حقا أن من عانى في سنوات القهر والتعسف يستحق أن يحيا حياة كريمة في أن يعوض ما خسر قدر الإمكان، إذ ليس كل ما فقد وخسرناه يمكن تعويضه، فلا يمكن تعويض من ذهبوا غدرا، كما لا يمكن تعويض من ذهبت كرامتهم وانتهكت أعراضهم. إنما هي محاولات للمواساة .
أخذ التعويض أشكال عديدة لذوي الشهداء وغيرهم من المنكوبين في منحهم من قبل المؤسسات المهتمة مشكورة مبالغ مادية أو رواتب تقاعدية، هذا فضلاً عن الأوسمة بتسميات كثيرة مهمة وغيرها كنوع من التقدير المعنوي..المهم أن كثير منهم قد ناله من التقدير والتعويض نصيبا ولو بأقله، مع أن الكثيرين لم يأتي أحد على ذكرهم وتفقدهم من المتضررين إبان النظام السابق ولا المتضررين في يومنا هذا، وهم في تزايد مع استمرار التفجيرات الإجرامية، وما تتركه من مآس في قتل الأبرياء. لقد ازداد عدد الشهداء وعدد الأيتام والأرامل، والآباء والأمهات المنكوبين وغيرهم ممن نالتهم العواقب والتبعات، ناهيك عن تفاقم الفقر والمرض، وازدياد أعداد المتسولين من ذوي الحاجة والفاقة، وغيرهم أولئك الذين خسروا سنين عمرهم وشبابهم بالجري وراء التعيينات!.. فإن تحدثنا عن التعويض لكل هؤلاء ولا بد أن يكون، وما ينجم عن ذلك كله مستقبلاً، فلن يكون هنالك تعويضا مناسبا.
إن التعويض لكل هؤلاء بأقل تقدير يعني إشعار المتضرر بقيمة ما قدمه من تضحيات، ذلك من خلال المواساة بتعظيم حجم التضحية وأهميتها. وما كلمات الإشادة أو المنحة المالية إلا شكل من أشكال التقدير المعنوي..إلا أنه يأخذ منحى آخر عندما لا تكون هناك ضوابط تحميه من الوصوليين والمستغلين، فيفقد حينها معناه. هناك من يدعون التضرر ومن يدعون القرابة لمن ضحى، فبعض من المتضررين قد قضوا ورحلوا عن الحياة بعد رحيل الضحايا من الشهداء والسجناء.. وبنفس الوقت، فهناك من لا شأن لهم بالتضحية لا من قريب ولا من بعيد، ومنهم لا يدري متى حصلت ولماذا. لقد صار التعويض لأمثال هؤلاء يثير الحفيظة.
الأهم من ذلك كله، لقد عُمد إلى نهج غريب في تعويض المتضررين أو مدعي التضرر أخذ أشكالاً من التعدي على حقوق الآخرين، كما شوه معناه الحقيقي، وأبعده عن المغزى، على سبيل المثال، من خلال التعيين دون شرط في دوائر ومؤسسات الدولة، فاليوم تمتلء مؤسسات الدولة بكثير ممن عينوا بلا كفاءة، أو ممن أعيدوا للتعيين بعد أن استقالوا بإرادتهم في ذلك العهد، فأصبحوا عالة على دوائر الدولة. فإن كان للبعض الحق في إعادته للوظيفة، فمنهم من شاخ وهرم وما عاد يقوى على العمل، وأحرى به التقاعد ليستريح معززاً مكرما بعد أن أضنته متاعب الحياة وأهوال ما عانى. إنما ما الغاية من أن يتعين متضرر أو مدعي التضرر في عمل وظيفي لم يمارسه مسبقا وليس لديه الكفاءة المناسبة ليمارسه، وأين الحق في توليه مناصب قيادية لا طاقة له بمسؤولياته ولا دراية له فيها. أغلب ذلك تحت تسمية التعويض. فهل يعد التعويض بهذه الطريقة سليماً، ومن وماذا سيخدم، بل أن الضرر سيكون كبيرا على جميع الأطراف إذ ينتفي العمل بمبدأ وضع الشخص المناسب في المكان المناسب على وفق الكفاءة، كما ويساهم هذا الإجراء في زيادة التزاحم والبطالة المقنعة في جميع دوائر الدولة، وكثرة التناحر والتباغض بين منتسبي الدوائر بمختلفها، وتضرر أعداد كبيرة من الشباب الذين هم بحاجة ماسة للعمل وهم بقوتهم وحماسهم. وبالتالي لا يمكن أن يكون التعويض بهذه الطريقة وما يماثلها منهجا سليماً، بل سيكون على حساب آخرين ممن يستحقون. إن من تضرروا ويتضررون إلى يومنا هذا يستحقون كل الاهتمام بما يليق، ومؤكد أن ما يهم بحق وقبل كل شيء، وقبل أي شكل من أشكال التعويض هو الفكرة التي تكمن وراءه بما يتناسب وحجم التضحية والضرر. إن أردنا أن يأخذ كل ذي حق حقه، فلا بد أن يكون على أساس معيار عادل، وإن أردنا تعويض من نكبوا فبالعمل بمبدأ ( لا ضرر ولا ضرار)، ولا بد من الحفاظ على الفكرة والمغزى. إن ما يثير الحفيظة والاستنكار أكثر، اجتهاد أولئك الذين شرعوا لأنفسهم ما لا حق لهم فيه في كل الأحوال في تقاضيهم تلك الرواتب، بل الثروات المهولة، وتشريعهم مؤخراً لقانون التقاعد الذي يسمح لهم أخذ مال الشعب وإلى الأبد، وبعد أن غرفوا ما يكفيهم وأبناءهم وأحفادهم وأحفاد أحفادهم بذريعة أنهم كانوا من المتضررين!؟؟؟. لقد عمد الوصوليون مما لا علاقة لهم بالتضحيات إلى استغلال فرصة العمل بالتعويض غير المدروس، بل المنكر، فأطاحوا بالفكرة برمتها. فـألا من ينقذ ثروات الشعب، و ألا من ينقذ الفكرة.