18 ديسمبر، 2024 8:51 م

تعمير مدينة بغداد بين مسقط ومراكش

تعمير مدينة بغداد بين مسقط ومراكش

أطلعت مؤخراً على مخطط (مخيف) تقوم به محافظة بغداد (لأعمار) المنطقة الواقعة غرب شارع الرشيد الى نهر دجلة. ومن الأطلاع على مخطط هذا الأصلاح الهائل نرى أن المحافظة تريد بناء شوارع عريضة جداً مع ساحات واسعة ونصف أقواس من النصب السمجة مع جعل شارع الرشيد ممر واحد للسيارات. ولكن أين هي بغداد التاريخية من كل هذا الاعمار؟ أين هو سوق السراي وأين هي أسواق الأقمشة التقليدية بأزقتها المتشعبة واين هو سوق الصفافير وسوق الصاغة والذهب؟
 الأعمار لا يعني بالضرورة تهديم القديم وبناء شيء جديد محله. فالأعمار يعني أحياناً أيضاً إبقاء القديم وترميمه والعناية به وهي يعني الحفاظ على تراث الماضي كذلك وعدم المساس به والعناية به وبناء شبكة جديدة للصرف الصحي في أسواقه ومحلاته العامة. كانت بغداد وأسواقها قبلة العالم في فترة ما من العصر العباسي حيث كانت بغداد أكبر مدينة في العالم بل المدينة الوحيدة في العالم التي يربو عدد سكانها على المليون نسمة. وكانت أسواقها مليئة بالحياة والبضاعة من الأركان الأربعة للمعمورة. وهي كلها اليوم قابلة للأصلاح والتحديث والترميم. وكانت لدى مدينة الدوحة في قطر وأسواقها في قلب المدينة تعاني مشكلة تشابه مشكلة أسواق بغداد ولكن حكومة قطر عوضاً عن تهديمها وبناء مجمعات أسواق حديثة عوضاً عنها (قامت بالأشراف على تنظيفها والعناية بها وصبغ دكاكينها باللون الأبيض ووضع أرقام لكل الدكاكين، كما وبنت الحكومة مقاهي شعبية فيها وقامت بوضع بعض النساء القطريات ممن يبعن الأكلات الشعبية عند تقاطع الشوارع الضيقة للأسواق بحيث أصبحت هذه الأسواق في النهاية قبلة أنظار القطريين وحتى الاجانب حيث يقوم زوّار الدولة بزيارتها والجلوس في مقاهيها حيث يشعر السائح الأجنبي بأنه يجلس في قلب مدينة شرقية ويتمتع بجوها المميز عن الجو الغربي الذي أعتاد عليه. ومن الناحية الأخرى قامت بلدية قطر بزرع عدد من رجال الشرطة بزيهم التقليدي الجميل عند تقاطع الشوارع في منطقة قلب الأسواق التقليدية (سوق واقف). وكل زائر يزور مدينة مسقط عاصمة سلطنة عمان يرجع مبهوراً بتناسق شوارعها وتناسق الطراز التقليدي للدور والساحة النظيفة والمحافظة على طراز الدور ا لموحد وهو طراز دور جنوب اليمن والجزيرة العربية.
أما مدينة مراكش المغربية فقد أصبحت أزقتها التقليدية الضيقة القديمة والساحة الواسعة المطلة عليها وهي ساحة وجامع الفنا قبلة أنظار كل زائر يزور المغرب وهم يعدون بالملايين القادمين من جميع أنحاء العالم. فأزقة مدينة مراكش الواقعة في قلب المدينة لا تزال تحافظ على طابعها التقليدي والدكاكين الصغيرة للباعة ومحلات بيع السجاد والمدارس التقليدية التي تدرس العلوم الأسلامية وحتى بعض المطاعم الصغيرة التي لا تتسع لأكثر من طاولة أو طاولتين بالأضافة الى ترميم بعض الدور الكبيرة الموجودة فيها وجعلها فنادق صغيرة مبنية على الطراز المغربي الجميل وهذه الفنادق تسمى بـ (الرياض) ويسكنها  السواح الأجانب المبهورين بسحر الطابع الشرقي المغربي هذه الاحياء التراثية القديمة وعدد غرفها اعتيادياً هو بين أربعة الى عشرة غرف نوم.
لقد عمد معول التهديم بأسم إعادة الأعمار بالطرق الحديثة معوله على هدم أجزاء من بغداد تعود لمئات السنين ولربما للعصر العباسي وكانت فكرة تهديم مئات الدور القديمة لبناء شارع الجمهورية غلطة أخرى طمست أثار أجزاء هامة من بغداد التاريخية قام على أنقاضها شارع الجمهورية الذي لا يوجد أي تناسق وطراز فيه شيء من التوحيد لعماراته التي لا تعطي للمدينة طابعاً مميزاً بحيث أصبحت مدينة لا هي بالشرقية ولا هي بالغربية الطراز. لنحافظ أذن على البقية الباقية من بغداد التاريخية ولنحاول أحياؤها وتعميرها عوضاً عن تهديمها. وأذا كانت هناك حاجة لشق طرق مواصلات جديدة داخل المدينة فالواجب يدعو الى شقهّا بشكل متناسب للغاية مع الأخذ بنظر الاعتبار التجانس في الأبنية الواقعة على طرفي الشوارع المزمع شقهّا. أما الحديث عن حل أزمة المرور الخانقة في بغداد فهو حديث أخرويحتاج الى مقال بحد ذاته. وهنا تلعب فكرة إيجاد نوعيات بديلة من طرق المواصلات مثل قطارات الانفاق والسكك الحديدية عملها للمساعدة في حل أزمة المرور أسوة في عواصم الدول المتقدمة في العالم. ويا ليت لو عاد شرطي المرور التقليدي وهيبته الذي تميزت به بغداد قبل ثورة 1958. وهو الشرطي الذي عرف ببزته البيضاء وخوذته المسننة الجميلة. وعندما قام الأمبراطور نابليون الثالث بأعادة أعمار مدينة باريس عاصمة فرنسا طلب من المهندس المعماري الشهير (هوسمان) بتصميم باريس على نسق واحد والحفاظ على طراز مميز بحيث أصبحت باريس تبهر الأنظار اليوم بتناسق أبنيتها وشوارعها. ولا أدري لماذا لا نحاول في بغداد أن نعمر قلب بغداد مع المحافظة على تراث المدينة التاريخية التي أحتفل في اليوم السابع عشر من شهر تشرين الثاني (نوفمبر 2012) بمرور 1250 عام على تأسيسها من قبل الخليفة العباسي أبو جعفر المنصور الذي خط منذ أكثر من عشرة قرون على رقعة من جلد الغزال مدينة بغداد لتكون عاصمة الخلافة التي أمتد حكمها في بلاد الأندلس وفرنسا غرباً وطولاً الى الصين والهند شرقاً.