بعض الإيجابيات التي تتعلق بالحقوق والحريات وقواعد الديموقراطية والمواطنة وفصل السلطات واستقلالية القضاء واختيار الحكّام في إطار التداولية والتعددية، وسيكون من الصعب تجاوز هذه النصوص، حتى وإن تم تعديل الدستور أو إلغاؤه أو استبدال بعض مواده وفقراته، لأنها عكست تطوراً بخصوص حرية التعبير وحق تشكيل الأحزاب والجمعيات وحق المشاركة وغيرها.
لكن الكثير من القضايا العقدية في الدستور ظلّت عالقة أو محلّ خلاف، انفجر لاحقاً، مثل حدود الفيدرالية وسقفها، وموضوع حق ثلاث محافظات في إبطال أي تعديل دستوري، وقضية الأقاليم من غير إقليم كردستان، وهي التي تم إقرارها لاحقاً، لكنه تم تأجيل تطبيقها إلى 18 شهراً، وبعد ذلك طواها النسيان (حتى جاء رجع صداها عشية الانسحاب الأميركي من العراق)، وقضية كركوك والاختلاف بشأن المادة 140 التي جاءت مرحّلة من المادة 58 من قانون إدارة الدولة للمرحلة الانتقالية، وتوزيع الثروة والمياه ومشكلة الموارد الطبيعية، لا سيما النفط والغاز، على الرغم مما ورد في نص المادة 111 من أنهما «ملك الشعب العراقي في كل الأقاليم والمحافظات»، لكن نصوصاً وتفسيرات تعويمية أخرى أعطت للأقاليم حق التصرف في الحقول غير المستخرجة بالاتفاق مع السلطة الاتحادية (الفيدرالية)، الأمر الذي أثار التباسات بين إقليم كردستان وبغداد، خصوصاً بعد رفض السلطات الاتحادية العقود التي وقعتها حكومة الاقليم مع الشركات النفطية، وهكذا نشبت أزمة بين بغداد وإربيل لا تزال مستمرة.
وكان يفترض أن يتم تعديل الدستور، بناءً على اتفاق بين القوى السياسية عشية الاستفتاء عليه، باعتباره شرطاً لبعض القوى التي كانت ممانعة للتصويت عليه بالصيغة المعتمدة، لا سيما جبهة التوافق في حينها، وحُدّدت فترة 4 أشهر بعد افتتاح جلسات البرلمان بعد الانتخابات عام 2005 لإنجازها، وشكّلت لجنة لهذا الغرض، لكنها وصلت إلى طريق مسدود، وقد انتهت الدورة الانتخابية الأولى المحددة بأربع سنوات، وزاد عليها ما يقارب عامين، منذ انتخابات آذار (مارس) 2010 ولحد الآن، ولم يتم إجراء التعديلات المذكورة، فلا القوى التي وعدت بتنفيذ ذلك استجابت، ولا القوى التي أصرّت على إجراء التعديلات واصلت ذلك أو طالبت به.
وإذا كان تعديل الدستور الدائم غير سالك أو مجمّد، فإن نحو 50 مادة من مواده نصّت على صدور قانون لتكون صالحة للاستعمال، الاّ أن هذه القوانين لم يتم تشريعها من جانب البرلمان، وهكذا، فإن هذه المواد لا تزال غير نافذة هي الأخرى، وهو أمر يحتاج إلى أكثر من دورة برلمانية اعتيادية لكي يتم إنجازها، قياساً لما هو عليه وضع البرلمان وعلاقة القوى السياسية بعضها ببعضها الآخر، ناهيكم عن الوضع الأمني للبلاد بشكل عام، ولا سيما بعد نشوب الأزمة بين القائمة العراقية وكتلة دولة القانون، التي تحوّلت من أزمة سياسية إلى مشلكة جنائية، صاحبها تصعيد وتوتر أخذ يهدد العملية السياسية برمتها على الرغم من محاولات الاحتواء وعقد مؤتمر وطني عام ، الأمر الذي يقترب من استعصاء أو استحالة تطبيق الدستور أو الاحتكام إليه بسبب جوانب عملية وأخرى فنية وبالأساس تعقيدات سياسية، لا سيما في ظل التمترس الطائفي والمذهبي واستمرار ظاهرة العنف والارهاب واستشراء الفساد المالي والاداري، على الرغم من تشبث «الجميع» بالدستور!.
أما بصدد الديموقراطية والحريات، وهما مسألتان إيجابيتان وردتا في الدستور، فهناك تضادّات تقف بوجههما وتحدّ من امتداداتهما، لا سيما في علاقة الدين بالدولة، حين نصّ الدستور في المادة الثانية على أن «الإسلام دين الدولة الرسمي، وهو مصدر أساس للتشريع»، وفي الفقرة «أ» «لا يجوز سن قانون يتعارض مع ثوابت أحكام الإسلام» وتلك هي أيضاً قضية إشكالية، لا سيما بتداخلها مع اجتهادات وآراء المفسرين والمؤولين الذين يسعون لتوظيفها سياسياً ومذهبياً أحياناً، وهي واحدة من إفرازات الوضع العراقي بعد الاحتلال، ويقابل هذه النصوص، نصوص أخرى خاصة بالديموقراطية والحريات حيث أكدت المادة الثانية نفسها الفقرة «ب» من الدستور على أنه: «لا يجوز سنّ قانون يتعارض مع مبادئ الديموقراطية» والفقرة «ج» التي نصّت على: «لا يجوز سنّ قانون يتعارض مع الحقوق والحريات الأساسية الواردة في هذا الدستور».
وإذا كان غالباً ما يقال العبرة بالتطبيق، فإن مثل هذا الأمر ينطبق إلى حدود كبيرة على الدستور العراقي، الذي ظلّ معوّماً، سواءً بتبرير أو تعليق كل شيء على ما يسمى بالتوافق أو الديموقراطية التوافقية التي يستعاض بها أحياناً عن نتائج الانتخابات وتتحول ملفات جنائية واتهامات بالفساد الى قضية مساومة باسم التوافقية، فاقتراح تشكيل مجلس السياسات الستراتيجية العليا مثلاً لم يكن دستورياً وبقاء الدستور من دون تعديل غير دستوري وإبقاء نحو ثلث مواده من دون إصدار قوانين ملحقة بنحو 50 مادة كما ورد في أصل نصوص تلك المواد، غير دستوري أيضاً، ولعل تبرير فكرة إنشاء الأقاليم أو تبرير رفضها سياسياً وليس دستورياً، الأمر الذي أصبح فيه الدستور شمّاعة يعلّق عليها الجميع حججه، على الرغم من أنه دستور معوّمٌ!
[email protected]